(الصفحة 114)
الضمان تأمّل وإشكال ، بل لأجل أنّها أيضاً مال مأخوذ ، أمّا كونها مالا ، فلأنّه يبذل بإزائها المال في باب الإجارة ، وقد شاع تفسير الإجارة بأنّها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم ، فالعوض يقع في مقابل نفس المنفعة .
وأمّا اتّصافها بكونها مالا مأخوذاً ، فلأجل تحقّق الاستيلاء عليها ، غاية الأمر أنّ وقوعها تحت اليد إنّما هو بتبع وقوع العين تحتها . ولذا يقولون بأنّ قبض المنفعة في باب الإجارة بناءً على التفسير المزبور ـ وإن كان على خلاف التحقيق ـ إنّما هو بقبض العين ، فهي أيضاً مأخوذة ومقبوضة ، غاية الأمر بتبع أخذ العين وقبضها ، فالقاعدة تشمل المنافع المستوفاة .
وممّا ذكرنا تظهر دلالة القاعدة على ضمان المنافع غير المستوفاة أيضاً ; لأنّ الاستيفاء لا دخل له في صدق الأخذ ; فإنّ الأخذ تعلّق بالمنافع بتبع تعلّقه بالعين ; سواء استوفاها كما إذا سكن في الدار المأخوذة ، أم لم يستوفها كما إذا لم يستفد من الدار المأخوذة شيئاً .
نعم ، ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في حاشية المكاسب إشكالا في شمول القاعدة للمنافع ، وهو : أنّه لا تصدق التأدية في المنافع مطلقاً ، وظاهر قوله (عليه السلام) : «حتّى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاةً بأداء نفس المأخوذ ، والمنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حدّ ذاتها ، لا كالعين التي لها أداء في حدّ ذاتها وإن عرضها الامتناع ابتداءً أو بقاءً ، وفرض اتحاد الموجود التدريجي مع المنفعة ـ فيصدق الأخذ بالاستيلاء على طرف هذا الواحد ، والأداء بأداء طرفه الآخر ـ لا يكاد يفيد شيئاً ; لأنّ المراد ضمان الفائت أو المستوفى ، فأداء ما لم يفت ولم يستوف غير مجد في ارتفاع ضمان المأخوذ باستيفائه ، أو بالاستيلاء عليه مع فواته(1) .
ويمكن الجواب عنه بأنّه تصدق التأدية في المنافع مطلقاً ، أمّا ابتداءً فكما أنّ
- (1) حاشية كتاب المكاسب للمحقق الإصفهاني : 1 / 317 ـ 318 .
(الصفحة 115)
أخذها إنّما هو بتبع أخذ العين ، كذلك أداؤها إنّما هو بأداء العين ، ولذا يصدق في باب الإجارة أنّ المالك أقبض المنفعة بإقباض العين ، فإقباضها إنّما هو بالتبع . وأمّا استدامة فلابدّ من تنزيله منزلة تلف العين ، فكما أنّ الأداء في صورة التلف إنّما يتحقّق باداء المثل أو القيمة ، فكذلك أداء المنافع إنّما يتحقّق بأداء عوضها ، ولا دلالة في الحديث على اختصاص الحكم بما إذا أمكن تحقّق الغاية ، وهو الأداء بقاءً بالإضافة إلى نفس المال المأخوذ ، حتّى يقال بخروج المنافع عن ذلك ; لعدم إمكان صدق الغاية بالإضافة إلى نفسها بقاءً ، بل يكفي إمكان تحقّق الغاية كذلك ولو ابتداءً .
مضافاً إلى أنّ بعض الأعيان أيضاً لا تجرى فيه الغاية بقاءً ، كالعين التي تتلف تدريجاً ، كالثلج في الصيف ; فإنّه لا يمكن أداؤها بقاءً بعد فرض كونها في حال الذوب والانعدام ، ودعوى خروج مثلها عن القاعدة ممنوعة جدّاً كما لا يخفى ، فالإنصاف أنّه لا مجال لإخراج المنافع مطلقاً عن مورد القاعدة .
