(الصفحة 170)
لأبيه واُمّه ، فقال (عليه السلام) : المال كلّه لابنته ، وليس للاُخت من الأب والاُمّ شيء ، فقلت : إنّا قد احتجنا إلى هذا ، والرجل الميّت من هؤلاء الناس ، واُخته مؤمنة عارفة ، قال : فخذ لها النصف ، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم وقضائهم وأحكامهم ، قال ابن أذينة : فذكرت ذلك لزرارة ، فقال : إنّ على ما جاء به ابن محرز لنوراً(1) .
ورواية محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سألت الرّضا (عليه السلام) عن ميّت ترك اُمّه وإخوة وأخوات ، فقسّم هؤلاء ميراثه ، فأعطوا الاُمّ السدس ، وأعطوا الإخوة والأخوات ما بقي ، فمات الأخوات ، فأصابني من ميراثه ، فأحببت أن أسألك : هل يجوز لي أن آخذ ما أصابني من ميراثها على هذه القسمة ، أم لا؟ فقال : بلى ، فقلت : إنّ اُمّ الميّت فيما بلغني قد دخلت في هذا الأمر ، أعني الدين ، فسكت قليلا ثمّ قال : خذه(2) .
وغير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال ، ولا يبقى للفقيه بملاحظة ما ورد في المسألة منها ريب ولا شك في صدور هذه القاعدة منهم (عليهم السلام) ، فالإشكال من جهة المدرك والمستند لا سبيل إليه أصلا .
الجهة الثانية : في شرح مفاد القاعدة ، فنقول : أمّا ما ورد فيه من الروايات التعبير بقوله (عليه السلام) : «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم» . فمعناه بحسب الظاهر : أنّ المخالفين كلّ ما يرون أنفسهم ملزمين به من جهة أحكامهم الدينية ، ويعتقدون بثبوت ذلك عليهم ، فألزموهم بذلك . وإن لم يكن ذلك ثابتاً في الأحكام الدينية بحسب اعتقادكم ، مثل ما ورد في كثير من الروايات المتقدّمة من الطلاق ثلاثاً في
- (1) تهذيب الأحكام : 9 / 321 ح 1153 ، الاستبصار : 4 / 147 ح 552 ، الكافي: 7 / 100 ح 2، وعنها وسائل الشيعة : 26 / 158 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ب 4 ح 2 .
(2) تهذيب الأحكام : 9 / 323 ح 1161 ، وعنه وسائل الشيعة : 26 / 159 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الإخوة والأجداد ب 4 ح 6 .
(الصفحة 171)
مجلس واحد ; فإنّهم حيث يرون ذلك موجباً لتحقّق الفراق بين الزوجين ، فيعامل معهم معاملة ذلك .
وعليه : فلا مانع للشيعي الذي يرى خلاف ذلك ـ وأنّ الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد باطل ، ولا يوجب تحقّق الفراق ـ أن يتزوّج بالمطلّقة كذلك ; لأنّهم التزموا بحصول البينونة وتحقّق الفراق ، فيلزمون بذلك ويتزوّج بالمرأة الكذائية .
وعليه : ففي كلّ مورد يلتزم المخالف بمقتضى مذهبه بورود ضرر عليه ; سواء كان ذلك الضرر ماليّاً ، كما إذا اعتقد بكون أمر سبباً للضمان ولم يكن كذلك عندنا ، أو ذهاب حقّ منه ، أو وقوع طلاق ، أو عتق عبد ، أو شركة غيره في ميراثه ، أو مثل ذلك من الاُمور التي يرون أنفسهم ملزمين بها ومجبورين عليها ، فللموافق إلزامه فيها وان كان ذلك مخالفاً لاعتقاده .
وعليه : فمقتضى عموم الموصول في قوله (عليه السلام) : «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم» ، جريان هذا الحكم في جميع موارد الإلزام التي هي كثيرة .
منها : الحلف بالطلاق والعتاق ، وصدقة ما يملك ، فإنّهم يرونه سبباً لوقوع هذه الاُمور من الطلاق وأخويه ، مع أنّه لا يكون الأمر كذلك عندنا معاشر الإماميّة ، فإذا تحقق الحلف بذلك ، فلا مانع من التزويج بالمطلّقة الكذائية ، والتعامل مع العبد معاملة الحرّ ، وهكذا .
