(الصفحة 65)قاعدة إقرار العقلاء
ومن القواعد الفقهية المعروفة قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» والمراد هو الجواز الوضعي ; بمعنى النفوذ والمضيّ ، كما سيأتي التكلّم فيه إن شاء الله تعالى ، وفي هذه القاعدة جهات من البحث :
الجهة الاُولى : في مدركها ، وهو اُمور :
الأوّل : كونها من الأمارات الظنيّة القويّة التي بنى على حجيّتها العقلاء من الملل كافّة ، سيّـما القضاة والحكّام في جميع الأقطار والأمصار والأعصار ، ولم يردع عنها الشارع بل بنى على امضائها ، كما نشاهده في باب الحدود ، والديات ، والقصاص ، والقضاء وغيرها .
أمّا بناء العقلاء على الاعتماد على إقرار العاقل ، فلأنّه ـ بعد فرض كون المقرّ عاقلا ، والعاقل لا يصدر منه ما لا يجتمع مع العقل ـ لابدّ وأن يكون الوجه لإقراره إمّا بيان الواقع ; لانزجار نفسه عن الخلاف الذي صدر عنه ; كالسرقة والقتل والغصب وأمثاله ، أو تخفيف العذاب الاُخروي كالزنا وشبهه ، وقد وقع في بعض
(الصفحة 66)
الروايات الواردة في مورد الإقرار بالزّنا التعبير بـ«طهّرني»(1) الدالّ على أنّ إقراره الموجب للحدّ إنّما هو لأجل حصول الطّهارة والنظافة من القذارة المعنوية المتحقّقة بسبب الزّنا ، فالداعي إلى الإقرار هو التخلّص في الجملة من العذاب الاُخروي .
نعم ، ربما يمكن أن يتحقّق الإقرار من دون أن يكون لبيان الواقع أو التحذّر من شدّة العذاب ، بل يكون كذباً مخالفاً للواقع صادراً بداعى إظهار الشخصية أو الشجاعة مثلا ، ولكنّه حيث يكون متصفاً بالشذوذ وقلّة الوجود ، لا يمنع عن اعتماد العقلاء على الأقارير ، ولكن احتماله صار موجباً لكون الإقرار من الأمارات الظنيّة ; إذ بدونه يكون الإقرار موجباً للعلم بصحّة ما أقرّ به وصدّقه ، فهو ـ أي احتمال الكذب ـ وإن صار مانعاً عن تحقّق العلم ، إلاّ أنّه لم يصر مانعاً عن الاعتماد على الإقرار ونفوذه وجوازه ، ولذلك ترى أنّ عمدة ما يعتمدون عليه في المحاكم وفي باب المرافعات وفصل الخصومات وإجراء الأحكام والمقرّرات هو الإقرار الصّادر من المتّهم ، ولم يناقش في هذا الاعتماد واحد منهم أصلا .
وأمّا عدم ردع الشارع وامضاؤه فهو يظهر كما عرفت بملاحظة الكتب المختلفة من كتب الحديث المؤلّفة للخاصة والعامّة ، ولا شبهة في الإمضاء بوجه .
الثاني : الكتاب ; كقوله تعالى : {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(2) . وقوله تعالى : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}(3) . وقوله تعالى : {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}(4) .
- (1) وسائل الشيعة : 28 / 38 ، كتاب الحدود والتعزيرات ، أبواب مقدّمات الحدود ب 16 ح 6 و ص 55 ب 31 ح 3 ـ 5 .
(2) سورة آل عمران3 : 81 .
(3) سورة التوبة 9 : 102 .
(4) سورة النساء 4 : 135 .
(الصفحة 67)
واُجيب عنها ، أمّا عن الآية الاُولى ، فلأنّه لا ربط لها بما هو محلّ البحث في قاعدة إقرار العقلاء ; لأنّ الله تعالى يخاطب الناس ويقول ـ بعد أخذ العهد والمواثيق منهم على أن يؤمنوا وينصروا رسله «هل أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري» أي ثقلي؟ والمراد بالثقل : العهود والمواثيق التي اُخذت منهم ، أي قبلتم عهودي ومواثيقي ، قالوا : «أقررنا» أي قبلنا تلك العهود والمواثيق ، والمراد من الأمر بالشهادة تثبيت تلك العهود والمواثيق عليهم وإتمام الحجّة ، ولذلك يقول بعد ذلك : {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} أي لا يمكن لكم أن تنكروا هذه العهود .
وأمّا عن الآية الثانية ، فلأنّه أيضاً لا ربط لها بالمقام ; سواء كان المراد بـ «آخرون» هم الفاسقون المعترفون بذنوبهم ، التائبون عمّا فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السيّء ، أو المتخلّفين عن غزوة تبوك ، فندموا وتابوا(1) .
أقول : لا تنبغي المناقشة في إشعار الآية بل دلالتها على أنّ الاعتراف بالذنب كاشف عن ثبوته وحاك عن تحقّقه ، ولكن دلالتها على أنّ «إقرار كلّ عاقل على نفسه جائز» ممنوعة .
وأمّا عن الآية الثالثة ، فلأنّ المراد من الشهادة الواجبة ـ ولو كانت على النفس ـ هي ما إذا كان نفس الشهادة وأداؤها موجباً لوقوع ضرر على النفس ، والمفروض في القاعدة كون المقرّبه ضرراً على المقرّ لا نفس إقراره ، فهذه الآية أيضاً لا مجال للاستدلال بها في محلّ البحث في المقام .