وربما يستدلّ لضمان هذه المنافع ـ أي المنافع غير المستوفاة ـ بقاعدة التفويت التي هي قاعدة عقلائية ، وهي : أنّ من فوّت مال الغير عليه فهو له ضامن ، بناءً على اعتبارها في الشرع أيضاً ، ولكن حيث إنّ الكلام ليس في الحكم بضمان هذه المنافع مطلقاً ، بل من جهة اقتضاء قاعدة ضمان اليد له وعدمه ، فلا مجال للبحث في غيرها ، مع أنّ شمول قاعدة التفويت لجميع أقسام المنافع غير المستوفاة محلّ نظر ، بل منع .
ثمّ إنّه لو كانت للعين منافع متضادّة غير قابلة للاجتماع في زمان واحد ، كما إذا كان العبد المغصوب عارفاً بالكتابة والخياطة معاً ، فهل يضمن المستولى له الجميع ، أو يضمن الأكثر مالية ، أو أحدها بنحو التخيير ، والتخيير للمالك أو الضامن؟ فيه وجوه واحتمالات : لا يبعد أن يقال بالتفصيل بين ما لو كان المدرك للحكم بالضمان
(الصفحة 116)
هي قاعدة اليد التي يبحث عنها في المقام ، وبين ما لو كان المدرك له مثل قاعدة التفويت .
فعلى الأوّل : يحكم بضمان جميع المنافع ولو كانت متضادّة ، لأنّ الملاك هو تحقّق الاستيلاء وصدقه ، وقد عرفت أنّ الاستيلاء على المنافع إنّما هو بتبع الاستيلاء على العين ، فإذا كانت للعين منافع يصدق الاستيلاء على الجميع ، والتضادّ بين بعضها الراجع إلى عدم إمكان الاجتماع في الوجود وفي مقام الاستيفاء ، لا يرتبط بمقام الاستيلاء الذي هو الملاك للضمان . وبعبارة اُخرى : التضاد راجع إلى مقام الاستيفاء ، وهو غير دخيل في الضمان أصلا ، مع أنّ ترجيح بعض المنافع على بعض ترجيح من غير مرجّح .
وعلى الثاني : يحكم بضمان خصوص المنفعة التي هي أكثر مالية من غيرها ; لعدم صدق التفويت بالإضافة إلى الجميع ، بعد فرض التضادّ وعدم إمكان الاجتماع ; لأنّ فوت الجميع حينئذ يستند إلى التضادّ ، غاية الأمر أنّه حيث كانت المنفعة التي هي أكثر مالية ممكنة التحقّق والحصول ، فيصدق تحقّق التفويت بالنسبة إليها ويقال بأنّ الاستيلاء صار سبباً لفوتها ، ولولاه لكان للمالك استيفاؤها ، كما لا يخفى .
وأمّا من الجهة الثالثة : وهي شمول الموصول للحرّ وشبهه وعدمه .
فنقول : ربما يناقش في الشمول ; نظراً إلى أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، كما أنّه ربما يجاب عنه بأنّ اليد عبارة عن التصرّف على وجه الاستيلاء والقهر ، وهو أمر عرفي موجود في غصب الحرّ أيضاً ; إذ العرف لا يفرّق من حيث اليد بين كون المغصوب عبداً أو حرّاً ، ولكن منع الشمول المحقّق الرشتي (قدس سره) (1) في كتابه في
- (1) كتاب الغصب للمحقق الرشتي : 13 .
(الصفحة 117)
الغصب ، وملخّص كلامه الطويل في وجه المنع اُمور ثلاثة :
الأوّل : أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد الكاشفة عن الملكية ، وإذا كان الشيء غير واجد لصفة المملوكية ، امتنع تعلّق اليد به على الوجه المزبور كما في الحرّ ، لأ نّه لا يكون قابلا لصفة المملوكية ; لكونه مالكاً والمالك لا يكون مملوكاً ; لتحقّق التضاد بينهما ، وعليه : فلا يدخل تحت اليد المبحوث عنها ، ومن هنا حكم العلاّمة(1) بأنّ لباس الصغير الحرّ المغصوب غير مضمون كنفسه .
