(الصفحة 69)
عادلا ، لكنّها أكشف للواقع وأصدق من شهادة سبعين مؤمناً وإن كانت متصفة بالتعدّد ، بل وبالعدالة أيضاً .
وفي خبر جرّاح المدائني ، عن الصادق (عليه السلام) : لا أقبل شهادة الفاسق إلاّ على نفسه(1) . فإذا قبلت شهادة الفاسق على نفسه ، فشهادة العادل عليها بطريق أولى ، ومرجع هذه الروايات إلى أنّ مسألة الإقرار من شؤون مسألة الشهادة . غاية الأمر أنّ لها خصوصيّة ; وهي عدم اعتبار التعدّد والعدالة فيها ، بخلاف الشهادة على الغير .
الرّابع : عدم الخلاف من أحد من علماء الإسلام بل إجماعهم كافّة على حجّية «إقرار العقلاء على أنفسهم» ونفوذه ومضيّته في الجملة(2) .
ولكن بملاحظة ما ذكرنا مراراً يظهر أنّه لا أصالة للإجماع في مثل المقام ممّا يوجد فيه نصّ معتبر ، إلاّ أن يكون الإجماع جابراً لضعف الرّواية على تقديره .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ عمدة الدليل على نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم هو بناء العقلاء ، ويكون مثل الحديث النبوي دليلا على الإمضاء ، فالحديث يمضي ما عليه بناء العقلاء ، وعليه : لا يكون دليلا مستقلاًّ في مقابله ، ولكن حيث يكون بناء العقلاء من الأدلّة اللبّية ودليل الإمضاء دليلا لفظيّاً ، لابدّ من المشي على طبق دليل الإمضاء والبحث في مفاده من جهة العبارات الواقعة والكلمات المستعملة فيه .
الجهة الثانية : في مفاد القاعدة ، وقد عرفت أنّه لابدّ في هذه الجهة من البحث في مفاد الحديث الذي هو دليل لفظي يتضمّن الإمضاء لما عليه بناء العقلاء .
فنقول : أمّا الإقرار، فمعناه لغةً وعرفاً هو الإثبات وجعل الشيء ذا قرار
- (1) الكافي : 7 / 395 ح 5 ، تهذيب الأحكام : 6 / 242 ح 600 ، وعنهما وسائل الشيعة : 23 / 186 ، كتاب الإقرار ب 6 ح 1 .
(2) المبسوط : 3 / 2 ـ 3 ، السرائر : 2 / 498 ، جواهر الكلام : 35 / 3 .
(الصفحة 70)
وثبات(1) ، ومعنى أقرّه على شغله : هو جعله ثابتاً على ذلك الشّغل ، ومعناه في المقام الذي هو بحث فقهي: هو إثبات المقرّ به وجعله ثابتاً .
وإضافة الإقرار إلى العقلاء لأجل خصوصية لهم في هذا الحكم ، وعدم شموله لغيرهم ممّن لا عقل له .
والمتفاهم من كلمة «على أنفسهم» كونه على ضررهم ; فإنّ كلمة «على» في مثل المقام بمعنى الضرر في مقابل «اللام» الذي بمعنى النفع ، مثل قوله تعالى : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(2) .
والمراد بالجواز كما أشرنا إليه في أوّل بحث القاعدة هو النفوذ والمضيّ لا الجواز مقابل الحرام ; لأنّ الجواز التكليفي لا يختصّ بالإقرار على النفس ، بل يشمل الإقرار للنفس ، كما أنّه لا يختصّ بخصوص العقلاء ، مع أنّه قد لا يكون الإقرار على النفس من العاقل بجائز شرعاً ، كما إذا علم بكذب إقراره ، فإنّه حينئذ حرام من جهة الكذب ، وربما ينطبق عليه عنوان محرّم آخر ; كقذف المحصنة فيما إذا أقرّ بالزنا بالمحصنة الفلانية ، مع أنّ الظاهر كما عرفت كون الحديث إمضاء لما عليه العقلاء ، ومرّ أيضاً أنّ العقلاء يجعلون الإقرار من الأمارات الظنّية القويّة ويعتمدون عليها ، فالمراد من الجواز هي الحجية التي عليها بناء العقلاء .
