(الصفحة 295)
ويرد عليه ـ مضافاً إلى النقض بدفع المضرّة ; فإنّ المال قد يؤخذ من يد السارق مثلا ، وقد يؤخذ من مكان يجري فيه احتمال السّرقة بعداً ، والفرض الثاني مماثل للأمثلة المذكورة في جلب المنفعة ـ : أنّ الإثبات بقصد الإحسان المتأخّر نفسه إحسان ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه هل يعتبر في مفهوم الإحسان مجرّد القصد إليه واعتقاد كون عمله إحساناً وإن لم يكن في الواقع كذلك ، أو يعتبر الواقع ; بأن يكون العمل بحسب الواقع دفع مضرّة ومنعها ، أو يعتبر الأمران معاً ، فلا يتحقّق الإحسان إلاّ بعد كونه بحسب الواقع كذلك ، وكان اعتقاده مطابقاً للواقع ، فلو سقى الدابّة بلحاظ كونها عطشى وكانت في الواقع كذلك ، يكون هذا السقي متّصفاً بالإحسان ، فلو تلفت الدّابة في حال السقي مثلا لا يكون على الساقي المحسن ضمان ، وهذا بخلاف ما لو اختلّ أحد الأمرين من الاعتقاد والواقع؟ وجوه واحتمالات .
يظهر ثالثها من صاحب العناوين(1) ، وثانيها من المحقق البجنوردي ، وقد استدلّ الأخير بأنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم التي اُخذت موضوعاً للحكم الشرعي هو واقعها والمعنى الحقيقي لها ، ولا شك في أنّ العرف لا يفهم من لفظ الإحسان غير ما هو المعنى الحقيقي له(2) .
أقول : لا خفاء في كون الظاهر من العناوين هو المعنى الحقيقي لها ، إنّما البحث في ذلك المعنى الحقيقي ، وأنّه هل يعتبر فيه القصد والاعتقاد كالعناوين القصدية التي تكون معانيها الحقيقية متقوّمة بالقصد ، أو يعتبر فيه واقع دفع المضرّة ومنعها وإن لم يكن مقصوداً بل ولا معتقداً به بوجه ، أو يعتبر فيه كلا الأمرين؟ هذا ، والظاهر بحسب نظر العرف هو الأخير ، أمّا اعتبار مصادفة الواقع فلا شبهة فيه ، غاية الأمر
- (1) العناوين : 2 / 477 ـ 478 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 4 / 12 .
(الصفحة 296)
أنّه مع عدم المصادفة ربما يكون معذوراً ، ولا يعدّ محسناً .
وأمّا اعتبار القصد فالظاهر أنّه أيضاً كذلك ; لأنّ العرف لا يرى غير القاصد للإحسان ، بل القاصد للإساءة محسناً بمجرّد مصادفة الواقع ، فلو كان السقي في المثال المذكور دفع مضرّة بحسب الواقع وإساءة بحسب القصد والاعتقاد ، هل يكون السّاقي عند العرف محسناً؟ الظاهر لا ; فالعرف يرى اعتبار كلا الأمرين ، ولا يكتفي بوجود واحد منهما ، كما لا يخفى .
الجهة الثانية : في بيان المراد من مجموع الجملة الواقعة في الآية .
فنقول : الظاهر أنّ هذه الآية كآية نفي السبيل للكافرين على المؤمنين(1) واقعة في مقام الإنشاء ، وحاكية عن عدم جعل السبيل على المحسن في الشريعة وإن كانت خالية عن لفظ الجعل ، بخلاف آية نفي السبيل ، إلاّ أنّ الظاهر اشتراك الآيتين وكون كليهما حاكيتين عن عدم جعل السبيل في الشريعة ، وكون مورد الآية في المقام هو العذاب الاُخروي كما تقدّم(2) لا يقتضي أن تكون الآية في مقام الإخبار ; فإنّ نفي العذاب الاُخروي عن المذكورين في الآية الاُولى والآية الثانية مرجعه إلى عدم ثبوت التكليف بالجهاد والشركة في الحرب بالإضافة إليهم ، فمعنى نفي السبيل خروجهم عن دائرة التكليف بالجهاد .
