(الصفحة 76)
وينبغي التنبيه على اُمور :
الأمر الأوّل : قد عرفت أنّ الإقرار لغة وعرفاً عبارة عن جعل الشيء ذا قرار وثبات ، وأنّ الإقرار على النفس معناه تثبيت شيء عليها وبضررها ; سواء كان مالا أو حقّاً أو أمراً مستتبعاً لثبوت حقّ أو مال على نفسه ، كإقراره بثبوت نسبة بينه وبين غيره ، وسواء كان الحق حق الناس كالدين مثلا ، أو حقّ الله كالإقرار بما يوجب الحدّ من الزنا وغيره .
ولا فرق في تحقّق الإقرار على النفس بين أن يكون مدلولا مطابقيّاً للّفظ، كما إذا قال : أنا مديون لزيد بمائة درهم مثلا ، أو مدلولا التزاميّاً كما إذا قال زيد مخاطباً له : «أنت مديون لي بكذا» ، فقال في جوابه : «رددت عليك دينك» ، فإنّ قوله : «رددت . . .» وإن لم يكن مدلوله المطابقي الإقرار بثبوت الدين ، إلاّ أنّ مدلوله الالتزامي يكون إقراراً عند العرف بثبوته ، ولذلك ترى الفقهاء يحكمون بلزوم إقامة البيّنة على الردّ بعد إقراره بثبوت الدّين ، ولو قال في جواب المدّعي : مالك عليّ دين ، لم يلزم عليه إقامة البيّنة ; لأنّه كان منكراً ، ووظيفته اليمين مع عدم إقامة المدّعي البيّنة .
وبالجملة : لا إشكال في اعتناء العرف والعقلاء بالإقرار الّذي يكون مدلولا التزاميّاً . هذا كلّه إذا كان الإقرار باللفظ .
وأمّا إذا كان بغير اللفظ كالإشارة ، كما إذا سأله الحاكم : هل أنت مديون لزيد؟ فصدّقه بالإشارة ، فلا إشكال في كونه إقراراً في الجملة وينفذ على المقرّ ، إنّما الإشكال في أنّه هل بينه وبين الإقرار باللفظ فرق من جهة انه لا يعتبر في اللفظ إلاّ مجرّد الظهور الذي يكون حجّة عند العقلاء في باب الألفاظ ، ويعتبر في غيره الصراحة بحيث لا يحتمل الغير بوجه ، ولا يجرى فيه احتمال آخر أصلا ، أو أنّه لا فرق بينهما أصلا ، بل يكون الملاك في كليهما هو الظّهور ، فكما أنّ اللفظ الظاهر في
(الصفحة 77)
الإقرار يكون عند العرف مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله) : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(1) ، فكذلك الفعل الظاهر في الإقرار كالإشارة في المثال المذكور ، غاية الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في الصغرى ; بمعنى ثبوت الظهور للألفاظ نوعاً وعدم ثبوته للفعل كذلك ; لأنّه يجري فيه وجهان بل وجوه ، أمّا مع ثبوت الظهور ـ كما هو المفروض ـ فلا فرق بينهما؟ الظاهر هو الثاني ، وإن كان ظاهر المحقّق البجنوردي في قواعده الفقهية(2) هو الأوّل ، ثمّ إنّ ما ذكرنا في الإشارة يجرى في الكتابة من دون فرق .
