(الصفحة 291)
والأخذ به ; سواء كان عقاباً في الآخرة ، أو أمراً ضرريا عليه في الدّنيا ، كضمانه وتغريمه وتعزيره ، فله معنى عامّ يشمل الجميع ، وهذا إجمال معنى القاعدة ، وسيأتي التفصيل في الموقف الثاني إن شاء الله تعالى .
الثاني : حكم العقل بقبح مؤاخذة المحسن على إحسانه ، ولعلّه إليه يشير قوله تعالى : {هَلْ جَزَاءُ الاِْحْسَانِ إِلاَّ الاِْحْسَانُ}(1) ; فإنّ مرجعه إلى أنّ مكافأة الإحسان لا تلائم مع الإساءة بل تنحصر في الإحسان ، وبعبارة اُخرى : المحسن منعم ، والمنعم شكره إنّما هو بالإحسان إليه ، ويقبح كفرانه بنظر العقل ، فلا معنى للحكم بضمانه في مورد إحسانه .
مثلا إذا رأى مال الغير في معرض التلف ، كما إذا ذهب به السيل أو أطار به الريح مثلا ، فأخذه بقصد حفظه وإيصاله إلى مالكه ليتمكّن من التصرّف فيه والاستفادة منه ، فحفظه في محلّ معدّ للحفظ عرفاً ، ولكنّه على خلاف الانتظار قد سرق أو خرب السقف مثلا فتلف المال ، فهل الحكم بضمانه في هذه الصورة وأخذ المثل أو القيمة منه ملائم لإحسانه ، أو أنّه قبيح عند العقل؟
وهكذا في سائر الموارد المشابهة ; مثل الوديعة التي أخذها المستودع إحساناً للمودع فحفظها في مكان كذلك ، ثمّ عرض لها التلف بمثل ما ذكر ، فهل يجوز عند العقل الحكم بتغريمه وتضمينه وأخذ المثل أو القيمة منه؟
وربما يجاب عن هذا الوجه بأنّه صرف استحسان ، مع أنّ إثبات الحكم الشرعي على موضوع ، أو نفيه عنه لا يجوز بالظنون الاستحسانية ، بل لابدّ من قيام دليل وحجّة ثبتت حجيته بالحجية القطعية ، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف ، أو يد غير مأذونة ، أو تعدٍّ ، أو تفريط من الأمين ، أو غير ذلك من أسباب
- (1) سورة الرحمن 55 : 60 .
(الصفحة 292)
الضمان ، لا يصحّ الحكم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان(1) .
وأنت خبير بأنّ اتلاف مال الغير لا يجتمع مع الإحسان . نعم ، في ما إذا لم يكن الإتلاف عن عمد والتفات يمكن الاجتماع ، وكذلك التعدّي والتفريط لا يجتمعان مع الإحسان ، والمراد بالإذن إن كان أعمّ من المالك والشارع لا يتحقّق مورد من موارد الإحسان يكون خالياً عن إذن واحد منهما ، كما لا يخفى .
وعلى ما ذكرنا يرد على هذا الوجه أنّ الحكم بعدم الضمان في غير مورد الإتلاف والتعدّي والتفريط لا يكون مستنداً إلى قاعدة الإحسان ، بل إلى عدم الدليل على الضمان ; لاختصاص قاعدة ضمان اليد بغير اليد المأذونة من قبل المالك أو الشارع ، ولا دليل على الضمان غير هذه القاعدة .
نعم ، لو فرض عنوان موجب للضمان ومجتمع مع عنوان الإحسان كالإتلاف في حال النوم مثلا في الموارد المذكورة ، لا مانع من الحكم فيه بعدم الضمان وإن كان مقتضى قاعدة الإتلاف ثبوته ; لأنّ حكم العقل بعدم مكافأة الإحسان بالإساءة والتغريم حكم عقليّ قطعي ، ولا مجال لدعوى كونه من الظنون الاستحسانية غير القابلة لإثبات الحكم أو نفيه .
الثالث : الإجماع(2) على ثبوت هذه القاعدة على ما يظهر من تتبّع كلمات الأصحاب ; فإنّ الفقهاء يستدلّون بها في كتبهم وفتاويهم في موارد كثيرة ، فتراهم يستدلّون بها على عدم ضمان المستودع إذا كان المال عنده في مكان معدّ للحفظ ومناسب له ، ثمّ غيّر مكانه إلى مكان آخر يعتقد أنّه أحفظ من المكان الأوّل ، ولكنّه قد انكسرت الوديعة أو تلفت في حال النقل ; نظراً إلى كونه محسناً في هذا النقل ،
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 4 / 13 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 146 ـ 147 .
(الصفحة 293)
ولا معنى لثبوت الضمان عليه للقاعدة(1) ، وهكذا الموارد الاُخرى الكثيرة التي حكم فيها بعدم الضمان معلّلا بالقاعدة(2) .
ولكنّ الظاهر عدم اتّصاف الإجماع بالأصالة والكاشفية عن رأي المعصوم (عليه السلام) ، بل استناده إلى الآية الشريفة كما يصرّحون به كثيراً ، ويؤيّده تعبيراتهم المقتبسة من الآية من الإحسان والسبيل وغيرهما ، فالإجماع لا يكون حجّة برأسه في مقابل الآية ، كما لا يخفى .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا الموقف أنّه لا مجال للإشكال في القاعدة من حيث المدرك والمستند .