ولذا سأل ابن اُمّ مكتوم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه هل كان لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فمعنى نفي السبيل ثبوت الرّخصة والخروج عن دائرة التكليف ، ولأجله تكون هذه الآية حاكمة على الأدلّة الأوليّة الظاهرة في ثبوت التكليف بالجهاد ، أو التكاليف الاُخر والأحكام الوضعيّة كالضمان ونحوه ، ودالّة على عدم كون مفاد الأدلّة الأوّلية شاملا للمحسن وإن كان بحسب الدلالة اللفظية عامّاً ، فلا مجال
- (1) سورة النساء 4 : 141 .
(2) في ص 290 .
(الصفحة 297)
للإشكال في مفاد الآية من هذه الجهة .
وأمّا كلمة «المحسنين» فهي جمع محلّى باللاّم مفيدة للعموم ، أي جميع أفراد المحسنين ومصاديقهم ، كما أنّ «السبيل» نكرة واقعة في سياق النّفي ، وهي أيضاً تفيد العموم ، وليس السلب الذي تفيده الآية سلب العموم غير المنافي للإثبات الجزئي ، بل عموم السلب الذي لا يجتمع مع الموجبة الجزئيّة ، ومرجعه إلى انتفاء كلّ فرد أو نوع من أفراد السبيل أو أنواعه عن كلّ فرد من أفراد المحسن ، فالإحسان وطبيعته لا يلائم مع السبيل وطبيعته بوجه ، وهذا هو المتفاهم العرفي من مثل تعبير الآية ، لا سلب العموم الذي لا يصلح للاستدلال به ولو في مورد ، بل عموم السلب ، وهو صالح للاستدلال به في جميع الموارد ; لكونه بمنزلة كبرى كليّة وقاعدة عامّة .
ثمّ إنّه فرق بين هذه الآية وبين آية نفي السبيل ، من جهة أنّ مقتضى تلك الآية كما ذكرنا في معناها(1) عدم ثبوت السبيل للكافر على المؤمن من ناحية الشرع ، وأمّا لو فتح المسلم سبيلا له عليه ، كما إذا أتلف ماله المحترم ، فضمانه ثابت عليه ، ولا ينافي الآية بوجه ، والسرّ فيه أنّ نفي السبيل وقع بلسان نفي جعل الله إيّاه ، وهو الظاهر فيما هو من جانب الشرع ابتداءً . وأمّا هذه الآية فلسانها نفي ثبوت السبيل مطلقاً ، وهو ينافي الضمان في المورد المزبور ومثله ، فتدبّر .
ثمّ إنّ تعليق الحكم على الإحسان ظاهر في ارتباط نفي السبيل بحيثية الإحسان ، فمرجعه إلى عدم ثبوت السبيل من ناحية الإحسان ، وفي مورده المرتبط به ، وأمّا السبيل بلحاظ عنوان آخر موجب للضمان ، فلا مانع منه ، وإن كان مقروناً بالإحسان ، فلو أتلف الودعي الوديعة اختياراً وعمداً يكون ضامناً لها ; لارتباط الضمان بما هو خارج عن الإحسان ، وداخل في عنوان آخر ، فلا منافاة بين الأمرين .
(الصفحة 298)
الموقف الثالث : في موارد تطبيق هذه القاعدة . فنقول : تارة : تلاحظ القاعدة بالنسبة إلى الإحسان بمعنى دفع الضرر ومنعه عن الغير ، واُخرى : بالإضافة إلى الإحسان بمعنى جلب المنفعة وإيصالها إلى الغير على تقدير كونه إحساناً .
أمّا الأوّل : فموارده كثيرة ، مثل ما إذا رأى اشتعال النّار في لباس إنسان وتوقّف طريق حفظه عن الهلاك أو الإحتراق على تمزيق لباسه وقطعه ، فإنّ الممزّق القاصد للحفظ لا شبهة في كونه محسناً تنطبق عليه القاعدة ، فيحكم بعدم ضمانه لذلك اللّباس ، ولو خرج عن المالية بالمرّة .
