(الصفحة 308)
الاستصحاب البقاء ، ولازمه التعلّق بجميع الموجودين في الأزمنة المتأخّرة ; إذ لا معنى للبقاء مع عدم التعلّق ، كما أنّه لا معنى للبقاء مع التعلّق بواحد غير معلوم ، ولا يجري فيه إمكان الترجيح ، فتدبّر .
الثالث : ثبوت ارتكاز المتشرّعة حتى العوام منهم على أنّ حكم الله في هذه الواقعة واحد وثابت للجميع ، من دون أن يكون مختصّاً بالمخاطب ، وهذا الارتكاز لا محالة قد نشأ من مبدأ الوحي والرّسالة ، وقد انتقل من السلف إلى الخلف ، ولذا لو سأل أحد مقلّديهم من المجتهد واستفتاه في حكم موضوع ، يستفيد منه المقلّد الآخر وتتعيّن وظيفته أيضاً ، من دون حاجة إلى استفتاء جديد ، والسؤال في الروايات إنّما كان على هذا المنوال .
فإذا قال الإمام (عليه السلام) في جواب زرارة ـ الذي سأله عن إصابة المني إلى ثوبه وقد نسيه فصلّى فيه ـ : أعد صلاتك مثلا ، يكون المرتكز في ذهن المتشرّعة ثبوت هذا الحكم بالإضافة إلى جميع من كان منطبقاً عليه مفروض السؤال وإن كان المخاطب بحسب اللفظ والبيان هو زرارة ، وهذا لا ينافي اختصاص بعض التكاليف ببعض الطوائف أو بعض الأشخاص ; فإنّ المراد من الاشتراك عدم اختصاص التكليف بمن توجّه الخطاب إليه .
وهذا لا ينافي كون موضوع الحكم ـ أي المكلّف ـ مقيّداً ببعض القيود أو متّصفاً ببعض الصفات ، أو كونه من طائفة خاصّة أو كونه من الرجال أو من النساء ; لأنّه ليس المراد من قاعدة الاشتراك اشتراك جميع المكلّفين ; سواء كانوا واجدين لقيود موضوع الحكم أم لم يكونوا واجدين لها ، فالاشتراك في تكليف الحج مرجعه إلى ثبوت وجوبه لكلّ مستطيع ، لا وجوبه على الكلّ ، مستطيعاً كان أم لم يكن ، كما مرّ في الدليل الأوّل .
الرّابع : أنّه قد ثبت في محلّه بمقتضى الأخبار وتسلّم الأخيار أنّه لا يخلو شيء
(الصفحة 309)
من الوقائع المبتلى بها عن حكم من الأحكام الإلهيّة ، فإذا ثبت حكم لأحد مثل زرارة في المثال المتقدّم ، فاللازم الحكم بثبوته لغيره ممّن هو مثله في الجهات الراجعة إلى الحكم ; إذ مع عدم ثبوته لغيره لابدّ إمّا من الالتزام بخلوّ نفس هذه الواقعة بالإضافة إلى غيره عن الحكم ، فينافي مع ما دلّت عليه الأخبار والتزم به الأخيار ، وإمّا من الالتزام بجعل مثله بالنسبة إلى الغير بجعل مستقلّ جديد ، والمفروض أنّه لا دليل على هذا الجعل ; إذ الفرض أنّ الدليل في المسألة منحصر بما ورد في قصّة زرارة مثلا ، ولا دليل على جعل آخر بنحو العموم كما لا يخفى .
والظاهر أنّه إلى هذا الدليل ينظر كلام بعض المحققين ، حيث إنّه يقول في ما حكي عنه : والقول بأنّ الكون في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) دخيل في اتّحاد الصنف الذي هو شرط شمول الخطابات ، هدم لأساس الشريعة ; وذلك من جهة أنّ الأحكام إن كانت مخصوصة بالحاضرين في مجلس النبيّ (صلى الله عليه وآله) المخاطبين ، أو مطلق الموجودين في ذلك الزمان فقط ، فانتهى أمر الدين ـ العياذ بالله ـ وتكون الناس بعد ذلك كالبهائم والمجانين . وهذا أمر باطل بالضرورة ; لأنّه يوجب هدم أساس الدين .