ووجهه : أنّ الصغير وإن كان مقهوراً في يد الغاصب ، مع كونه ممّن لا يقدر على نفسه نفعاً ولا ضرراً ، إلاّ أنّ صفة الاختصاص الملكي المأخوذ في معنى اليد عرفاً ، لمّا لم تكن موجودة فيه ، لم يصدق على ذلك القهر اليد ، وإذا لم تتحقّق اليد على الصغير نفسه ، فلا تتحقّق أيضاً بالنسبة إلى لباسه الذي هو لابسه ; لأنّه باعتبار استقلاله الذاتي ومالكيّته يكون صاحب اليد على لباسه .
أقول : يرد على هذا الأمر ـ بعد وضوح بطلان ظاهر صدر كلامه ، من أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد الكاشفة عن الملكية ، ضرورة أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد التي اُحرز كونها عادية أو غير مأذونة على الاحتمالين المتقدّمين ، واليد الكاشفة عن الملكيّة هي اليد المشكوكة المقرونة باحتمال ثبوت الملكيّة ، واحتمال عدمها ، فكيف يعقل اتّحادهما؟ أنّه لابدّ من توجيه كلامه ، ويجري في هذا المجال احتمالان :
أحدهما : أن يكون مراده (قدس سره) أنّه وإن كانت اليد في القاعدتين : ـ قاعدة ضمان اليد ، وقاعدة أمارية اليد ـ مختلفة لا محالة ، إلاّ أنّ الاختلاف إنّما هو بالإضافة إلى صفة اليد وقيدها ، فاليد في قاعدة الضمان موصوفة بوصف العادية أو غير المأذونة ،
- (1) تحرير الأحكام : 4 / 523 .
(الصفحة 118)
وفي قاعدة الأمارية موصوفة بوصف المشكوكية ، إلاّ أنّ الظاهر وحدة المراد من نفس اليد التي هي الذات الموصوفة في القاعدتين ، فإذا كان المراد من اليد في قاعدة الأمارية ظاهرة في اليد على الشيء ، القابل لصفة المملوكية ; ضرورة أنّه لا تكون أمارة على الملكية ، فاليد على الخمر والخنزير لا تكون أمارة على ملكيّتهما ، كذلك اليد في قاعدة الضمان المبحوث عنها في المقام ; لظهور وحدة المراد في اليد التي هي الموضوع في القاعدتين ، وعليه : فلا تشتمل القاعدة الحرّ ; لعدم شمول قاعدة الأماريّة له .
ثانيهما : ما يشعر به ذيل كلامه ، بل يظهر منه من أنّ الاختصاص الملكي الذي يعتبر في القاعدة مأخوذ في معنى اليد عرفاً ، بحيث لا تصدق اليد بدونه كذلك .
والجواب عن الاحتمال الأوّل : أنّه لا دليل على اتّحاد القاعدتين في المراد من اليد المأخوذة فيهما ; فإنّ اليد في قاعدة الأمارية باعتبار كونها مجعولة أمارة على الملكية، فمقتضى تناسب الحكم والموضوع أن يكون المراد بها هي اليد على ما يكون قابلا لتعلّق وصف الملكيّة به وثبوت المملوكيّة له ; لأنّه لا معنى لكون اليد على غير الملك كالحرّ ونحوه كاشفة عن الملكية وأمارة لها .
وأمّا في قاعدة الضمان المستفادة من حديث «على اليد» فالحكم المجعول فيها هو الضّمان ، ولا دليل على اختصاص موضوعه بخصوص اليد على المملوك ، بعد عموم الموصول وشموله لمثل الحرّ ، وعدم منافاة الحكم بالضمان له أصلا ، فلا مجال لرفع اليد عن العموم .
هذا، مضافاً إلى ما عرفت(1) في أوّل البحث عن القاعدة ، من عدم اختصاص قاعدة أمارية اليد بما إذا كان هناك شك في الملكية وكون ذي اليد مالكاً ، بل تجري