وأمّا الظرف ، فهل هو متعلّق بالإقرار كما هو ظاهر عبارة القاعدة ، ومرجعه إلى تقييد موضوع الحكم بالمضيّ بما إذا كان الإقرار على النفس وبضرره ، كتقييده بما إذا كان صادراً من العقلاء على ما تقتضيه إضافة الإقرار إليهم ، أو يكون متعلّقاً بالجواز والمضيّ ، ويكون الموضوع مطلق الإقرار ، ومرجعه إلى كون الحكم ـ وهو الجواز ـ مقيّداً بكونه على النفس وبضرر المقرّ؟
- (1) راجع تاج العروس : 7 / 381 .
(2) سورة البقرة 2 : 286 .
(الصفحة 71)
وعلى التقدير الأوّل ، فهل يكون الحكم بالجواز مطلقاً وغير مقيّد ، أو يكون هو أيضاً كموضوعه مقيّداً بما إذا كان على النفس ، ففي هذه الجهة ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أن يكون الظرف متعلّقاً بالإقرار وموجباً لتقييد الموضوع ، من دون أن يكون الحكم مقيّداً به أيضاً .
الثاني : أن يكون الظرف متعلّقاً بالحكم وموجباً لتقييده من دون ارتباط له بالموضوع ، والثمرة بين الاحتمالين تظهر فيما إذا كان الإقرار على ضرره ، ولكن كان له لازم يكون لنفعه ، كما لو أقرّ بولديّة مولود أو زوجيّة امرأة ; فإنّ الإقرار بالاُبوّة وكذا الزوجية كما يكون على نفسه من جهة وجوب إعطاء النفقة ، كذلك يكون لنفسه من جهة الإرث منهما على تقدير موتهما .
ففي هذا الفرض إن كان الظرف متعلّقاً بالإقرار ، وكان الحكم بالجواز مطلقاً ، يترتّب على إقراره كلا الأمرين ; لثبوت قيد الموضوع وكون الحكم مطلقاً ، فاللازم نفوذ إقراره في اللازم أيضاً كنفوذه فيما يرجع إلى ضرره .
وإن كان الظرف متعلّقاً بالجواز يكون مقتضاه النفوذ في خصوص ما يرجع إلى ضرر نفسه ، ولا يشمل اللازم بوجه .
الثالث : أن يكون الظرف متعلّقاً بكلا الأمرين ، لا بمعنى تعلّقه من الجهة النحوية بأمرين ، بل بمعنى تقدير على أنفسهم بعد الحكم بالجواز أيضاً ، فكأنّه قال : إقرار العقلاء على أنفسهم ، جائز على أنفسهم ، وعدم التصريح به لعدم الحاجة إليه ، كقوله تعالى : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}(1) حيث تكون كلمة «بهم» مقدّرة بعد قوله تعالى : {وَأَبْصِرْ} .
ومقتضى هذا الاحتمال أنّه إذا كان للإقرار مدلول التزاميّ لا يكون ضرراً على المقرّ لا تشمله القاعدة .
(الصفحة 72)
والظاهر بملاحظة فتاوى الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين بثبوت خصوص ما يرجع إلى ضرر المقرّ ، وبملاحظة ظهور عبارة القاعدة في كون الظرف متعلقاً بالإقرار ، هو هذا الاحتمال الثالث الذي يرجع إلى تقييد الموضوع والحكم معاً بكونه على النفس .
ولكن في المقام إشكال مهمّ أورده النراقي (قدس سره) في عوائده مفصّلا ، وخلاصته : أنّه إذا كان الإقرار بأمر واحد لا يمكن تحقّقه إلاّ بين اثنين ، كالإقرار بالزوجيّة في المثال المتقدّم ، يشكل الحكم بنفوذ الإقرار فيه ، بل لا يمكن الحكم به لا في حقّ المقرّ ولا في حقّ الغير ، أمّا في حقّ الغير فظاهر ، وأمّا في حقّه فلعدم إمكان تحقّقه بدون الثبوت في حقّ الغير ، وبعبارة اُخرى : إمّا يحكم بنفوذه في حقّهما ، فيلزم نفوذ الإقرار في حقّ الغير وهو باطل شرعاً ، أو بنفوذه في حقّه خاصّة دون حقّ الآخر وهو باطل عقلا ; لاستلزامه انفكاك ما يمتنع انفكاكه عن الشيء ، مع أنّه لو حكم بعدم النفوذ أيضاً لا يكون مخالفة فيه ; لعموم النبوي ; إذ الثابت منه نفوذ الإقرار في حقّ النفس ، وهذا إقرار بشيء واحد في حقّ النفس والغير ، فلا يشمله الخبر ، بل ليس ذلك متبادراً من الإقرار على النفس(1) .