الأمر الثاني : أنّك عرفت أنّ الإقرار ظاهره الإثبات وجعل الشيء ذا قرار ، فإذا كان الإقرار على النفس بهذه الصورة ; أي بصورة الإثبات ، فلا شبهة في نفوذه وكونه مصداقاً للقاعدة ، وأمّا إذا كان بصورة النفي والإنكار ، كما إذا نفى الحق عن نفسه بعد إقرار الطرف بثبوته له ، كما إذا قال البائع مثلا له : لك الخيار عليّ في هذه المعاملة الواقعة ، فنفى ثبوت الخيار لنفسه ، وأنكر ما أقرّه البائع على نفسه . أو نفى المال ، كما إذا قال له ذو اليد : هذا المال الذي في يدي لك ، فنفى كون المال له وأنكر ما أقرّه ذو اليد على نفسه . أو نفى النسبة ، كما إذا قال ورثة الميت له : أنت شريكنا في الإرث ; لأنّك أخ لنا ، فنفى الاُخوّة وكونه وارثاً للميّت ، فهل يكون مصداقاً للقاعدة ، ويكون النفي والإنكار الذي يرجع إلى الإقرار على النفس نافذاً عليه وممضى بضرره ، أم لا؟
والثمرة بين الوجهين تظهر في الرجوع عن هذا الإنكار وتصديق المقرّ فيما أقرّ به بعده ، فإن كان هذا الإنكار إقراراً على النفس ، فلا يسمع الإنكار بعد الإقرار والرجوع عنه ، كما سيأتي التكلّم فيه إن شاء الله تعالى ، وإن لم يكن إقراراً على النفس ، فلا مانع من السماع بعد عدم كونه إنكاراً بعد إقرار .
- (1) تقدم في ص 68 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 3 / 58 .
(الصفحة 78)
والظاهر ـ بملاحظة ما عرفت من لزوم الرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الإقرار المأخوذ في القاعدة ـ كون المقام أيضاً من مصاديق الإقرار وإن كان بصورة النفي والإنكار ، والظاهر أنّ هذا المقام أقرب من المدلول الالتزامي المتقدّم الذي ذكرنا شمول القاعدة له ، وعليه : فمقتضى عموم القاعدة كون المقام أيضاً ممّا يكون إقراره نافذاً عليه .
نعم ، يبقى في المقام أنّه في مثل الأمثلة المتقدّمة يتحقّق مصداقان للإقرار على النفس : إقرار من البائع مثلا بثبوت حق الخيار للمشتري عليه ، وإقرار من المشتري ـ كما هو المفروض ـ بعدم ثبوت الخيار له على البائع ، وكلاهما إقرار على النفس ، فاللازم أن يقال بالتعارض والتساقط ، كما هو مقتضى القاعدة في كلّ أمارتين متعارضتين ، وعليه : فلا يؤخذ أيّ واحد من المقرّين بإقراره .
نعم ، لو رجع النافي عن إقراره الذي بصورة الإنكار ، وصدّق المقرّ الأوّل ، فإن كان المقرّ الأوّل باقياً على إقراره أُخِذَ بمقتضى إقراره الجديد الذي لا يكون له معارض ، وإن لم يكن باقياً على الإقرار يتحقّق المدّعي والمنكر ، فيدخل في باب القضاء كما لا يخفى .
الأمر الثالث : لا شبهة في أنّه بعد تماميّة الإقرار على النفس لا يسمع الإنكار وتكذيب الإقرار ، والوجه فيه أنّه لا دليل على اعتبار هذا الإنكار بعد قيام الدليل على اعتبار الإقرار المتقدّم ونفوذه ، وأنّه من الأمارات المعتبرة عند العقلاء والشارع ، فعدم سماع الإنكار بعده إنّما هو لأجل عدم الدليل على السّماع والاعتبار ; لعدم كونه من مصاديق القاعدة ، وعدم دليل آخر على الاعتبار .
نعم ، لابدّ من ملاحظة أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا تمّ الإقرار ، وكان الإنكار أمراً آخر غير مرتبط به بحسب الدلالة والظهور ، فإذا كان الإنكار بمنزلة القرينة المتّصلة ، أو المنفصلة التي تكون أصالة الظهور فيها حاكمة على أصالة الظهور في
(الصفحة 79)
طرف ذي القرينة ، فهذا لا يكون إنكاراً بعد إقرار ، فإذا قال لزيد : عليّ عشرة إلاّ درهماً ، فليس هناك إلاّ ظهور واحد ; وهو الظهور في الإقرار بتسعة ، وليس استثناء الدرهم بمنزلة الإنكار بعد الإقرار بعشرة ، بل لم يتحقّق الإقرار من أوّل الأمر إلاّ بالإضافة إلى التسعة ، ولم يتحقّق للكلام ظهور إلاّ بالنسبة إليها ، وهكذا الأمثلة الاُخرى .
