(الصفحة 34)
أو أداء مثله أو قيمته عند تلفه أو ما بحكمه ، فمرجع الضمان المنفي هنا إلى عدم ثبوت المال التالف على عهدة الأمين وفي ذمّته ، فلايجب عليه أداء مثله أو قيمته ، وقد عبّر في مرسلة أبان المتقدّمة بأنّه ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً(1) .
الأمر الثاني : أنّ المراد من الأمين هو مقابل الخائن الذي إذا وقع مال الغير تحت يده وفي اختياره لا يأبى من الخيانة فيه الموجبة لتلفه أو لحصول منقصة فيه ، وهل المراد من الأمين من كان غير خائن في نفسه وبحسب وصفه الواقعي ، كما اشتهر توصيف النبيّ (صلى الله عليه وآله) به قبل البعثة ; حيث كانوا يخاطبونه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أمين ، أو أنّ المراد منه في المقام هو المؤتمن الذي ائتمنه صاحب المال بالنسبة إلى ماله الذي أوقعه تحت يده؟
وعلى التقدير الثاني ، هل المراد بالمؤتمن من كان مورداً لوثوق صاحب المال ، واطمئنانه بأنّه يكون محفوظاً عنده بجميع أجزائه وأوصافه ، ولا يتحقّق منه الخيانة بالنسبة إليه أصلا . أو أنّ المراد بالمؤتمن من كان طبع جعل المال في اختياره مقتضياً لعدم خيانته ; مثل ما إذا كان بصورة الوديعة التي غرضها حفظ المال ، أو العارية التي يكون غرضها الانتفاع مع بقاء المال بجميع شؤونه وإن لم يكن مورداً للوثوق بوجه أصلا؟
لابدّ للوصول إلى ما هو المراد من الأمين في القاعدة المبحوث عنها في المقام ، من ملاحظة عدم اختصاصها بالأمانة المالكيّة وشمولها للأمانة الشرعية التي يكون الإذن فيها من قبل الشارع ، ومن الواضح عدم تحقّق الأمانة في مقابل الخيانة بحسب الوصف الواقعي في كثير من مواردها ، كما أنّه لا معنى لتحقّق الإئتمان في جميعها بمعنى الوثوق بأنّه لا يتحقّق منه الخيانة ولا يصدر منه الخلاف .
(الصفحة 35)
كما أنّه لابدّ من ملاحظة رواية المقنع المتقدّمة(1) التي وقع فيها السؤال عن المودع إذا كان غير ثقة ، فإنّ ظاهره تحقّق الإيداع من المالك مع عدم وثوقه بالمستودع ، إلاّ أن يقال : إنّ المراد هو عدم الوثاقة في القول غير المنافي للأمانة في مقام العمل ، أو يقال بخروجه عن الوثاقة بعد الإيداع وإن كان متّصفاً بها حينه ، ولكنّ الاحتمالين الأخيرين بعيدان ، والظاهر هو الأوّل .
ثمّ إنّه لابدّ من ملاحظة أمر ثالث ; وهو أنّ استثناء صورة التعدّي والتفريط من ضمان الأمين هل يكون بنحو الاستثناء المتّصل ، كما هو ظاهر عنوان القاعدة ، أو بنحو الاستثناء المنقطع الذي مرجعه إلى زوال وصف الأمانة في إحدى الصورتين؟ والمراد بالتعدّي هو أن يفعل فعلا يضرّ بالمال الذي يكون تحت يده ; كما إذا كان المال حيواناً فجعل غذاءه ممّا لا يناسبه ، كما أنّ المراد بالتفريط هو ترك فعل موجب لتلفه ; كما إذا ترك تغذيته بالمرّة في مثال الحيوان .
ربما يقال بالثاني كما اختاره المحقّق البجنوردي في قواعده الفقهية(2) ، حيث ذكر أنّ عدم التعدّي والتفريط مأخوذان في حقيقة الأمين ، والاستثناء في القاعدة مستدرك ; لأنّه إذا صدر عنه التعدّي أوالتفريط فهوخائنوليس بأمين ، فهما ضدّان .