والجواب عن هذا الإشكال : أنّ وروده يبتني على أن يكون مقتضى الحديث ، الحكم بالثبوت الواقعي التكويني ، فإنّه مع فرض تقوّم الشيء بشخصين واستحالة التفكيك بين أمرين لا يبقى مجال للتفكيك بوجه ، وأمّا إذا كان المراد هو الثبوت التعبّدي فلا إشكال في التفكيك ; لأنّ مرجعه إلى الحكم بالثبوت في مقدار دلّ دليل التعبّد عليه ، فإنّه في مثل المثال إذا كان زيد شاكّاً في بقاء زوجيّته المتيقّنة في السابق ، والزوجة عالمة بزوال الزوجية ، يكون مقتضى قاعدة «لا تنقض» الجارية في حقّ الزوج لزوم ترتيب آثار الزوجيّة من إعطاء النفقة ومثله ، ولا تجب على الزوجة
- (1) عوائد الأ يّام : 489 ـ 490 .
(الصفحة 73)
الموافقة مع العلم بزوالها ، وليس ذلك إلاّ لأجل كون الثبوت ثبوتاً تعبّدياً لا مانع فيه من تحقّق التفكيك بوجه .
كما أنّه لا مانع في الثبوت التعبّدي من التضادّ أصلا ، فإذا كان شخصان مشتركين في ثوب واحد ، وكان الثوب مشكوك النجاسة في زمان ، ولكن كانت حالته السابقة المتيقّنة الطهارة بالإضافة إلى أحدهما والنجاسة بالإضافة إلى آخر ، يكون مقتضى الاستصحابين النجاسة والطهارة معاً في ثوب واحد ، ولا مانع منه بعد فرض كون الثبوت تعبّدياً .
وبالجملة : لا مجال للإشكال في موارد الثبوت التعبدي بعد قصور دليل التعبد عن الشمول للمدلول الالتزامي ; فإنّه يتحقّق حينئذ الانفكاك من دون أن يكون هناك مانع .
إن قلت : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ في الاُصول العمليّة ، حيث إنّ مثبتاتها ليست بحجّة ، والحجّية مقصورة على المدلول المطابقي . وأمّا في باب الأمارات ، فقد اشتهرت حجيّة مثبتاتها وعدم انحصار الحجّية فيها بالمدلول المطابقي ، بل شمولها للمدلول الالتزامي أيضاً ، فإذا شهدت البيّنة مثلا بأنّ زيداً بلغ ثلاثين سنة ، فكما أنّ شهادتها حجّة في هذا المدلول المطابقي ، فكذلك حجّة في اللوازم العادية والعقلية أيضاً ، وقد مرّ أنّ الإقرار عند العقلاء من الأمارات الظنّية القويّة وقد أمضاها الشارع ، فاللازم أن يكون حجّة بالإضافة إلى اللّوازم أيضاً .
قلت : الفرق بين الاُصول والأمارات بما ذكرت ليس مستنداً إلى تعبّد في هذه الجهة بحيث كان مقتضاه التفكيك في الاُصول دون الأمارات ، بل لأجل أنّ دليل الأصل لا يشمل المدلول الالتزامي بوجه دون دليل الأمارة ، فإذا كان حياة زيد مشكوكة من حيث البقاء يكون مقتضى الاستصحاب الحكم بالبقاء ، ولكن لايلزم ترتيب آثار البقاء التي لم تكن متيقّنة في السابق ، بل كانت متيقّنة العدم كنبات