(الصفحة 113)
روايات تدلّ على عدم ضمانه مع عدم التعدّي أو التفريط(1) . وأمّا في مورد المقبوض بالبيع الفاسد ومثله ، وفي المورد الآخر الذي ذكرنا ، فلم يرد دليل على التخصيص والتقييد ، واللازم الرجوع إلى أصالة العموم أو الإطلاق .
ولو فرض أن يكون المخصّص واحداً عنواناً بحسب الواقع ، ودار أمره بين الأقلّ والأكثر ، وأنّه هل هو عنوان اليد غير العادية ، أو عنوان اليد المأذونة؟ فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن والرجوع في الزائد إلى الأصل المذكور ، كما إذا تردّد أمر الفاسق الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء ، بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة ، أو أعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة ، والفرق بكون عنوان الخارج معلوماً في المثال ـ غاية الأمر الشكّ في معناه وثبوت الشبهة في مفهومه ، بخلاف المقام ; حيث لا يعلم الخارج بعنوانه كما ذكرنا ـ لا يكون فارقاً في الحكم وفي لزوم الرجوع في الزائد المشكوك إلى أصالة العموم أو الإطلاق ، فانقدح أ نّه لو بلغت النوبة إلى التخصيص ، لا دليل على أزيد من خروج اليد المأذونة ، ويبقى الباقي تحت القاعدة ، وعليه : فيجوز التمسّك بها في باب المقبوض بالبيع الفاسد أيضاً ، كما فعله الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في المكاسب(2) .
وأمّا من الجهة الثانية : فنقول : أمّا المنافع المستوفاة ، فالظاهر أنّه لا إشكال في ضمانها ، لا لشمول قاعدة حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، وأنّ مال المسلم لا يحلّ إلاّ بطيب نفسه ; لأنّ البحث إنّما هو في ضمانها بملاحظة قاعدة ضمان اليد ، لا بملاحظة مطلق القواعد ، مع أنّه في دلالة مثل قوله (عليه السلام) : لا يحلّ مال امري مسلم . . .(3) على
- (1) تقدمت في ص 28 ـ 31 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 182 .
(3) الكافي : 7 / 273 ح 12 و ص 274 ح 5 ، الفقيه : 4 / 66 ح 195 ، تفسير القمّي : 1 / 171 ، عنها وسائل الشيعة : 5 / 120 ، كتاب الصلاة ، أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 1 و ج 29 / 10 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 3 .
(الصفحة 114)
الضمان تأمّل وإشكال ، بل لأجل أنّها أيضاً مال مأخوذ ، أمّا كونها مالا ، فلأنّه يبذل بإزائها المال في باب الإجارة ، وقد شاع تفسير الإجارة بأنّها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم ، فالعوض يقع في مقابل نفس المنفعة .
وأمّا اتّصافها بكونها مالا مأخوذاً ، فلأجل تحقّق الاستيلاء عليها ، غاية الأمر أنّ وقوعها تحت اليد إنّما هو بتبع وقوع العين تحتها . ولذا يقولون بأنّ قبض المنفعة في باب الإجارة بناءً على التفسير المزبور ـ وإن كان على خلاف التحقيق ـ إنّما هو بقبض العين ، فهي أيضاً مأخوذة ومقبوضة ، غاية الأمر بتبع أخذ العين وقبضها ، فالقاعدة تشمل المنافع المستوفاة .
وممّا ذكرنا تظهر دلالة القاعدة على ضمان المنافع غير المستوفاة أيضاً ; لأنّ الاستيفاء لا دخل له في صدق الأخذ ; فإنّ الأخذ تعلّق بالمنافع بتبع تعلّقه بالعين ; سواء استوفاها كما إذا سكن في الدار المأخوذة ، أم لم يستوفها كما إذا لم يستفد من الدار المأخوذة شيئاً .
