(الصفحة 53)
وأمّا الضمان المأخوذ في القاعدة ، فحيث يكون المفروض فيها صورة الإتلاف ، ويكون مرجع ضمان المال المتلف إلى كونه في عهدته ، يجب الخروج عنها بأداء المثل في المثليّات والقيمة في القيميات ، ولا مجال للضمان المعاوضي هنا بعد عدم وجود معاوضة في البين ، بل الضمان هو الضمان الحقيقي الذي هو عبارة عن ضمان المثل أو القيمة .
وقد عرفت أنّ الضمان في القاعدة مقيّد بصورة عدم الإذن ، ومرّ أيضاً أنّ المراد هو عدم الإذن في الإتلاف ، من دون فرق بين ما إذا كانت يده على مال الغير على تقدير ثبوت اليد يداً عادية أو غير مأذونة ، وبين ما إذا كانت يداً مأذونة ; كالأمين في صورة التعدّي والتفريط على ما تقدّم(1) .
الجهة الثالثة : أنّ الإتلاف قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالتسبيب .
فالأوّل : مثل أن يأكل مال الغير الذي يكون من المأكولات ، أو أن يشرب ماله الذي يكون من المشروبات ، أو يحرق أثوابه ، أو يرمي حيوانه بسهم فيهلكه ، وشبه ذلك ممّا يصدر عنه فناء مال الغير وهلاكه عن نفسه وإرادته ، من دون وساطة فاعل آخر .
والثاني : عبارة عن كلّ فعل صار سبباً لوقوع التلف ، بحيث لو لم يكن لم يتحقّق التلف ، ولكنّه لم يكن علّة تامّة ولا جزءاً أخيراً من العلّة التامّة، وعليه : فهو الذي لا يلزم من وجوده الوجود ، ولكن يلزم من عدمه العدم .
لا خفاء في أنّ القدر المتيقّن من مورد القاعدة الذي لا شبهة في ثبوت الضمان فيه هو القسم الأوّل الذي يكون الإتلاف فيه بالمباشرة .
وأمّا القسم الثاني : فقد ادّعى في محكي الجواهر نفي الخلاف فيه(2) ، بل ربما
- (1) في ص 28 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 46 .
(الصفحة 54)
يقال بأنّه يمكن تحصيل الإجماع على كونه موجباً للضمان ، ولكن لابدّ من ملاحظة الأخبار بعد إمكان القول بكفاية التسبيب في صحّة اسناد الإتلاف فإنّه إذا فرض أنّ مع عدمه لم يكن يتحقّق التلف بوجه ، والمفروض كونه فعله من دون واسطة يتحقّق الإتلاف الحقيقي المضاف إلى من تحقّق منه الإتلاف بالتسبيب، فتدبّر ; فإنّ ذلك لا يتمّ في جميع موارد التسبيب كما سيأتي .
أمّا الرّوايات :
فمنها : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الشيء يوضع على الطّريق فتمرّ الدابّة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال : كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه(1) .
ومنها : صحيحة زرارة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له : رجل حفر بئراً في غير ملكه ، فمرّ عليها رجل فوقع فيها ، فقال (عليه السلام) : عليه الضمان ; لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضّمان(2) .
ومنها : موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحفر البئر في داره أو في ملكه (أرضه)؟ فقال : ما كان حفر في داره أو في ملكه فليس عليه ضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها(3) .
ومنها : رواية السكوني ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من أخرج ميزاباً ، أو كنيفاً ، أو أوتد وتداً ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئاً في طريق
- (1) الكافي : 7 / 349 ح 2 ، تهذيب الأحكام : 10 / 223 ح 878 ، الفقيه : 4 / 115 ح 396 ، وعنها وسائل الشيعة 29/ 243 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 9 ح 1 .
(2) الكافي : 7 / 350 ح 7 ، تهذيب الأحكام : 10 / 230 ح 907 ، وعنهما وسائل الشيعة : 29 / 241 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 8 ح 1 .
(3) الكافي : 7 / 350 ح 4 و ص 349 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 229 ـ 230 ح 903 و 904 ، الفقيه : 4 / 114 ح 390 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 241 ـ 242 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 8 ح 3 .
(الصفحة 55)
المسلمين ، فأصاب شيئاً فعطب فهو له ضامن(1) .
ومنها : غير ذلك من الروايات الكثيرة الدالّة على ضمان المسبّب ـ بالكسر ـ مثل المباشر للإتلاف ، التي وردت جملة منها في شاهدي الزور اللذين شهدا بالقتل ، فقتل المشهود عليه بسبب هذه الشهادة ، ثمّ رجعا عنها ، ومفادها : أنّه إن قالا بالخطأ فعليهما الدية ، وإن قالا بتعمّد الكذب فعليهما القصاص(2) .
ثمّ إنّ مقتضى أكثر الروايات المتقدّمة انحصار الحكم بالضّمان بما إذا أضرّ بطريق المسلمين ، أو حفر البئر في غير ملكه ، فلا ضمان فيما إذا حفر بئراً في ملكه فوقع فيها أحد فهلك ، وإن كانت السببيّة موجودة في هذه الصورة ; لأنّه لو لم يحفر البئر لم يتحقّق الوقوع ، فلا يتحقّق الهلاك بوجه ، كما أنّ مقتضى إطلاق الروايات عدم الفرق بين ما إذا قصد موجد السبب لترتب المسبّب ووقوعه عقيبه ، وبين ما إذا لم يقصد ذلك ، بل وبين ما إذا كان بقصد عدم الوقوع وبرجاء العدم .