وأمّا ما ورد فيه التعبير بقوله (عليه السلام) : «تجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون» ، فالظاهر بعد كون المراد بالجواز هو النفوذ والمضيّ ، وكون كلمة «على» ظاهرة في الضّرر ، أنّ أصحاب كلّ دين ، أي المتدينين به الملتزمين بأحكامه ، ينفذ عليهم وبضررهم ما يستحلّون ، مثلا إذا كانوا يستحلّون أكل العصبة نصف المال من تركة الميّت ، فينفذ هذا الحكم عليهم ، فإذا كانت العصبة من أهل الولاية يجوز لهم أن يأخذوا منهم نصف تركة الميت ، كما قد وقع التصريح به في
(الصفحة 172)
رواية ابن محرز المتقدّمة .
وقد ورد فيها تعليل الحكم بقوله (عليه السلام) : «خذوا منهم ما يأخذون منكم» ، وظاهره أنّه يعامل معهم المعاملة بالمثل ، فإذا كان الميت عارفاً والورثة غير عارفين ، حيث يأخذون للعصبة نصيبهم ويحكمون بثبوت الإرث لهم ، ففي عكس هذه الصورة يؤخذ للعصبة العارفين نصيبهم ويحكم بثبوت الإرث لهم ، وإن لم يكن ذلك موافقاً لمعتقده ، وفي بعض أخبار الطلاق تعليل الحكم بأنّه «لا تترك المرأة بغير زوج» ، وفيه إشارة إلى أنّه لولا هذه القاعدة يلزم أن تترك المرأة بلا زوج ; لفرض بطلان الطلاق عندنا .
ثمّ إنّ الظاهر أنّ المخاطب في قوله (عليه السلام) : «ألزموهم» ، وكذا في قوله (عليه السلام) : «خذوا» ، في الروايات المتقدّمة ، هم الطائفة المحقّة الإثنى عشرية القائلون بإمامة الأئـمّة المعصومين (عليهم السلام) بأجمعهم ، كما أنّ الظاهر أنّ مرجع ضمير الجمع في قوله (عليه السلام) : «ما ألزموه أنفسهم» ، وكذا في قوله (عليه السلام) : «ما يأخذون» ، هم المسلمون من سائر الطوائف غير الإماميّة الإثنى عشريّة ، ولا يشمل أرباب سائر الأديان والملل .
وعليه : فلو فرض اختلاف سائر الطوائف غير الإماميّة في حكم إلزاميّ ، فهذا خارج عن دائرة القاعدة ، كما أنّه لو طلّق ذميّ زوجته بطلاق صحيح عنده ، ولكنّه لا يكون صحيحاً عندنا ، فلا تشمله القاعدة .
نعم ، يمكن التمسك للشمول بما ورد في رواية محمد بن مسلم المتقدّمة من قوله (عليه السلام) : «تجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون» ، أو بالتعليل المشار إليه آنفاً ; وهو قوله (عليه السلام) : «لا تترك المرأة بغير زوج» ; لجريان هذه العلّة في الكافر المطلق أيضاً ، أو بما ورد في رواية ابن طاووس المتقدّمة من قوله (عليه السلام) : «من دان بدين قوم لزمته أحكامهم» .
إلاّ أن يقال : إنّ المراد بالدين في رواية محمد بن مسلم ليس هو المذهب ، بل
(الصفحة 173)
المراد به أصل الدين كالإسلام ، وعليه فالرّواية لا تكون من روايات قاعدة الإلزام المعروفة ، ولكنّه يبعّده استعمال الدين في رواية ابن طاووس مع كون موردها المخالف لا غير المسلم ، وعليه : فهاتان الروايتان مفادهما العموم .
وأمّا التعليل فيمكن المناقشة فيه ، بعد ملاحظة أنّ انتفاء القاعدة والحكم بعدم جواز التزويج بالمطلقة الكذائية في مذهبنا ، لا يستلزم أن تترك المرأة بلا زوج ; لجواز أن تتزوّج بالمخالف ، خصوصاً مع كثرتهم وقلّة الطائفة المحقّة ; فإنّها حينئذ تتزوّج من القائل بصحة هذا الطلاق ، وعليه : فلا تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل ، بل تكون حكمة للحكم ، والحكمة لا يدور مدارها الحكم إثباتاً ونفياً .
