(الصفحة 356)
واجبة على البالغ ، وأثر الندب استحقاق الأجر والثواب الاُخروي على تقدير إتيانها بقصد الامتثال ونيّة القربة ، كما أنّ المحرّمات في حقّه مكروهة ، ولو تركها بقصد الإطاعة وبداعي كونها مكروهة يستحق على تركها الثواب ، فالحكم المرفوع عن الصبي خصوص الحكم اللزومي من الوجوبي والتحريمي ، وإلاّ فأصل العبادية الملازم للرّجحان باق بحاله ، فالأحكام الخمسة التكليفية الاصطلاحية ثلاثة في حقّ الصبي : الاستحباب ، والكراهة ، والإباحة .
فالأوّل شامل للمستحبّات والواجبات ، والثاني للمحرّمات والمكروهات ، وهذا لا ينافي توجّه الأمر إلى الولي بعنوان التمرين ; لأنّ كون ثواب التمرين للولي لا ينافي كون الفعل ممّا فيه ثواب للطفل الفاعل له ، كما لا يخفى ، وقد حكي هذا القول عن مشهور الأصحاب(1) رضوان الله عليهم أجمعين .
الثاني : أنّ هذه العبادات من الأطفال تمرينيّة صرفة(2) ، ولا يترتّب عليها أجر وثواب من الله تعالى بالإضافة إلى الصبيّ ; لعدم توجّه خطاب إليه ولو بنحو الاستحباب أو الكراهة ولو كان مراهقاً قريب العهد إلى البلوغ ، وكان واجداً للإدراك والشعور كاملا ، غاية ما هناك ترتّب الثواب على عمل الولي وتمرينه وتعويده ; لكونه مأموراً بذلك ولو بالأمر الاستحبابي ، ولا تدخل هذه المسألة في مسألة الأمر بالأمر بالشيء ، حتى يلازم مع الأمر بالشيء ، فيصير عمل الصبي مأموراً به استحباباً ; وذلك لأنّ مورد المسألة ما إذا كانت المصلحة قائمة بنفس ذلك الشيء ; والمولى حيث لا يكون قادراً على مخاطبة جميع عبيده مثلا ; لعدم حضورهم عنده ، يأمر العبد الحاضر بأمر الباقين بإتيان ما تقوم به المصلحة
- (1) المبسوط : 1 / 278 ، شرائع الإسلام : 1 / 188 ، تذكرة الفقهاء : 2 / 331 و ج 6 / 101 ، الحدائق الناضرة : 13 / 53 ، العناوين : 2 / 665 ، مفتاح الكرامة : 5 / 245 ط .ج .
(2) السرائر : 1 / 367 ، مختلف الشيعة : 3 / 256 مسألة 20 ، الرسالة الجعفرية : (رسائل المحقق الكركي) : 1 / 121 ، مسالك الأفهام : 2 / 15 ، روض الجنان : 2 / 761 ، وغيرها كما في مفتاح الكرامة : 5 / 247 ط .ج .
(الصفحة 357)
المنظورة للمولى .
وأمّا في المقام ، فالمفروض أنّ الغرض من أمر الولي ليس تحقق الصلاة من الطفل ، بل الغرض تحقق التمرين والتعويد ، وفي الحقيقة يكون المأمور به ذلك ، والمصلحة قائمة به ، إلاّ أن يقال بعدم تحقّق التمرين والعادة بمجرّد أمر الولي الطفل بالصلاة مثلا ، فإنّه إذا لم تتحقق من الطفل الموافقة لأمر وليّه والصّلاة مكرّراً ، لا تتحقق العادة بوجه .
وعليه : فالعادة حاصلة بفعل الطفل ، فإذا فرض قيام المصلحة بها ، ففي الحقيقة يكون فعل الطفل مشتملا على المصلحة ، لا بعنوان الصلاة ، بل بعنوان العادة وحصول الاعتياد ، لكنّه يرجع أيضاً إلى عدم كون الصلاة ذات مصلحة ، فلا تكون شرعيّة ، فتدبّر .
