(الصفحة 282)
مختلفة في بيان الوجه له ، فيظهر من بعضها أنّ عدم السقوط إنّما هو بنحو الاستثناء من القاعدة ، كعدم سقوط حقوق الآدميّين ، ومن بعضها الآخر أنّ عدم السقوط لأجل عدم شمول القاعدة للآثار والأحكام الوضعيّة ، وبعضها غير متعرّض للدّليل .
أقول : أمّا الاستثناء فلابدّ له من دليل ، ولا مجال للأخذ به بدونه ، والظاهر عدم وجود الإجماع الذي له أصالة عليه ، وإن ادّعى صاحب الجواهر عدم وجدان الخلاف فيه ; لأنّ حكمه بعده بعدم شمول دليل القاعدة للأحكام الوضعية ظاهر في أنّ الدليل هو قصور دليل القاعدة ، لا الإجماع .
وأمّا عدم شمول القاعدة للأحكام الوضعيّة ، فيردّه أنّ لازم ذلك بطلان العقود والايقاعات الصادرة من الكافر إذا لم تكن واجدة لجميع الشرائط المعتبرة في الإسلام ، مع أنّ مقتضاها جعل السببيّة لها والحكم بترتّب الآثار التي هي أحكام وضعية كالملكية والزوجية والفراق وأشباهها ، كما أنّ لازم ذلك ترتّب الحدّ أو التعزير على ما صدر منه في حال الكفر ; لأنّ شرب الخمر مثلا سبب لوجوب حدّه ، وهكذا سائر الموجبات للحدّ أو التعزير ، فلا مجال للمناقشة في عموم القاعدة للأحكام الوضعيّة .
نعم ، يمكن الاستدلال على وجوب الغسل أو الوضوء على الكافر .
إمّا من طريق ما مرّت الإشارة إليه في كلام بعض الأجلّة ; وهو أنّ المستفاد من آية الوضوء والغسل والتيممّ أنّ هذه الاُمور شروط يجب تحصيلها ، فمعنى قوله تعالى : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}(1) إلى آخر الآية ، أنّه عند إرادة الصلاة لابدّ من الوضوء أو مثله ، وإن لم يعلم بكونه محدثا ولم يثبت ذلك ولو ظاهراً ، كما في مورد تعارض استصحابي الطهارة والحدث ; فإنّه لابدّ له من تحصيل
(الصفحة 283)
الطهارة إحرازاً للشرط ، وكما في المريض الذي ليس له بول ولا غائط بل يقيء كلّما يأكل .
والكافر أيضاً من هذا القبيل ; فإنّه يجب عليه تحصيل الطهارة بمعنى الوضوء أو الغسل أو التيمّم للعبادات المشروطة بها ، وإن لم نقل بسببيّة ما وقع منه في حال الكفر لحدوث الحدث ، وبعبارة اُخرى : الطهارة شرط ، لا أنّ الحدث مانع ، ويؤيّده التعبير عن مثل البول والغائط بالناقض الذي مرجعه إلى رفع ما يكون شرطاً ، لا إيجاد ما يكون مانعاً ، وعليه : فلا يرتبط بالقاعدة أصلا .
وإمّا ممّا يشعر به كلام الشهيد الثاني (قدس سره) المتقدّم من أنّ السّبب لا يكون مؤثراً في المسبّب مادام كونه كافراً ، فإذا زال الكفر باختيار الإسلام فالسبب السابق يؤثّر في مسبّبه فعلا ، فالكافر الذي بال أو أجنب يكون بعد الإسلام محدثاً بالحدث الأصغر أو الأكبر .
ومثله يجري في باب الرضاع أيضاً ; بأن يقال : الرضاع الواقع في حال الكفر لا يترتّب عليه أثر مادام الكفر باقياً ، فإذا زال الكفر وأسلم يترتّب عليه الأثر ، فإذا نكح اُخته من الرّضاعة فهذا النكاح لا يترتّب عليه أثر وعقوبة مادام كونه كافراً ، وبعد زواله يترتّب عليه آثاره .