ولكن عرفت عموم الرّوايتين وشمولهما بالإضافة إلى غير المسلم ، وكذا المخالف بالإضافة إلى المالك ، وعليه : فلا مانع من أخذ الثمن من الكافر ولو كان المبيع غير قابل للبيع في الإسلام ; لالتزامهم بالملكية وصحة المعاملة وانتقال الثمن إلى البائع ، فيتحقق حينئذ طريق إلى صحّة المعاملات الواقعة بين الحكومة الإسلامية والحكومات الكافرة في الأشياء التي لا سبيل إلى مبايعتها في الشريعة ، وتكون باطلة فيها ، كما لا يخفى .
الجهة الثالثة : لا شبهة في أنّ مفاد قاعدة الإلزام التي مدركها الروايات المتقدّمة ، هو جواز الأخذ ممّن دان بدين بمقتضى ما التزم به في دينه ، فيجوز مثلا التزويج بالمطلّقة ثلاثاً وإن كان هذا الطلاق باطلا عندنا ، لكنّ البحث في أنّ ما تدلّ عليه هذه الروايات هل هو الحكم الواقعي ، غاية الأمر كونه ثانويّاً ، أو أنّ مفادها الإباحة الصّرفة ، والفرق أنّه على الأوّل يكون في مثال الطلاق اعتقاد الزوج المخالف بصحّة طلاقه وكونه موجباً لتحقق الفراق ، موجباً لجعل الصحّة واقعاً ، ويكون هذا العنوان عنواناً ثانويّاً موجباً لانقلاب الحكم الواقعي في حقّه ، نظير الانقلاب في موارد الاضطرار ; فإنّه لو اضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر يكون
(الصفحة 174)
الاضطرار موجباً لحليته واقعاً .
وأمّا على الثاني فالواقع لا يتبدلّ بسبب اعتقاد المخالف بالصّحة ، بل الطلاق فاسد بالنسبة إليه أيضاً ، وتكون المطلقة باقية على الزّوجية بعد ، غاية الأمر أنّ الشارع أباح لنا التزويج بتلك المرأة التي طلّقت كذلك .
أقول : ينبغي أوّلا : ملاحظة أنّ المراد بالإباحة هل هي الإباحة الظاهرية ، كما هو ظاهر مقابلتها للحكم الواقعي ، أو أ نّ المراد بها الإباحة الواقعية؟ الظاهر أنّه لا محيص عن الحكم بكون هذه الإباحة على تقديرها إِباحة واقعية ، ضرورة أنّ التزويج بتلك المرأة التي وقع عليها ذلك الطلاق حلال واقعاً لا ظاهراً ، كما في قوله (عليه السلام) : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه(1) .
وثانياً : أنّ الإباحة ممّا لا أساس له ; لأنّ مرجعها إلى إِباحة تزويج المزوّجة ; لأنّ المفروض بطلان طلاقها وكونها في حبالة الزوج المطلّق بعد ، وهذا لا مجال لإسناده إلى متشرّع عاديّ فضلا عن الإمام المعصوم (عليه السلام) ، فالإباحة ممّا لا معنى له ، وإن كان ظاهر العبارة المحكية عن المرحوم الشيخ حسن آل كاشف الغطاء في كتابه «أنوار الفقاهة» ذلك ; إِذ قال :
فظهر ممّا ذكرنا أنّ طلاق المخالفين يمضي عليهم وإن كان فاسداً عندنا ، وهذا الحكم عامّ لكلّ صور الطلاق على غير السنّة ; سواء تعلّق بمؤمنة أو بمخالفة ; فإنّه يحكم بوقوعه على وفق مذهبه بالنسبة إلينا ، وإن كان فاسداً في الواقع ، وكذا بالنسبة إليهم ، ولا منافاة بين البطلان ، وبين إجراء حكم الصحة بالنسبة إلينا لطفاً منه ، فهي وإن كانت زوجة لهم ولكنّها حلال لنا وحرام عليهم ، أو يقال : هو
- (1) الكافي : 5 / 313 ح 40 ، تهذيب الأحكام : 7 / 226 ح 989 ، وعنهما وسائل الشيعة : 17 / 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 .