فإدّعاء الضرورة على اشتراك الجميع في التكاليف لا بعد فيه ، بل هو كذلك(1) .
الخامس : دلالة نفس الأدلّة اللفظية الواردة في موارد خاصّة على العموم ، بحسب المتفاهم العرفي والظهور العقلائي المعتبر في باب دلالة الألفاظ ، فإذا سأل سائل عن حكم رجل شك في الصلاة بين الثلاث والأربع ، لا ينسبق إلى أذهان العرف إلاّ كون مورد السؤال نفس الشك بين الثلاث والأربع ، من دون أن يكون للرّجولية خصوصية في ذلك ، ولذا يجرى الجواب المتصدّي لبيان الحكم في النساء أيضاً ، وفي مثال زرارة المتقدم يكون المتفاهم العرفي من سؤال زرارة هو إصابة
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 2 / 56 .
(الصفحة 310)
ثوب المكلّف وملاقاة الدم أو شيء من المني له ، لا إصابة شيء من ذلك إلى ثوب زرارة وإن كان الثوب مضافاً إليه ، ففي الحقيقة يكون مقتضى هذا الدليل عموم نفس ذلك الدليل اللفظي ، وعدم كون الخصوصية دخيلة بنظر العرف والعقلاء أصلا .
السادس : ما ربّما يقال من تنقيح المناط القطعي ; نظراً إلى أنّ الأحكام التابعة للمفاسد والمصالح النفس الأمريّة لا تختلف بحسب أفراد المكلّفين ; للزوم دفع المضرّة وجلب المنفعة اللازمة على الكل .
ودعوى أنّ المفروض تبعيّتها للوجوه والاعتبارات ولعلّ للخصوصية مدخلية ، مدفوعة بأنّ المراد بالوجوه والاعتبار ما عدا خصوصيات المكلّفين من حيث هم كذلك ; لأنّها أشخاص مختلفة لا يدور مدارها الاُمور نفس الأمرية ، بل مدارها على المفاهيم العامّة ، كالمريض والصحيح ، والمسافر والحاضر ، ونحو ذلك من الصفات اللاحقة للمكلّفين أو العارضة للأفعال . وأمّا مع إتّحاد ذلك فخصوص زيد وعمرو لا دخل له في ذلك .
ودعوى انتقاضه بخصائص النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، مدفوعة بعدم كون الخصائص لشخصه ، بل إنّما هو لعنوان كلّي ، غاية الأمر انحصار ذلك العنوان في فرد واحد ومصداق فارد ، ويؤيّد هذا الدليل طريقة العقلاء ; فإنّهم إذا رأوا رجلا فعل فعلا فتضرّر به ، أو فعل فعلا فانتفع به ; فإنّهم يجتنبون عن الأوّل ويرتكبون الثاني ، ولا يلتفتون إلى احتمال الخصوصية أصلا(1) .
السابع : الرّوايات الواردة في المقام الدالّة على اشتراك أحكام الله تبارك وتعالى بين الكلّ ، وعدم مدخلية خصوصية الأشخاص والعوارض المشخصّة لهم ، ككونه أباً لفلان أو إبناً له ، أو لونه كذا ، أو قبيلته فلان ، أو سنّه كذا ، أو حرفته
(الصفحة 311)
كذا أو علمه كذا ، وأمثال ذلك ، وهي كثيرة :
منها : ما رواه في الوسائل عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث طويل في كتاب الجهاد ، في باب من يجوز له جمع العساكر والخروج بها إلى الجهاد ، قال (عليه السلام) فيه بعد كلام طويل في شرائط من يتصدّي لجمع العساكر للجهاد : لأنّ حكم الله ـ عزّ وجلّ ـ في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء ، إلاّ من علّة أو حادث يكون ، والأوّلون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء ، والفرائض عليهم واحدة ، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عمّا يسأل عنه الأوّلون ، ويحاسبون عمّا به يحاسبون(1) .
ومنها : النبوي المشهور : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة(2) ، وظهوره في الاشتراك ـ بعد كون المراد بالجماعة هو العموم لا جماعة خاصّة ـ إنّما هو بلحاظ أنّ الظاهر منه أنّ حكمي الذي هو حكم الله على أحدكم لأجل كونه مخاطباً أو مورداً ، لا يختصّ بذلك المخاطب أو ذلك المورد ، بل يعمّ الجميع ، فدلالته على الاشتراك ظاهرة .
