(الصفحة 345)قاعدة عدم شرطيّة البلوغ في الأحكام الوضعيّة
وهي أيضاً من القواعد المعروفة المشهورة ، وفيها جهات من البحث :
الجهة الاُولى : في مدركها ومستندها ، وهي اُمور متعدّدة :
الأوّل : عموم الأدلّة الواردة في هذه الأحكام ، مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : على اليد ما أخذت حتى تؤدّي(1) . وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضاً : من أحيى أرضاً مواتاً فهي له(2) ، وقوله: من حاز شيئاً من المباحات فقد ملكه(3) . وقوله: من أتلف مال الغير فهو له ضامن(4)، وما ورد في باب الجنابة وكون الوطء والإدخال المتحقّق بغيبوبة الحشفة سبباً لتحقّقها(5) ، وما ورد في باب الملاقاة مع النجاسة وأنّها سبب
- (1) تقدم في ص 28 .
(2) الكافي : 5 / 279 ح 4 ، تهذيب الأحكام : 7 / 152 ح 673 ، الاستبصار : 3 / 108 ح 382 ، وعنها وسائل الشيعة : 25 / 412 ، كتاب إحياء الموات ب 1 ح 5 .
(3) هذه القاعدة معروفة بين الفقهاء اصطادوها من نصوص مختلفة .
(4) قد ذكرنا في ص 98 ، أنّ هذه القاعدة لا تكون مأثورة ، بل الظاهر أنّها اصطادية من الروايات الواردة في موارد مختلفة .
(5) وسائل الشيعة : 2 / 182 ، كتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ب6 .
(الصفحة 346)
لتأثّر الملاقي ـ بالكسر ـ وحصول النجاسة له(1) ، وما ورد في باب الالتقاط(2) ، وما ورد فى باب الدّيات(3) ، ومثلها من الأدلّة .
ودعوى انصراف مثل ذلك إلى البالغين ; لأنّ سياقها كسياق الأدلّة الواردة في الأحكام التكليفية ، مدفوعة بأنّ أدلّة التكاليف أيضاً لا يجري فيها الانصراف ، واختصاصها بالبالغين إنّما هو لقيام الدليل على الاختصاص ، وهو لا يجري في الأحكام الوضعية كما سيأتي ، كما أنّ دعوى أنّ قيام الدليل على الاختصاص فيها بحيث صار مرتكزاً في أذهان المتشرّعة حتى يعبّرون عن غير البالغ بغير المكلّف وعن البالغ بالمكلّف ، يوجب تحقّق الانصراف في هذه الأدلّة ، مدفوعة بمنع وجود ملاك الانصراف في المقام ، بل اللفظ عامّ لغة وعرفاً .
مضافاً إلى أنّه يستفاد منه العليّة الثابتة للعمل مع قطع النظر عن خصوصيّة المباشر ، فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «من أحيى أرضاً . . .» ظاهر في أنّ الإحياء سبب لحصول الملك والاختصاص ، فالسببية وصف للإحياء ، ولا خصوصية للمحيي بوجه ، وهكذا سائر الأدلّة .
الثاني : الإجماع المحقّق لكلّ متتبّع في الفقه ; لأنّه لم ينقل الخلاف عن أحد في ثبوت الضمان على الصّبي الغاصب ، وكذا ثبوته على الصّبي الذي أتلف مال الغير(4) ، وهكذا سائر موارد الأحكام الوضعيّة . نعم ، يظهر من العبارة الآتية من الشيخ الأعظم وجود الخلاف في سببيّة الإتلاف في الصّبي ، وهل لهذا الإجماع أصالة وكاشفيّة أم لا؟ كما في أكثر الاجماعات المتحقّقة في سائر القواعد الفقهيّة ،
- (1) وسائل الشيعة : 3 / 441 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 26 .
(2) وسائل الشيعة : 25 / 441 ، كتاب اللقطة ب 2 وغيره .
(3) وسائل الشيعة : 29 / 233 ـ 282 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان وغيرها .
(4) العناوين : 2 / 660 ، القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 4 / 173 .
(الصفحة 347)
ربما يقال بالأوّل ; نظراً إلى أنّ ثبوت الإتّفاق على مثل الضمان في الموردين ، والاختلاف في شمول الأدلّة اللفظية المتقدّمة لغير البالغين كاشف عن كاشفية الإجماع وأصالته ; لأنّه لو كان نظر المجمعين إلى تلك الأدلّة لكان اللازم الاختلاف لثبوته فيها .
الثالث : سيرة العقلاء قاطبة على أنّ الصبيّ إذا أتلف مال الغير أو غصبه فوقع تلف المغصوب في يده مثلا يكون ضامناً للمتلف أو المغصوب ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة ، بل أمضاها بالأدلّة العامّة والمطلقة المتقدّمة .
ويدفعه ـ مضافاً إلى منع تحقق السيرة العقلائية في جميع الموارد ، لأنّه إذا كان غير مميّز وفاقداً للإدراك والشعور لا يحكمون بضمانه بوجه ، وإلى أنّ الأدلّة العامّة لا مجال لإيرادها بعنوان الإمضاء بعد كونها دليلا مستقلاًّ بنفسه ـ أنّ السيرة المتحققة هي سيرة المتشرّعة ، وهي ناشئة عن فتاوى مجتهديهم وآراء مقلّديهم ، ولا تكون دليلا في مقابل الإجماع .