ومثل ما إذا رأى توجّه السيل المخرّب والمعدم إلى منزل شخص ، وتوقّف طريق حفظه على جعل بعض أثاث ذلك المنزل في مقابله ليتوجّه عنه إلى غيره ، فإنّ هذا الوضع المقرون بقصد حفظ المنزل عن ورود السيل عليه وخرابه يكون إحساناً تجري فيه القاعدة ، فلا يكون ضامناً للأثاث المذكور .
ومثل ما إذا ابتلي شخص بنوبة قلبيّة ، وكان حفظه متوقفاً على تمزيق بعض ألبسته كذلك ، وكذلك لو توقفت نجاة السفينة ومن فيها وما فيها على تخفيفها بإلقاء بعض الأموال في البحر ، وفرض كون الأموال لصاحب السفينة ، فإنّ هذا الإلقاء إحسان تنطبق على محسنه قاعدة الإحسان .
ومثل ما يكون متداولا في هذه الأزمنة من توقّف نجاة الطفل الذي في رحم الاُمّ على إجراء العملية الجراحيّة للاُمّ ، وقد يترتّب عليها موت الاُمّ أحياناً ، والأمثلة لهذا القسم كثيرة .
ولكنّ الإشكال فيه من جهة أنّ عدم الضمان في هذه الموارد إنّما هو لثبوت الإذن فيها ، بل الإيجاب في بعضها من ناحية الشارع ، كما في المثال الأوّل ; فإنّ الشارع أوجب الحفظ ، وتمزيق اللباس مقدّمة منحصرة لتحقّق الحفظ ، ومع الإذن
(الصفحة 299)
أو الإيجاب لا معنى لثبوت الضمان ، ولو لم يكن هناك قاعدة الإحسان ، فعدم ثبوت الضمان لا يكون مستنداً إلى القاعدة ، بل إلى قصور دليل الضمان عن الشمول له .
إلاّ أن يقال : إنّ عدم الشمول إنّما هو بلحاظ قاعدة ضمان اليد ، حيث إنّها قاصرة عن إفادة الضمان في اليد المأذونة من قبل المالك أو الشارع ، وأمّا بلحاظ قاعدة الإتلاف فلا مانع من الشمول والدلالة على الضمان وإن كانت اليد مأذونة . نعم ، إذا كان الإتلاف مأذوناً فيه فالظاهر عدم شمول قاعدة الإتلاف كما ذكرنا في البحث عنها(1) ، لكنّ الظاهر أنّ الإتلاف الخارج من القاعدة هو الإتلاف المأذون فيه بعنوانه ، كما إذا أذن المالك في الإتلاف .
وأمّا الموارد المتقدّمة فليس عنوان الإتلاف مأذوناً فيه ولو من قبل الشارع ; فإنّ الشارع إنّما أوجب حفظ النفس في المثال الأوّل ، وتوقّف الحفظ على تمزيق الألبسة يوجب عدم كونه متّصفاً بالحرمة مع الانحصار ; لأنّه لا تجتمع حرمة المقدّمة المنحصرة مع وجوب ذيها ، وأمّا كون المقدّمة مأذوناً فيها من قبل الشارع ، فلا ، إلاّ أن يقال : إنّ نفس عدم الحرمة كافية في الخروج عن القاعدة ، فتدبّر . ولكنّه يندفع بأنّ الشارع أوجب حفظ النفس ، ومع ذلك حكم بالضمان في ما إذا توقّف حفظها على أكل طعام الغير بدون رضاه .
وأمّا الثاني : فموارده أيضاً كثيرة ، مثل الأفعال الصادرة من الأولياء ، كالحاكم والأب والجدّ له ، لغرض إيصال النفع إلى المولّى عليه ، فاتّفق ترتّب الضرر عليه ; فإنّه حينئذ لا ضمان على الوليّ ; لكونه محسناً ، وقد فعل الفعل باعتقاد حصول مصلحة فيه ونفع عائد إلى المولّى عليه ، كما إذا اشتغل في قناة له بالحفر والإصلاح لغرض ازدياد الماء ، فصار ذلك سبباً لانهدام القناة بالمرّة أو بالبعض ; فإنّه لا يكون فيه ضمان ، وكما إذا أعطى الحاكم النقود التي عنده لإجراء العبادات ; كالصلاة