نعم ، ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في حاشية المكاسب إشكالا في شمول القاعدة للمنافع ، وهو : أنّه لا تصدق التأدية في المنافع مطلقاً ، وظاهر قوله (عليه السلام) : «حتّى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاةً بأداء نفس المأخوذ ، والمنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حدّ ذاتها ، لا كالعين التي لها أداء في حدّ ذاتها وإن عرضها الامتناع ابتداءً أو بقاءً ، وفرض اتحاد الموجود التدريجي مع المنفعة ـ فيصدق الأخذ بالاستيلاء على طرف هذا الواحد ، والأداء بأداء طرفه الآخر ـ لا يكاد يفيد شيئاً ; لأنّ المراد ضمان الفائت أو المستوفى ، فأداء ما لم يفت ولم يستوف غير مجد في ارتفاع ضمان المأخوذ باستيفائه ، أو بالاستيلاء عليه مع فواته(1) .
ويمكن الجواب عنه بأنّه تصدق التأدية في المنافع مطلقاً ، أمّا ابتداءً فكما أنّ
- (1) حاشية كتاب المكاسب للمحقق الإصفهاني : 1 / 317 ـ 318 .
(الصفحة 115)
أخذها إنّما هو بتبع أخذ العين ، كذلك أداؤها إنّما هو بأداء العين ، ولذا يصدق في باب الإجارة أنّ المالك أقبض المنفعة بإقباض العين ، فإقباضها إنّما هو بالتبع . وأمّا استدامة فلابدّ من تنزيله منزلة تلف العين ، فكما أنّ الأداء في صورة التلف إنّما يتحقّق باداء المثل أو القيمة ، فكذلك أداء المنافع إنّما يتحقّق بأداء عوضها ، ولا دلالة في الحديث على اختصاص الحكم بما إذا أمكن تحقّق الغاية ، وهو الأداء بقاءً بالإضافة إلى نفس المال المأخوذ ، حتّى يقال بخروج المنافع عن ذلك ; لعدم إمكان صدق الغاية بالإضافة إلى نفسها بقاءً ، بل يكفي إمكان تحقّق الغاية كذلك ولو ابتداءً .
مضافاً إلى أنّ بعض الأعيان أيضاً لا تجرى فيه الغاية بقاءً ، كالعين التي تتلف تدريجاً ، كالثلج في الصيف ; فإنّه لا يمكن أداؤها بقاءً بعد فرض كونها في حال الذوب والانعدام ، ودعوى خروج مثلها عن القاعدة ممنوعة جدّاً كما لا يخفى ، فالإنصاف أنّه لا مجال لإخراج المنافع مطلقاً عن مورد القاعدة .
وربما يستدلّ لضمان هذه المنافع ـ أي المنافع غير المستوفاة ـ بقاعدة التفويت التي هي قاعدة عقلائية ، وهي : أنّ من فوّت مال الغير عليه فهو له ضامن ، بناءً على اعتبارها في الشرع أيضاً ، ولكن حيث إنّ الكلام ليس في الحكم بضمان هذه المنافع مطلقاً ، بل من جهة اقتضاء قاعدة ضمان اليد له وعدمه ، فلا مجال للبحث في غيرها ، مع أنّ شمول قاعدة التفويت لجميع أقسام المنافع غير المستوفاة محلّ نظر ، بل منع .
ثمّ إنّه لو كانت للعين منافع متضادّة غير قابلة للاجتماع في زمان واحد ، كما إذا كان العبد المغصوب عارفاً بالكتابة والخياطة معاً ، فهل يضمن المستولى له الجميع ، أو يضمن الأكثر مالية ، أو أحدها بنحو التخيير ، والتخيير للمالك أو الضامن؟ فيه وجوه واحتمالات : لا يبعد أن يقال بالتفصيل بين ما لو كان المدرك للحكم بالضمان
(الصفحة 116)
هي قاعدة اليد التي يبحث عنها في المقام ، وبين ما لو كان المدرك له مثل قاعدة التفويت .
فعلى الأوّل : يحكم بضمان جميع المنافع ولو كانت متضادّة ، لأنّ الملاك هو تحقّق الاستيلاء وصدقه ، وقد عرفت أنّ الاستيلاء على المنافع إنّما هو بتبع الاستيلاء على العين ، فإذا كانت للعين منافع يصدق الاستيلاء على الجميع ، والتضادّ بين بعضها الراجع إلى عدم إمكان الاجتماع في الوجود وفي مقام الاستيفاء ، لا يرتبط بمقام الاستيلاء الذي هو الملاك للضمان . وبعبارة اُخرى : التضاد راجع إلى مقام الاستيفاء ، وهو غير دخيل في الضمان أصلا ، مع أنّ ترجيح بعض المنافع على بعض ترجيح من غير مرجّح .