الثالث : أنّ عبادات الصبيّ شرعية تمرينيّة لا أنّها شرعية أصليّة ، والمراد بذلك أنّ إتيان الصبي لها مطلوب للشارع لا لأنفسها ، بل لحصول التعوّد والتمرّن على العمل بعد البلوغ ، فصلاة الصبي فيها جهتان :
جهة كونها صلاة ، وهذه الجهة ملغاة في الصبي ، لا فرق بين كونها صلاة أو قياماً أو نوماً أو نحو ذلك في أنّه لا رجحان فيها بالإضافة إليه ، ولا يترتّب عليها أجر من هذه الجهة .
وجهة كونها تعوّداً علي شيء يكون مطلوباً بعد البلوغ وإن كان لاغياً الآن في حدّ ذاته ، وهذه الجهة مطلوبة للشارع ويترتّب عليها الثواب ، ففي الحقيقة يكون الطفل مأموراً بالتمرّن والتعوّد ويثاب عليه ، لا على أصل العبادة . حكي هذا القول عن جماعة من المتأخّرين ، منهم : الشهيد الثاني(1) ، وربما يظهر من المحكي عن
- (1) الحاكي هو السيد عبد الفتاح المراغي في العناوين : 2 / 666 ، ولكن لم نجده عن الشهيد الثاني عاجلا فيراجع المسالك وروض الجنان وغيرهما .
(الصفحة 358)
بعضهم تنزيل كلام المشهور أيضاً على ذلك لا الشرعية بالمعنى الأوّل(1) .
والثمرة بين هذا القول والقول الثاني ـ بعد اشتراكهما في بطلان عبادة الصّبي ، وعدم إمكان رعاية قصد الامتثال فيها ; لعدم رجحانها بالإضافة إليه أصلا ـ تظهر في ترتّب الثواب وحصول الأجر للصبي وعدمه ; فإنّه بناءً على القول الثاني يكون الصبيّ بعيداً عن الثواب بمراحل ; لعدم تعلّق خطاب إليه بوجه ، غاية الأمر كون الوليّ مستحقّاً للثواب إذا أمر الصبي بالعبادة وحمله عليها .
وأمّا بناءً على القول الثالث فالصبيّ يستحق الثواب باعتبار التمرّن والتعوّد لكونه مأموراً به بالإضافة إليه . ولا ينافي استحقاق الولي من جهة موافقة الأمر بالتمرين والتعويد . نعم ، لا يستحق الصبيّ ثواباً من جهة أصل العبادة وتحقق الصلاة والصيام ونحوهما .
وأمّا الفرق بين هذا القول والقول الأوّل المبنيّ على الشّرعية الأصلية ـ بعد اشتراكهما في استحقاق الصبي للثواب والأجر ، غاية الأمر أنّ استحقاقه له في الأوّل إنّما هو لأجل تحقّق العبادة المطلوبة منه ، ولأجل الإتيان بالصلاة الصحيحة مثلا ، وفي الثاني إنّما هو لأجل التمرّن والتعوّد لا لحصول الصلاة ـ فهو أنّ العبادة بناءً على القول الأوّل تكون متصفة بالصّحة لاجتماعها لجميع الشرائط المعتبرة فيها ، فيجوز أن تقع نيابة عن الغير حيّاً كان أو ميّتاً ، وسواء كانت في مقابل الاُجرة أو بدونها .
وأمّا بناءً على القول الثالث فلا تتصف بالصّحة أصلا ; لعدم كونها ذات مصلحة ومطلوبة للشارع ، والغرض حصول التمرّن والتعوّد ، وهو يتحقق بالمباشرة ولا يكون قابلا للنيابة بوجه ، ولا يكون في أصل الفعل ثواب قابل للرجوع إلى شخص آخر ، فلا يمكن أن تقع نيابة عن الغير مطلقاً .
(الصفحة 359)
وربما يقال بظهور الثمرة في نيّة العبادات الواجبة ، فعلى التمرين ينوي الوجوب ، وعلى الشرعية ينوي الاستحباب ; لأنّه بناءً عليها يكون جميع العبادات مستحبّة بالإضافة إلى الصّبي .