وقد انقدح ممّا ذكرنا تمامية القاعدة من حيث المستند ، ولكن ربما يتخيّل أنّ في مقابل تلك الأدلّة ما ورد من قول عليّ (عليه السلام) : أما علمت أنّ القلم رفع عن ثلاثة : عن الصّبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ(1) ، نظراً إلى ظهوره في أنّه لم يكتب على الصبي قبل الإحتلام شيء ، ولم يجعل عليه في الإسلام حكم لا تكليفاً ولا وضعاً ; لأنّه مقتضى إطلاق «رفع القلم» ، فهذه الرواية بمنزلة المخصّص لتلك الأدلّة اللفظية ، كما أنّها تخصّص ما ورد في باب التكاليف ; مثل قوله تعالى : {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ}(2) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم نهوض مثل ذلك في مقابل الإجماع المحقّق الّذي
- (1) الخصال : 94 ح 40 و ص 175 ح 233 ، وعنه وسائل الشيعة : 1 / 45 ، أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح 11 .
(2) سورة البقرة 2 : 43 .
(الصفحة 348)
عرفته ; لكونه دليلا قطعيّاً لا يقاومه شيء ، وإلى أنّ الظاهر من «رفع القلم» في نفسه هو رفع قلم المؤاخذة المتفرّعة على التكاليف الإلزاميّة الوجوبية أو التحريمية ; لأنّ مخالفتها توجب استحقاق العقوبة والمؤاخذة ، وعليه : لا تشمل الرواية حتى التكاليف والأحكام الاستحبابية ومثلها ، فضلا عن الأحكام الوضعية التي هي محلّ البحث في المقام .
ويؤيّده عطف النائم على الصبي مع ثبوت الحكم الوضعي في حقّه ـ : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه في مقام استظهار عدم الاعتبار بعقد الصبي وايقاعه مع وقوعه عن قصد من حديث «رفع القلم» . قال :
بل يمكن بملاحظة بعض ما ورد من هذه الأخبار في قتل المجنون والصبي استظهار المطلب من حديث «رفع القلم» ، وهو ما عن قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ (عليهم السلام) أنّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق ، والصبي الذي لم يبلغ : عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم(1) ; فإنّ ذكر «رفع القلم» في الذيل ليس له وجه ارتباط إلاّ بأن تكون علّة لأصل الحكم ; وهو ثبوت الدية على العاقلة ، أو بأن تكون معلولة لقوله (عليه السلام) : «عمدهما خطأ» يعني أنّه لـمّا كان قصدهما بمنزلة العدم في نظر الشارع ، وفي الواقع رفع القلم عنهما .
قال : ولا يخفى أنّ ارتباطها بالكلام على وجه العليّة أو المعلولية للحكم المذكور في الرّواية ـ أعني عدم مؤاخذة الصبي والمجنون ـ بمقتضى جناية العمد وهو القصاص ، ولا بمقتضى شبه العمد ـ وهو الدية في مالهما ـ لا يستقيم إلاّ بأن يراد من «رفع القلم» ارتفاع المؤاخذة عنهما شرعاً من حيث العقوبة الاُخرويّة والدنيوية
- (1) قرب الإسناد : 155 ح 569 ، وعنه وسائل الشيعة : 29 / 90 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 36 ح 2 .
(الصفحة 349)
المتعلّقة بالنفس كالقصاص ، أو المال كغرامة الدية ، وعدم ترتّب ذلك على أفعالهما المقصودة المتعمّد إليها ممّا لو وقع من غيرهما مع القصد والتعمّد لترتّبت عليه غرامة اُخروية أو دنيوية ، إلى أن قال :
ثمّ إنّ مقتضى عموم هذه الفقرة ـ بناءً على كونها علّة للحكم ـ : عدم مؤاخذتهما بالإتلاف الحاصل منهما ، كما هو ظاهر المحكي عن بعض ، إلاّ أن يلتزم بخروج ذلك عن عموم «رفع القلم» ولا يخلو من بعد ، لكن هذا غير وارد على الاستدلال ; لأنّه ليس مبنيّاً على كون «رفع القلم» علّة للحكم ; لما عرفت من احتمال كونه معلولا لسلب اعتبار قصد الصبي والمجنون ، فيختصّ رفع قلم المؤاخذة بالأفعال التي يعتبر في المؤاخذة عليها قصد الفاعل ، فيخرج مثل الإتلاف ، فافهم واغتنم(1) .
أقول : محصّل مرامه اختصاص حديث «رفع القلم» بالأفعال التي يعتبر في ترتّب الأثر عليها وثبوت المؤاخذة بها قصد الفاعل ، كالقتل بالإضافة إلى القصاص ، أو ترتّب الدية في ماله ، وكالانشائيات في باب العقود والايقاعات . وأمّا مثل الإتلاف فلا دلالة للحديث على عدم ثبوت المؤاخذة به في ماله ; لأنّه لا يعتبر في ترتّب الحكم بالضمان عليه صدوره عن قصد والتفات ; ضرورة أنّ إتلاف النائم موجب لضمانه مع وقوعه عن غير قصد ، فيكون إتلاف الصبي كذلك .
ولكن يرد إشكال على الشيخ (قدس سره) بناءً على ما اختاره في باب الأحكام الوضعية من عدم كونها مجعولة مستقلّة كالأحكام التكليفية ، بل إنّما هي منتزعة عنها ومأخوذة منها(2) ، فالزوجية منتزعة من جواز الوطء والاستمتاع مثلا ، والملكية مأخوذة من جواز التصرّف المطلق ، والضمان في باب الإتلاف مثلا منتزع من لزوم
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 282 ـ 284 .
(2) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 125 ـ 130 .