(الصفحة 254)
الفروض ، واللازم ملاحظة هذه الجهة .
فنقول : الظاهر عدم تحقق السبيل في شيء من فروض الإجارة ، حتى في مثل إجارة العبد للخدمة للكافر ; فإنّ الإجارة المتقوّمة برضا الطرفين المفيدة لملك المنفعة لا تؤثّر إلاّ في استحقاق المؤجر للاُجرة والمستأجر للخدمة ، ومجرّد الاستحقاق لا يوجب تحقق السبيل المنفي ، وكذا كون المنفعة خدمة وكون الأجير عبداً ; لعدم الفرق بين الخدمة والخياطة مثلا ، وعدم الفرق بين الحرّ والعبد من هذه الجهة ، فكما أنّ استئجار الحرّ للخياطة لا يوجب تحقق السبيل والعلوّ ، فكذلك استئجار العبد للخدمة .
فالظاهر عندي هو القول الثاني ، وهو الجواز مطلقاً ; لما ذكر وممّا ذكرنا يظهر حكم إعارة العبد المسلم من الكافر ; فإنّه لا مانع منها ; لعدم تحقق السبيل بمجرّد تأثير العارية في ثبوت حقّ الانتفاع بالعين المعارة ; لعدم كون مثل هذا الحقّ موجباً لتحقق السبيل والعلوّ .
ثمّ إنّه بعد جواز الإعارة يظهر أنّ الحكم بالجواز في الإيداع عنده يكون بطريق أولى ; لأنّ مجرّد تسليط الكافر على حفظ العبد المسلم من دون أن يكون له حقّ الانتفاع أيضاً لا يكون سبيلا وعلوّاً أصلا ، وكون تشخيص كيفية الحفظ بيد الكافر لا يقتضي سبيلا له عليه ، فلا مانع من الإيداع .
ومنها : جعل العبد المسلم رهناً عند الكافر ، وفيه أقوال : المنع مطلقاً ، كما عن القواعد(1) والإيضاح(2) ، والجواز مطلقاً(3) ، والتفصيل بين أن يكون العبد المسلم
- (1) قواعد الأحكام : 2 / 17 .
(2) إيضاح الفوائد : 2 / 11 .
(3) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة : 4/179 ، والشيخ في المكاسب : 3 / 588 عن ظاهر نهاية الإحكام في معرفة الأحكام : 2 / 458 .
(الصفحة 255)
المرهون عند مسلم حسب رضاء الطرفين فيجوز ، وبين أن يكون تحت يد الكافر فلا يجوز ، كما أختاره الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) .
والظاهر هو الثاني ; لأنّ مجرّد كونه وثيقة عند الكافر وتحت يده لغرض استيفاء الدين منه في فرض عدم أدائه من ناحية الرّاهن ، لا يوجب كونه سبيلا وعلوّاً ، والمباشر للبيع في هذا الفرض ليس هو الكافر بنفسه ، بل المالك أو الحاكم عند امتناعه .
ومنها : وقف العبد المسلم على الكافر ، وفيه أيضاً أقوال ثلاثة : القول بالمنع مطلقاً ، والقول بالجواز مطلقاً ، والتفصيل بين ما إذا لم يكن الوقف موجباً لتحقق السبيل والعلوّ ; كما إذا وقفه على تعليم أقاربه الكفّار أو معالجة مرضاهم فيجوز ، وبين ما إذا وقفه على خدمتهم ; بأن يكون خادماً لهم أو خادمة فلا يجوز .
والحقّ أنّه إن قلنا بأنّ الوقف في مثله موجب لتحقق الملكية للموقوف عليهم ، وأنّ الوقف فيه من موجبات الانتقال ، فالظاهر عدم الجواز مطلقاً ; لأنّ نفس الملكية سبيل وعلوّ وإن كان ممنوعاً من بعض التصرّفات كالبيع ونحوه .
ولو قلنا بأنّ الوقف لا يوجب ملكية الموقوف عليهم ، فالظاهر هو الجواز مطلقاً ; لما ذكرنا في باب الإجارة من عدم اقتضائها لتحقق السبيل والعلوّ وإن كان أجيراً للخدمة .
ومنها : أنّه لا يجوز جعله قيّماً على صغار المسلمين وسفهائهم ، بل ومجانينهم ، وكذا ليس له الولاية في تجهيز الميت المسلم ـ الذي يكون أباه ـ ودفنه وتكفينه ، ولا تتوقّف هذه الاُمور على إذنه ، والوجه في ذلك قاعدة نفي السبيل ; نظراً إلى وضوح كون الولاية ومثلها سبيلا منفيّاً .
ومنها : أنّه لو قلنا بتوقّف صحّة نذر الولد على إذن الوالد ، لا يكون هناك
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 588 ـ 589 .
(الصفحة 256)
توقّف إذا كان الولد مسلماً والوالد كافراً ، وكذا لو قلنا بتمكّن الوالد من حلّ نذره ، لا يكون هناك تمكّن في الصورة المفروضة ; لوضوح كون التوقّف على الإذن وكذا التمكّن من الحلّ سبيلا وعلوّاً .
ومنها : أنّه لا يجوز جعل الكافر متولّياً على الوقف الراجع إلى المسلمين ، كالمدارس الدينيّة الموقوفة على طلاّب العلوم الدينية ، والمستشفى الذي يكون وقفاً على مرضى المسلمين ، وكذا المدارس التي توقف على أولاد المسلمين لتحصيلهم فيها ، فلا يجوز في مثلها جعل الكافر متولّيا ، بحيث يكون الدخول والخروج بإذنه واختياره; فإنّه سبيل منفيّ بلا إشكال .