الثالث : الرّوايات ، وهي على قسمين :
الأوّل : ما يدلّ على القاعدة بعنوانها الكلّي ; وهو الحديث المشهور بين الفريقين الذي عبّر عنه صاحب الجواهر (قدس سره) بالنبويّ المستفيض أو المتواتر(2) وهو
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 3 / 49 .
(2) جواهر الكلام : 35 / 3 .
(الصفحة 68)
قوله (صلى الله عليه وآله) : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(1) ، وأيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) : قولوا الحقّ ولو على أنفسكم(2)، وأورده صاحب الجواهر في كتاب الإقرار(3) .
والظاهرعدم انطباق الحديث الثاني على المقام ; لأنّ المراد وجوب إظهار الحقّ وعدم جواز كتمانه ، وإن كان نفس هذا الإظهار وعدم الكتمان ضرراً على المقرّ ، فالرواية مثل قوله تعالى : {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}(4) .
وأمّا الحديث الأوّل : فهو ينطبق على القاعدة ، بل عنوانها مأخوذ فيه ، وسيأتي(5) البحث في مفاده إن شاء الله تعالى .
القسم الثاني : الأحاديث الكثيرة التي ورد أكثرها في الموارد الخاصّة ، كالإقرار بالولد والنسب ، وكون النساء مصدّقات في أنفسهنّ (6)، ولكنّ الظاهر أنّ ذكر المورد إنّما هو لأجل تطبيق القاعدة عليه ، لا لأجل خصوصيّة فيه ، كما لا مجال للتأمّل فيه لمن راجعها ، وقد ورد في بعض الأحاديث ، مثل :
مرسل العطّار ، عن الصادق (عليه السلام) : المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه(7) . ومرجعه إلى أنّ الشهادة على النفس وإن كانت واحدة ، بل ربما لايكون
- (1) عوالي اللئالي : 1 / 223 ح 104 و ج 2 / 257 ح 5 و ج 3 / 442 ح 5 ، وسائل الشيعة : 23 / 184 ، كتاب الإقرار ب 3 ح 2 ، مستدرك الوسائل : 16 / 31 ، كتاب الإقرار ب 2 ح 1 .
(2) بحار الأنوار : 30 / 414 ، تلخيص الحبير : 3 / 125 ح 1265 ، ولكن المروي هو : قل الحقّ ولو على نفسك ، كما قاله صاحب تلخيص الحبير، ونقله في البحار : 77 / 173 عن كنز الفوائد للكراجكي : 2 / 31 وفي كنز العمال : 3 / 359 ح 6929 عن ابن النجار ، عن عليّ (عليه السلام) .
(3) جواهر الكلام 35 / 3 .
(4) سورة النّساء 4 : 135 .
(5) فى ص 80 ـ 81 .
(6) انظر وسائل الشيعة : 19 / 322 ـ 328 ، كتاب الوصايا ب 26 ووسائل الشيعة : 21 / 499 ، كتاب النكاح ، أبواب أحكام الأولاد ب 102 .
(7) صفات الشيعة : 116 ح 60 ، وعنه وسائل الشيعة : 23 / 184 ، كتاب الإقرار ب 3 ح 1 وبحار الأنوار : 75 / 216 ح 18 .
(الصفحة 69)
عادلا ، لكنّها أكشف للواقع وأصدق من شهادة سبعين مؤمناً وإن كانت متصفة بالتعدّد ، بل وبالعدالة أيضاً .
وفي خبر جرّاح المدائني ، عن الصادق (عليه السلام) : لا أقبل شهادة الفاسق إلاّ على نفسه(1) . فإذا قبلت شهادة الفاسق على نفسه ، فشهادة العادل عليها بطريق أولى ، ومرجع هذه الروايات إلى أنّ مسألة الإقرار من شؤون مسألة الشهادة . غاية الأمر أنّ لها خصوصيّة ; وهي عدم اعتبار التعدّد والعدالة فيها ، بخلاف الشهادة على الغير .
الرّابع : عدم الخلاف من أحد من علماء الإسلام بل إجماعهم كافّة على حجّية «إقرار العقلاء على أنفسهم» ونفوذه ومضيّته في الجملة(2) .
ولكن بملاحظة ما ذكرنا مراراً يظهر أنّه لا أصالة للإجماع في مثل المقام ممّا يوجد فيه نصّ معتبر ، إلاّ أن يكون الإجماع جابراً لضعف الرّواية على تقديره .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ عمدة الدليل على نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم هو بناء العقلاء ، ويكون مثل الحديث النبوي دليلا على الإمضاء ، فالحديث يمضي ما عليه بناء العقلاء ، وعليه : لا يكون دليلا مستقلاًّ في مقابله ، ولكن حيث يكون بناء العقلاء من الأدلّة اللبّية ودليل الإمضاء دليلا لفظيّاً ، لابدّ من المشي على طبق دليل الإمضاء والبحث في مفاده من جهة العبارات الواقعة والكلمات المستعملة فيه .
الجهة الثانية : في مفاد القاعدة ، وقد عرفت أنّه لابدّ في هذه الجهة من البحث في مفاد الحديث الذي هو دليل لفظي يتضمّن الإمضاء لما عليه بناء العقلاء .
فنقول : أمّا الإقرار، فمعناه لغةً وعرفاً هو الإثبات وجعل الشيء ذا قرار
- (1) الكافي : 7 / 395 ح 5 ، تهذيب الأحكام : 6 / 242 ح 600 ، وعنهما وسائل الشيعة : 23 / 186 ، كتاب الإقرار ب 6 ح 1 .
(2) المبسوط : 3 / 2 ـ 3 ، السرائر : 2 / 498 ، جواهر الكلام : 35 / 3 .