وعلى الثاني : يحكم بضمان خصوص المنفعة التي هي أكثر مالية من غيرها ; لعدم صدق التفويت بالإضافة إلى الجميع ، بعد فرض التضادّ وعدم إمكان الاجتماع ; لأنّ فوت الجميع حينئذ يستند إلى التضادّ ، غاية الأمر أنّه حيث كانت المنفعة التي هي أكثر مالية ممكنة التحقّق والحصول ، فيصدق تحقّق التفويت بالنسبة إليها ويقال بأنّ الاستيلاء صار سبباً لفوتها ، ولولاه لكان للمالك استيفاؤها ، كما لا يخفى .
وأمّا من الجهة الثالثة : وهي شمول الموصول للحرّ وشبهه وعدمه .
فنقول : ربما يناقش في الشمول ; نظراً إلى أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد ، كما أنّه ربما يجاب عنه بأنّ اليد عبارة عن التصرّف على وجه الاستيلاء والقهر ، وهو أمر عرفي موجود في غصب الحرّ أيضاً ; إذ العرف لا يفرّق من حيث اليد بين كون المغصوب عبداً أو حرّاً ، ولكن منع الشمول المحقّق الرشتي (قدس سره) (1) في كتابه في
- (1) كتاب الغصب للمحقق الرشتي : 13 .
(الصفحة 117)
الغصب ، وملخّص كلامه الطويل في وجه المنع اُمور ثلاثة :
الأوّل : أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد الكاشفة عن الملكية ، وإذا كان الشيء غير واجد لصفة المملوكية ، امتنع تعلّق اليد به على الوجه المزبور كما في الحرّ ، لأ نّه لا يكون قابلا لصفة المملوكية ; لكونه مالكاً والمالك لا يكون مملوكاً ; لتحقّق التضاد بينهما ، وعليه : فلا يدخل تحت اليد المبحوث عنها ، ومن هنا حكم العلاّمة(1) بأنّ لباس الصغير الحرّ المغصوب غير مضمون كنفسه .
ووجهه : أنّ الصغير وإن كان مقهوراً في يد الغاصب ، مع كونه ممّن لا يقدر على نفسه نفعاً ولا ضرراً ، إلاّ أنّ صفة الاختصاص الملكي المأخوذ في معنى اليد عرفاً ، لمّا لم تكن موجودة فيه ، لم يصدق على ذلك القهر اليد ، وإذا لم تتحقّق اليد على الصغير نفسه ، فلا تتحقّق أيضاً بالنسبة إلى لباسه الذي هو لابسه ; لأنّه باعتبار استقلاله الذاتي ومالكيّته يكون صاحب اليد على لباسه .
أقول : يرد على هذا الأمر ـ بعد وضوح بطلان ظاهر صدر كلامه ، من أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد الكاشفة عن الملكية ، ضرورة أنّ اليد الموجبة للضمان هي اليد التي اُحرز كونها عادية أو غير مأذونة على الاحتمالين المتقدّمين ، واليد الكاشفة عن الملكيّة هي اليد المشكوكة المقرونة باحتمال ثبوت الملكيّة ، واحتمال عدمها ، فكيف يعقل اتّحادهما؟ أنّه لابدّ من توجيه كلامه ، ويجري في هذا المجال احتمالان :
أحدهما : أن يكون مراده (قدس سره) أنّه وإن كانت اليد في القاعدتين : ـ قاعدة ضمان اليد ، وقاعدة أمارية اليد ـ مختلفة لا محالة ، إلاّ أنّ الاختلاف إنّما هو بالإضافة إلى صفة اليد وقيدها ، فاليد في قاعدة الضمان موصوفة بوصف العادية أو غير المأذونة ،
- (1) تحرير الأحكام : 4 / 523 .