ولكنّ الظاهر أنّه بناء على الّتمرين لا يلزم نيّة الوجوب ; لأنّه وإن كان بناءً عليه يكون المطلوب حصول صورة العمل بالنحو الذي يقع من البالغ ، إلاّ أنّ لزوم نيّة الوجوب ممنوعة ; لأنّ الغرض حصول التمرين العملي ليسهل عليه الإتيان به بعد البلوغ ، ولا دخالة للنيّة في ذلك ، فتدبّر .
الرّابع : أنّ عبادات الصبي شرعية فيها ثواب أصل العمل ، مثل ثواب عمل البالغ ، لكنّه في الصبي يرجع الثواب إلى الولي ولا يستحقّه الصغير بوجه .
الخامس : التفصيل بين العبادات الواجبة كالفرائض اليوميّة ، وبين العبادات المستحبة كصلاة الليل ، بالقول بالشرعيّة في الثانية وعدمها في الاُولى .
الجهة الثانية : في أدلّة الأقوال والاحتمالات المذكورة في الجهة الاُولى . فنقول : أمّا دليل القول الثاني ، وهو عدم المشروعيّة وكون عباداته تمرينيّة صرفة لا يترتّب عليها ثواب بالإضافة إلى الصغير أصلا ـ فمضافاً إلى أصالة عدم ترتّب الثواب إلاّ بالدليل وهو منتف ، وانصراف الأدلّة العامّة الواردة في التكاليف مطلقاً عن الصّبي واختصاصها بالبالغ ، ووضوح تقيّد بعض الأحكام قطعاً بالبلوغ ; كالواجبات والمحرّمات من جهة الإيجاب والتحريم ـ حديث «رفع القلم عن الصّبي» المعروف المعتمد عليه عند العامّة(1) والخاصّة(2) .
- (1) السنن الكبرى للبيهقي : 6 / 327 ح 8391 ، سنن الدارقطني : 3 / 102 ح 3240 ، سنن الترمذي : 4 / 32 ح 1427 ، الحاوي الكبير : 9 / 485 ، المغني لابن قدامة : 10 / 88 وغيرها .
(2) تقدم في ص 347 .
(الصفحة 360)
وتقريب دلالته : أنّ ظاهر الحديث رفع قلم مطلق التكليف ، أعمّ من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة ، بل المباح أيضاً ، فالمعنى : أنّ القلم الجاري الموضوع على المكلّفين المتضمّن لثبوت التكليف عليهم فهو مرفوع عن الصبي حتى يحتلم ، وليس فيه إشعار ـ فضلا عن الدلالة ـ بأنّ المرفوع خصوص قلم التكليف الإلزامي وجوباً أو تحريماً ، بل المرفوع جميع الأحكام الخمسة التكليفيّة الثابتة على البالغ ، حتى الإباحة بعنوان أنّها حكم شرعيّ جرى عليها القلم .
ومنه يظهر أنّه لو نوقش في انصراف الأدلّة العامّة عن الصبي ، وقيل : بأنّ مقتضى عمومها الشمول له أيضاً ، لكان مقتضى قاعدة التخصيص حملها على خصوص البالغ ; لأنّ حديث «رفع القلم» بمنزلة المخصّص لتلك الأدلّة ويوجب اختصاصها بالبالغ .
ولو فرض كون النسبة بين بعض تلك الأدلّة ، وبين حديث «رفع القلم» عموماً من وجه ، كقوله : من قرأ سورة الفاتحة فله كذا وكذا من الأجر ، فإنّ النسبة بينه وبين الحديث عموم من وجه ; لاختصاص هذا القول بقراءة سورة الفاتحة ، وعمومه بالنسبة إلى الصبي ، واختصاص حديث الرفع بالصبي ، وعمومه لغير قراءة سورة الفاتحة ،فلاشك في عدم تحقّق التعارض ; لأنّ حديث «رفع القلم» حاكم على ذلك القول ، كحكومة حديث الرفع(1) المعروف على الأدلّة الأوّلية ، كما لايخفى .
فالنتيجة على جميع التقادير لزوم الأخذ بحديث «رفع القلم» ، والحكم بعدم ثبوت شيء من التكاليف الخمسة في حقّ الصبي ، والثواب الموجود في البين لا يرتبط بالصبي أصلا ، بل بالوليّ بعنوان كونه مأموراً بتمرينه وتعويده ، فعباداته لا تكون شرعيّة بل تمرينيّة صرفة .