الموقف الثاني : في بيان المراد من هذه القاعدة وشرح معناها ، والعمدة في هذا الموقف أيضاً ترجع إلى توضيح المراد من الآية الشريفة(3) ، فنقول : التكلّم في الآية من جهتين :
الجهة الاُولى : في بيان المراد من مفردات الآية ; وهي عنوان الإحسان ومفهوم السبيل ، وكلمتا «ما» و«على» فنقول :
لا إشكال في أنّ «ما» نافية ، والغرض منها إفادة نفي السبيل وعدم ثبوته على المحسن ، كما أنّ كلمة «على» للضرر ، ومرجعها إلى عدم ثبوت سبيل وحكم يوجب تضرّر المحسن والإساءة إليه المقابلة للإحسان .
وأمّا «السّبيل» فقد عرفت أنّه بلحاظ موارد الآيات وشأن نزولها يشمل العذاب الاُخروي والعقوبة في عالم الآخرة ، ولكنّه لا يختصّ بها ; لأنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، بل قوله تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل} واقع في مقام إفادة
- (1) مسالك الأفهام : 5 / 117 ـ 118 .
(2) جامع المقاصد : 6 / 157 ، تذكرة الفقهاء : 2 / 256 ط الحجري .
(3) سورة التوبة 9 : 91 .
(الصفحة 294)
قاعدة كلّية وضابطة عامّة ، غاية الأمر لابدّ وأن يكون شاملا للمورد ; وهو العذاب الاُخروي لئلاّ يلزم الاستهجان ، فالسبيل له معنى عامّ يشمل ذلك ، والتكاليف الشاقّة ، والأحكام الضرريّة الدنيوية ، مثل الضمان والتعزير وشبههما .
وأمّا الإحسان ، فهل المراد منه خصوص جلب المنفعة ، أو خصوص دفع المضرّة ، أو يعمّ كلاهما؟ وجوه واحتمالات ، ربّما يقال بالثاني كما حكاه صاحب العناوين عن شيخه الاُستاذ(1) ، ولكنّه اختار نفسه الوجه الثالث ; نظراً إلى شمول اللفظ لكليهما ، بل ربما يكون صدقه على إيصال النفع أوضح وأظهر من صدقه على منع المضرّة ودفعها .
والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في العموم والشمول بمقتضى مفهوم اللفظ ومعنى الإحسان ، ولكنّه هنا موارد قد حكموا فيها بالضمان ; وهي من موارد جلب المنفعة ; كما إذا أخذ دابّته بغير إذنه وذهب بها إلى المرعى لأن ترعى فيه ، أو نقل متاعه كذلك إلى مكان للبيع بالثمن الأوفى ، أو أخذ ماله كذلك للاسترباح به ، ونحو ذلك ; فإنّه يكون مشتملا على جلب المنفعة ، ومع ذلك قد حكموا فيها بالضمان ; لأنّ الإستيلاء على مال الغير كان بغير إذنه ، فإن قلنا بأنّها من موارد قاعدة الإحسان يلزم الإلتزام بالتخصيص في مفادها ، وسياقها آب عن التخصيص ، فاللاّزم بعد ثبوت الضمان فيها وعدم جريان المناقشة فيه الالتزام بخروجها عن عنوان الإحسان المذكور في الآية الشريفة .
نعم ، ربما يقال : إنّ كون وضع اليد على مال الغير إحساناً ، إنّما يكون كذلك في صورة دفع المضرّة ، أمّا في صورة جلب المنفعة فليس إثبات اليد جلب نفع ، بل إيصال النفع إنّما هو بشيء آخر ، فيتعلّق الضمان بإثبات اليد ، ولا ينفع بعد ذلك الإحسان المتأخّر .
(الصفحة 295)
ويرد عليه ـ مضافاً إلى النقض بدفع المضرّة ; فإنّ المال قد يؤخذ من يد السارق مثلا ، وقد يؤخذ من مكان يجري فيه احتمال السّرقة بعداً ، والفرض الثاني مماثل للأمثلة المذكورة في جلب المنفعة ـ : أنّ الإثبات بقصد الإحسان المتأخّر نفسه إحسان ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه هل يعتبر في مفهوم الإحسان مجرّد القصد إليه واعتقاد كون عمله إحساناً وإن لم يكن في الواقع كذلك ، أو يعتبر الواقع ; بأن يكون العمل بحسب الواقع دفع مضرّة ومنعها ، أو يعتبر الأمران معاً ، فلا يتحقّق الإحسان إلاّ بعد كونه بحسب الواقع كذلك ، وكان اعتقاده مطابقاً للواقع ، فلو سقى الدابّة بلحاظ كونها عطشى وكانت في الواقع كذلك ، يكون هذا السقي متّصفاً بالإحسان ، فلو تلفت الدّابة في حال السقي مثلا لا يكون على الساقي المحسن ضمان ، وهذا بخلاف ما لو اختلّ أحد الأمرين من الاعتقاد والواقع؟ وجوه واحتمالات .
يظهر ثالثها من صاحب العناوين(1) ، وثانيها من المحقق البجنوردي ، وقد استدلّ الأخير بأنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم التي اُخذت موضوعاً للحكم الشرعي هو واقعها والمعنى الحقيقي لها ، ولا شك في أنّ العرف لا يفهم من لفظ الإحسان غير ما هو المعنى الحقيقي له(2) .
أقول : لا خفاء في كون الظاهر من العناوين هو المعنى الحقيقي لها ، إنّما البحث في ذلك المعنى الحقيقي ، وأنّه هل يعتبر فيه القصد والاعتقاد كالعناوين القصدية التي تكون معانيها الحقيقية متقوّمة بالقصد ، أو يعتبر فيه واقع دفع المضرّة ومنعها وإن لم يكن مقصوداً بل ولا معتقداً به بوجه ، أو يعتبر فيه كلا الأمرين؟ هذا ، والظاهر بحسب نظر العرف هو الأخير ، أمّا اعتبار مصادفة الواقع فلا شبهة فيه ، غاية الأمر
- (1) العناوين : 2 / 477 ـ 478 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 4 / 12 .