ولكن ما أفاده ـ مضافاً إلى ما عرفت من كونه خلاف ظاهر عنوان القاعدة ـ فرع كون المراد من الأمين هو الأمين بحسب وصفه الواقعي في مقابل الخائن كذلك ، وهو أوّل الكلام ، بل محلّ منع بعد ما عرفت من عدم ثبوته في كثير من موارد الأمانة الشرعيّة بل المالكيّة ، على ما مرّ من ظهور السؤال في الرواية في ذلك(3) .
- (1) في ص 29 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق للبجنوردي : 2 / 13 .
(3) في ص 29 .
(الصفحة 36)
وبما ذكرنا ينقدح أنّ المراد من الأمين في المقام هو المؤتمن ، وأنّ المراد من المؤتمن هو الذي يكون طبع جعل المال بيده مقتضياً لعدم خيانته ، وكأنّه يكون مقيّداً به من دون فرق بين أن يكون الإذن من المالك أو من الله ، ولا يشترط ثبوت وصف الأمانة له في نفسه ، ولا الوثوق بكون المال محفوظاً عنده ، وعليه: يكون استثناء صورة التعدّي والتفريط بنحو الاستثناء غير المنقطع . نعم ، لابدّ حينئذ من إقامة الدليل عليه ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
ويدلّ على ما ذكرنا رواية المقنع ومرسلة أبان المتقدّمتين(1)، حيث وصف الإمام (عليه السلام) الرجل بكونه أميناً مع عدم تعرّض في السؤال لثبوت وصف الأمانة له ، ولا للوثوق لصاحب المال بعدم تحقّق الخيانة منه أصلا ، فمعناه أنّ نفس جعل المال في يد المستبضع مقتض لذلك وإن لم يكن هناك أمانة واقعاً ولا وثوق أصلا .
الأمر الثالث : في استثناء صورة التعدّي أو التفريط من الحكم بعدم ضمان الأمين ، ولا يخفى عدم ورود هذين العنوانين في دليل شرعيّ حتى يجب التكلّم في مفادهما من حيث موضوعيّتهما للحكم الشرعي ، بل الوجه في ثبوت الضمان في موردهما ـ مع ملاحظة أنّ المتفاهم العرفي من عنوان التعدّي هو التجاوز ; أي التجاوز عن دائرة الإذن والتعدّي عمّا هو المأذون فيه ، ومن عنوان التفريط هو التضييع ، فالتعدّي هو الإفراط والتجاوز ، والتفريط هو التضييع ـ هو كون التلف في موردهما مستنداً إلى من كان المال في يده ، فيتحقّق عنوان الإتلاف الذي هو سبب مستقلّ لتحقّق الضمان ; لقاعدة الإتلاف التي هي قاعدة مستقلّة غير قاعدة ضمان اليد .
والوجه فيه : وضوح أنّه لو غذّي الحيوان بما لا يناسبه كمّاً أو كيفاً فتلف ، يكون تلفه حينئذ مستنداً إلى من فعل به ذلك ، كما أنّه لو ترك تغذيته بالمرّة يستند
(الصفحة 37)
التلف إلى التارك .
وعليه : فالوجه في ثبوت الضمان في موردي التعدّي والتفريط هو صدق الإتلاف حينئذ ، ولا شبهة في عدم شمول الروايات المتقدّمة الدالّة على عدم ضمان الأمين لصورة الإتلاف ، بل موردها صورة التلف عنده ; فإنّ مورد السؤال في رواية المقنع المتقدّمة(1) صورة انعدام المال مع الشكّ في كونه بنحو التلف ، أو الإتلاف ، مع دعوى من كان المال في يده الأوّل ، وظاهره أنّه مع العلم بحصول الإتلاف واستناد التلف إليه لا يبقى مجال لتوهّم عدم ثبوت الضمان ، كما أنّ مورد المرسلة المتقدّمة(2) صورة الهلاك أو السرقة من دون مدخليّة المستبضع في ذلك أصلا .