ومنها : عدم ثبوت حقّ الشفعة والأخذ بها للكافر إذا كان المشتري مسلماً ، سواء كان البائع مسلماً أم كافراً ; وذلك لأنّ مرجع ثبوت هذا الحقّ إلى تسلّط الكافر لأخذ حق المشتري بلا إذن منه بل قهراً عليه ، ومقتضى دليل ثبوت الشفعة وإن كان هو الإطلاق ، إلاّ أنّ حكومة قاعدة نفي السبيل عليه تقتضي تقييده بالمسلم .
ومنها : أنّ نكاح الكافر يبطل بإسلام الزوجة إن لم يسلم الزوج الكافر في العدّة ; نظراً إلى أنّ بقاء الزوجيّة مع كفر الزوج يرجع إلى علوّ الكافر على الزوجة المسلمة ، وأن يكون له سبيل عليها ; لأنّ الرّجال قوّامون على النّساء(1) . ولكنّك عرفت(2) أ نّ مسألة النكاح لا ترتبط بقاعدة نفي السبيل ; لعدم كون الزوجيّة موجبة لتحقق السبيل والعلوّ بعد تساوي نسبتها إلى الزوجين ، ووجوب إطاعة الزوج إذا أراد الاستمتاع والوطء لا يوجب تحقق السبيل ، بعد ثبوت بعض الأحكام الوجوبية في ناحية الزوج أيضاً ; كلزوم النفقة والسكنى واللباس
- (1) سورة النساء 4 : 34 .
(2) في ص 247 .
(الصفحة 257)
وغيرها ، وقد عرفت أنّ الحكم بعدم جواز تزويج المرأة المؤمنة نفسها من الكافر مستند إلى الروايات الخاصّة الواردة في هذا المجال ، لا إلى قاعدة نفي السّبيل(1) .
وعليه : فيمكن أن يقال باستفادة الحكم بالبطلان في المقام من تلك الرّوايات ; نظراً إلى أنّه إذا لم يرض الشارع بالحدوث فالظاهر عدم رضائه بالبقاء أيضاً . وأمّا قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}(2) فلم يعلم أنّ المراد بالرجال هم الأزواج وبالنساء هنّ الزوجات ، بل هو في مقام تفضيل الجنس على الجنس ، واللازم المراجعة إلى التفسير .
ومنها : عدم ثبوت حقّ القصاص للكافر إذا كان القاتل مسلماً ; فإنّ ثبوت هذا الحق من أظهر مصاديق السبيل ، ومقتضى حكومة القاعدة على أدلّة القصاص عدم ثبوته في هذا الفرض ، ولكن مقتضى ما ذكروه في باب إتلاف المسلم مال الكافر من ثبوت الضمان له عليه ـ لأنّ منشأه فعل نفس المكلّف ـ ثبوت القصاص هنا أيضاً ; لأنّ موجبه القتل المتحقق من القاتل ، فأيّ فرق بين الإتلاف الموجب للضمان ، وبين القتل الموجب للقصاص ، والعمدة في هذا المقام أيضاً روايات دالّة على أنّ المسلم لا يقتصّ منه بيد الكافر(3) ، لا قاعدة نفي السبيل .
ومنها : غير ذلك من الموارد الكثيرة التي تظهر بعد التتبّع في مختلف أبواب الفقه .
خاتمة تشتمل على بيان أمرين :
أحدهما : لا شبهة في أنّ المراد بالمؤمنين في آية نفي السبيل ـ خصوصاً بقرينة المقابلة مع الكافرين ـ هو المسلمون ; وهم المظهرون والمعترفون بنبوّة نبيّنا
- (1) في ص 246 .
(2) سورة النساء 4 : 34 .
(3) وسائل الشيعة : 29 / 107 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 47 .
(الصفحة 258)
محمد (صلى الله عليه وآله) وأنّه رسول من قبل الله ، وأنّ كلّ ما جاء به من الأحكام فهو حقّ ومن عند الله ، ويعترفون بوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وهو الذي ـ كما في الرواية الآتية ـ به حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج .
وبالجملة : المراد بالإيمان ما يوجب الخروج عن حدّ الكفر وتحقق الإضافة إلى الإيمان ، وعليه : فلا شبهة في عدم اختصاص الآية بالمؤمن في مقابل المخالف الذي هو اصطلاح خاصّ ، ولا في عدم اختصاصها بالمؤمن الذي يراد به من استقرّ في قلبه وورد الإسلام فيه ; كما يشعر به قوله تعالى في الأعراب : {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاِْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ}(1) .
ويدلّ على عدم الاختصاص رواية حمران بن أعين ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سمعته يقول : الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ ، وصدّقه العمل بالطّاعة لله والتسليم لأمره ، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة النّاس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدّماء ، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فخرجوا بذلك من الكفر واُضيفوا إلى الإيمان ـ إلى أن قال ـ : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام وغير ذلك؟ فقال : لا هما يجريان في ذلك مجرى واحد(2) ، الحديث .
وبالجملة : المراد بالمؤمن في الآية مقابل الكافر لا الأخصّ من المسلم .
ثمّ الظاهر عدم اختصاص الحكم في ناحية الكافرين وكذا في جانب المؤمنين
- (1) سورة الحجرات 49 : 14 .
(2) الكافي : 2 / 22 ح 5 ، وقطعة منه في وسائل الشيعة : 1 / 19 ، كتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات ب1ح 14 .