فمحلّ البحث هو ما إذا كان لكلّ من الإقرار والإنكار ظهور مستقلّ غير مرتبط بالآخر ، غاية الأمر المضادّة بينهما من جهة الواقع ، ففي هذه الصورة لا مجال لسماع الإنكار بعد أنّه لم يقم دليل عليه . وأمّا إذا كان هناك ظهور واحد في الإقرار على النفس ، فلا إشكال في لزوم الأخذ به كما في المثال وشبهه .
نعم ، هنا شبهة ; وهي أنّه لو فرض أن يكون للإنكار حكومة على الإقرار ، وكان بمنزلة الشرح والتفسير والتوضيح له ، كما في الدليل الحاكم بالإضافة إلى الدليل المحكوم ، مثل قوله (عليه السلام) : لا شك لكثير الشك(1) ، الذي هو ناظر إلى أدلّة الشكوك الدالّة على لزوم البناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط ، وتقييد لها بغير كثير الشك ، فهل يقبل هذا التفسير وهذه الحكومة؟ مثلا إذا قال : إنّ داري هذه لزيد ، ثمّ قال بكلام منفصل : أردت من الدّار نصفها ، فنصفها فقط لزيد ، فهل يقبل منه هذا التفسير الذي هو بمنزلة الإنكار لما أقرّ به من كون تمام الدار لزيد ، على ما هو مقتضى ظاهر الإقرار ، أم لا يقبل؟
يمكن أن يقال بالقبول ; لعدم الفرق بين المقام وبين حكومة أحد الدليلين على الآخر،المقتضية لتقدّم الدّليل الحاكم على الدّليل المحكوم ; لكونه ناظراً إليه ومسوقاً لتحديد مدلوله سعة وضيقاً ، فاللازم في المقام أيضاً القبول بعد كون الإنكار بمنزلة
- (1) لم نعثر عليه في كتب الحديث، ولعلّه قاعدة اصطيادية من سياق الروايات ، فليراجع وسائل الشيعة : 8 / 227 ـ 229 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل ب 16 .
(الصفحة 80)
الشرح والتفسير للإقرار . نعم ، لو كان بينهما مضادة بالكلّية لما كان مجال لقبول الإنكار ، كما إذا أنكر في المثال كون الدار لزيد ولو ببعض أجزائها ، وأمّا مع عدم المضادّة بهذه الكيفيّة فاللازم القبول .
ولكنّ التحقيق يقتضي عدم القبول ; لأنّ مسألة التقنين التي تجري فيها الحكومة والتخصيص وأمثالهما ، تغاير المحاورات العادية التي لا ربط لها بمقام وضع القانون ، ألا ترى أنّ التخصيص الذي بلغ من الكثرة إلى حدّ قيل : «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» لا يجري في غير مسألة التقنين بوجه ; لأنّ الموجبة الكليّة تناقض السالبة الجزئيّة ، وكذا السالبة الكليّة تناقض الموجبة الجزئيّة ، كما في علم المنطق ، فإذا قال قائل : «ما لقيت من القوم أحداً» ثمّ قال مع الفصل : «لقيت من القوم زيداً» فهذه مناقضة غير مقبولة عند العرف والعقلاء ، وهذا بخلاف ما إذا قال في مقام التقنين : «أكرم القوم» ثمّ قال : «لا تكرم من القوم زيداً» .
فهذا يدلّنا على بطلان مقايسة مثل المقام بمسألة الحكومة والتخصيص وأمثالهما ، الجارية في نطاق وضع القانون ومقام التقنين ، وعليه : فلا يقبل الإنكار بعد الإقرار ، ولو كان بصورة الشرح والتفسير وبعنوان الناظر كما عرفت .
الأمر الرّابع : مقتضى إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله) : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(1) ، نفوذ الإقرار على النفس مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا كان في قبال من يدّعي ما أقرّ به ، وبين ما إذا لم يكن في البين مدّع أصلا .
ويحتمل ـ ثبوتاً ـ الفرق واختصاص القاعدة بما إذا كان الإقرار في قبال المدّعي ، وعليه : فلو قال : إنّ هذه الدار التي في يدي وتحت استيلائي لزيد ، ولم يكن زيد يدّعي كون الدّار له ، بل يظهر الجهل وعدم العلم ، فحيث لا يكون هذا الإقرار