وأمّا قوله (عليه السلام) : ليس على المؤتمن ضمان(3) ، فالمتفاهم العرفي منه هو عدم الضمان مع التلف ، لا ما يشمل صورة الإتلاف أيضاً ، فبعد قصور أدلّة عدم ضمان الأمين للشمول لصورة الإتلاف يكون مقتضى سببيّة الإتلاف للضمان ثبوته مع التعدّي والتفريط الموجبين لتحقّق الإتلاف .
وعلى ما ذكرنا يصير استثناء صورتي التعدّي والتفريط من قبيل الاستثناء المنقطع ، لا بالنحو الذي ذكر سابقاً ، بل من جهة أنّ مورد القاعدة صورة التلف ، والصورتان واردتان في مورد الإتلاف ، فتدبّر .
نعم ، قد يتحقّق عنوان التعدّي مع عدم صدق الإتلاف وتحقّق الاستناد ، كما في مورد صحيحة أبي ولاّد(4) المعروفة الواردة في مورد اكتراء البغل إلى مكان معيّن ، فتجاوز عمّا أذن له إلى مكان آخر ، الدالّة على ثبوت الضمان لو تلف البغل ،
- (1 ـ 2) في ص 29 .
(3) تقدّم أيضاً في ص29.
(4) وسائل الشيعة : 19 / 119 ، كتاب الإجارة ب 17 ح 1 ، وتأتي بتمامها في ص 125 .
(الصفحة 38)
وأنّه يضمن قيمة بغل يوم المخالفة .
والوجه في ثبوت الضمان فيه ـ مضافاً إلى إمكان دعوى صدق الإتلاف في مثل هذا المورد أيضاً، فتدبّر ـ : أنّه مع التعدّي والتجاوز عمّا أذن له ، يكون مقتضى قاعدة «اليد»(1) ثبوت الضمان فيه ; سواء قلنا بأنّ المراد من اليد فيها هي اليد العادية ، أو اليد غير المأذونة ، أو مطلق اليد ، ولا دلالة للروايات المتقدِّمة الواردة في عدم ضمان الأمين على نفي الضمان في هذه الصّورة ; لعدم شمولها لها بوجه ، كما لا يخفى .
الأمر الرابع : قد مرّت الإشارة ـ بل التصريح مراراً ـ إلى أنّ المراد من الأمانة في هذه القاعدة أعمّ من الأمانة المالكية والأمانة الشرعيّة(2) . والمراد بالاُولى هو ما إذا كان وقوع المال بيده بإذن المالك ، أو من هو بحكمه كوكيله أو الوليّ ، وبالثانية هو ما إذا كان الإذن المزبور من قبل الله تبارك وتعالى دون المالك .
فمورد الاُولى جميع المعاملات التي تصدر من المالك أو من بحكمه ، بدون أن تكون متضمّنة لنقل العين ; سواء كان من جهة تمليك المنفعة كباب الإجارة ، أو تمليك الانتفاع كالعارية ، أو كان الغرض مجرّد كونه محفوظاً عنده كالوديعة ، أو كان الغرض أن يعامل معه بحصّة من الربح كالمضاربة ، أو أن يزرع فيه بحصّة من الحاصل كالمزارعة ، أو أن يسقيه بحصّة من الثمرة كالمساقاة ، أو أن يحمله من مكان إلى مكان آخر كالحمّال والمكاري ، ففي جميع هذه الموارد تكون الأمانة مالكية .
ومورد الثانية جميع الموارد التي يكون الإذن فيها من طرف الشارع ، كالمعاملات التي تقع على أموال الغيّب والقصّر بدون أن يكون فيها نقل العين ، كجميع ما ذكرنا في موارد الأمانة المالكية ، وكذلك في مثل اللقطة التي يكون الملتقط مأذوناً فيها من قبل الشارع مادام مشغولا بالتعريف ، فالأمانة في القاعدة
- (1) يأتي البحث عنها في ص78 .
(2) في ص 34 .