ومنه يظهر الفرق بين ما إذا كان المدرك في هذه الجهة هي الرّوايات ، وبين ما إذا كان هو الإجماع ; فإنّه على التقدير الثاني يكون القدر المتيقّن من معقده هي صورة قصد موجد السبب لترتّب المسبّب وتحقّقه عقيبه ، كما أنّ القدر المتيقّن من معقده هو ما إذا كان مثل حفر البئر في غير ملكه ، وقد عرفت مراراً أنّه لا أصالة للإجماع مع وجود نصّ معتبر في معقده ، فالدليل هي الرّوايات .
وظهر أيضاً عدم انطباقها على جميع موارد السبب ; لاختصاص الحكم بالضمان فيها بما ذكر ، هذا كلّه فيما إذا كان هناك السبب فقط .
- (1) الكافي : 7 / 350 ح 8 ، تهذيب الأحكام : 10 / 230 ح 908 ، الفقيه : 4 / 114 ح 392 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 245 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 11 ح 1 .
(2) يراجع وسائل الشيعة : 29 / 128 ـ 130 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 63 و 64 ، ومستدرك الوسائل : 18 / 256 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 52 .
(الصفحة 56)
في اجتماع السبب والمباشر
لو اجتمع السبب والمباشر ، فهل الضمان على الأوّل ، أو على الثاني ، أو على كليهما بالاشتراك؟ وجوه واحتمالات .
قال المحقّق في الشرائع : إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب ، كمن حفر بئراً في ملك غيره عدواناً ، فدفع غيره فيها إنساناً ، فضمان ما يجنيه الدفع على الدّافع(1) . وقد ادّعي عدم الخلاف(2) بل الإجماع عليه(3) ، بل ربما يقال : إنّ تقديم المباشر على السّبب عندهم من المسلّمات .
أقول : الظاهر وضوح تقديم المباشر في الضمان على ذي السبب في الفرع المذكور في كلام المحقّق ; لظهور استناد الإتلاف فيه إلى خصوص المباشر ، وكون السبب من المعدّات التي لا توجب الضمان مع صدور الإتلاف من الفاعل المختار ، والاّ كان صانع السيف ضامناً إذا قتل به المباشر .
كما أنّه ربما ينعكس الأمر ويكون الاستناد إلى ذي السبب واضحاً بحيث لا مجال للاستناد إلى المباشر ، كما في شاهدي الزور في باب القتل ، فإنّ القتل يستند إليهما عرفاً لا إلى الحاكم أو من يأتمر بأمره المباشر لصدور القتل ، كما لا يخفى ، فاللازم فرض الكلام في غير مثل هذين الموردين .
فنقول : ذكر المحقّق البجنوردي (قدس سره) في قواعده الفقهيّة في هذه الجهة تفصيلا ، خلاصته : أنّه إذا كان المباشر فاعلا مختاراً عاقلا ، وكان ملتفتاً إلى أنّ عمله هذا يترتّب عليه التلف ، فلا شك في اختصاصه بكونه ضامناً ، وأمّا إذا لم يكن المباشر ذا إرادة وشعور ، فالضمان على ذي السبب ; كمن أجّج ناراً في غير ملكه فنشرتها
- (1) شرائع الإسلام : 3 / 237 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 54 .
(3) كشف اللثام : 11 / 279 ، مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 501 ، رياض المسائل : 14 / 236 .
(الصفحة 57)
الريح ، فأصابت النار مال غيره فاحترق ، فالضمان على ذي السبب ; لأنّه المتلف حقيقة .
وأمّا إن كان عاقلا مختاراً في فعله ، ولكنّه لا يعلم بأنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فإن لم يكن مغروراً ولا مكرهاً فالضمان على المباشر ; لأنّه لا فرق في جريان قاعدة الإتلاف بين صورة العلم بترتّب التلف على فعله ، وبين صورة عدم العلم ; لأنّ الموضوع للحكم بالضمان هو مطلق الإتلاف ، وأمّا لو كان مغروراً كالممرّض الجاهل ، فهو وان كان ضامناً لأجل قاعدة الإتلاف ، لكنّه يرجع إلى الغارّ لقاعدة الغرور ، من دون فرق بين صورة علم الغارّ وصورة جهله .
وأمّا إذا كان مكرهاً فليس عليه ضمان إذا كان الإكراه في غير الدّماء ، فإذا اُكره على الدفع في البئر فمات ، فإن كان الدفع في البئر من الاسباب العادية للموت ، فالدافع ضامن ، لأنّه لا تقية في الدّماء ، وإذا اُكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره ـ بالكسر ـ لا على المكره ـ بالفتح ـ لأنّ السبب هنا أقوى من المباشر ; لأنّ المباشر وإن كان فاعلا ولكنّه ليس بمختار ، ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره ـ بالفتح ـ والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره ـ بالكسر ـ ويسندونه إليه ، كما أنّه لو أمر المكره خدّامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته بهدم دار شخص ، لا ينسب هدم الدار عند العرف إلاّ إلى ذلك المكره(1) .
وهذا التفصيل وإن كان في غاية المتانة ، إلاّ أنّ الوجه لعدم ثبوت الضمان في صورة الإكراه ليس ما أفاده من عدم شمول قاعدة الإتلاف ، وعدم استناده إلى المكره ـ بالفتح ـ ضرورة أ نّ شرب الخمر ولو كان عن إكراه لا يسند إلاّ إلى الشارب المكره لا إلى المكره ، بحيث يترتّب على إكراهه حدّ شرب الخمر ،
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 2 / 35 ـ 36 .