ومنها : قوله (عليه السلام) في الخبر المشهور : حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة(3) ، وتقريب دلالته ـ بعد وضوح أنّ
- (1) الكافي : 5 / 18 قطعة من ح1 ، تهذيب الأحكام : 6 / 133 قطعة من ح 224 ، وعنهما وسائل الشيعة : 15 / 39 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد العدوّ ب 9 قطعة من ح 1 .
(2) عوالي اللئالي : 1 / 456 ح 197 ، وعنه بحار الأنوار : 2 / 272 ح 4 ، ورواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة : 67 ح 199 .
(3) الكافي : 1 / 58 ح 19 ، وأخرجه في وسائل الشيعة : 27 / 169 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 12 ح 52 والبحار : 2 / 260 ح 17 و ج 74 / 280 ح 7 عن كنز الفوائد للكراجكي : 1 / 352 ، وفي ج 11 / 56 ح 55 عن المحاسن : 1 / 420 ح 963 ، وفي ج 16 / 353 ـ 354 ح 38 عن الكافي : 2 / 17 ح 2 ، وفي ج 68 / 326 ح 2 عن المحاسن والكافي ، وفي ج 47 / 35 ملحق ح 33 عن كشف الغمّة : 2 / 197 ، وفي ج 93 / 3 عن رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني ، المطبوع مع جامع الأخبار والاثار : 3 / 64
(الصفحة 312)
المراد بالإضافة هو حلال الله وحرامه ، وإضافته إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) إنّما هي بلحاظ كونه واسطة في الوحي ومبلّغاً لأحكام الله تعالى ، وبعد وضوح أنّ المراد ليس خصوص الحلال والحرام من بين الأحكام ، بل المقصود جميع الأحكام الإلهية والقوانين السّماوية ـ أنّ بقاء الأحكام إلى يوم القيامة مرجعه إلى عدم الاختصاص بزمان ولا بشخص أو طائفة ، ضرورة أنّه إذا كان جميع الأزمنة متساوية من حيث الحكم ، فلا محالة يشترك جميع المكلّفين فيه ، ومعناه تساوي الأوّلين والآخرين في ذلك ، فإذا كان هذا التساوي ثابتاً ، فالتساوي في زمن صدور الحكم بين المخاطب وغيره يكون بطريق أولى ، بل يستفاد من الرواية مفروغيته .
ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله) : فليبلّغ الشاهد الغائب(1) ، فإنّ إيجاب تبليغ الشاهد الغائب لا يكون له وجه إلاّ اشتراكهما في ثبوت الحكم وتحقّق التكليف ; لأنّه لا مجال له مع عدم الاشتراك ، وإطلاق الغائب ينفي خصوص جماعة من الغائبين ، بل يشمل الغائب المعدوم في زمن الخطاب الموجود بعده أيضاً .
ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله) : اُوصي الشاهد من اُمّتي والغائب منهم ، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة ، أن يصل الرّحم(2) ، ومن الواضح أنّه لا خصوصية لصلة الرحم من بين الأحكام . ودعوى أنّ التصريح بالاشتراك في
- (1) كتاب سليم بن قيس : 205 ، وعنها بحار الأنوار : 22 / 150 ذ ح 142 ، وفي ص 478 ح 27 عن الطرف : 20 ، الطرفة الحادية عشرة ، وفي ج 10 / 143 ، قطعة من ح 5 و ج 44 / 63 قطعة من ح 12 عن أمالي الطوسي : 560 و566 قطعة من ح 1173 و 1174 ، وفي ج 28 / 206 ح 6 و ج 38 / 173 قطعة من ح 1 عن الخصال : 371 قطعة من ح 85 ، وفي ج 28 / 263 قطعة من ح 45 عن كتاب سليم بن قيس : 30 والاحتجاج : 1 / 205 . ورواه في الكافي : 8 / 344 ح 541 .
(2) الكافي : 2 / 151 ح 5 ، وعنه البحار : 74 / 114 ح 73 ، وفي ص 105 ح 68 عن عدّة الداعي : 90 ، وفي مستدرك الوسائل : 15 / 236 ح 18107 عن مشكاة الأنوار : 287 ح 863 .