ولا يتوهّم أنّ ذلك يوجب الالتزام بعدم اشتراك الكفّار مع المسلمين في الأحكام ; لأنّ ما ذكرنا إنّما هو بالنسبة إلى الكافر الذي أسلم بلسان الجبّ والقطع والرفع ، وأمّا الكافر الذي بقي على كفره ، فهو يشترك مع المسلم في جميع أحكام الإسلام ; أعمّ من التكليفيّة والوضعيّة ، فالحكم بعدم تأثير بوله في الحدث الأصغر إنّما هو بلحاظ القاعدة في خصوص زمان الكفر أيضاً ، وهكذا الرّضاع .
وأمّا ما أفاده المحقق البجنوردي في باب الرّضاع ـ من أنّ عناوين الاُمومة والاُختيّة والبنتيّة عناوين تكوينيّة ، ولا يمكن أن يكون الحديث رافعاً لها ـ فلم
(الصفحة 284)
نعرف له وجهاً ; فإنّه يرد عليه:
أوّلا : أنّ تحقّق هذه العناوين إنّما هو بمعونة التعبّد بأنّ الرضاع لحمة كلحمة النسب ; ضرورة أنّه لو لم يكن هذا التعبّد لما كان تتحقّق هذه العناوين أصلا .
وثانياً : أنّ كون العناوين تكوينيّة لا ينافي جريان القاعدة بعد وضوح كون الأحكام المترتّبة عليها شرعيّة تعبّدية ، وجريان القاعدة إنّما هو بلحاظ تلك الأحكام لا بلحاظ العناوين ، وقد عرفت(1) في المجوسيّ الذي أسلم وقد نكح اُمّه في زمان الكفر ، أنّ القاعدة تجري بالإضافة إلى الماضي ، وأمّا بالنسبة إلى المستقبل فحيث يكون العنوان باقياً لا مجال لصحّة نكاحه .
وقد ظهر ممّا ذكرنا حكم التطليقة أو التطليقات الواقعة في حال الكفر ، فإنّ مقتضى القاعدة عدم ترتّب الأثر من جزئيّة السّبب أو السببيّة التامّة للتحريم عليها ; لعدم اختصاصها بالأحكام التكليفية ، ولا حاجة في ذلك إلى رواية البحار حتى يناقش فيها من حيث السّند ، كما لا يخفى .
خاتمة تشتمل على بيان اُمور :
الأوّل : الكافر المنتحل للإسلام ، كالخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة ونحو ذلك إذا رجع إلى الإسلام ، فهل يكون مشمولا للقاعدة أم لا؟ نسب إلى ظاهر إطلاق الأصحاب أنّه أيضاً كالكتابي والوثني في هذا الحكم(2) ، ولكنّه محلّ تردّد وإشكال ; لأنّه ربما يقال : إنّ المتبادر من حديث الجبّ هو الإسلام المسبوق بكفر صرف ، ولا تديّن بالإسلام فيه .
ويمكن الإيراد عليه بأنّ المقصود من التديّن بالإسلام إن كان هو التديّن
- (1) في ص 277 .
(2) العناوين : 2 / 502 ـ 503 .
(الصفحة 285)
الواقعي فهو لا يجتمع مع كفرهم ، كما هو المفتى به للأصحاب ، وإن كان هو التديّن الاعتقادي فهو ينكشف خلافه بعد الإسلام ; لأنّ المنتحل بعدما أسلم يرى أنّه كان غير مسلم ، والاعتقاد السابق لا يجدي ، كما أنّ الكافر لا يرى نفسه كافراً في زمان كفره . وعليه : فلا يبعد أن يقال بالشمول .
الثاني : الظاهر عدم شمول القاعدة للمخالف إذا استبصر ; لما عرفت من أنّها في مقام التحريص والترغيب إلى الإسلام في مقابل الكفر(1) ، فلا دلالة لها على حكم المخالف بوجه ، بل لابدّ في استفادة حكمه من الرجوع إلى القواعد الاُخر ، مثل قاعدة «لا تعاد» في باب الصلاة(2) وغيرها(3) ، وقد وردت في باب زكاته روايات خاصّة(4) .
الثالث : الكافر إذا أسلم في أثناء العبادة ، كما إذا أسلم في نهار شهر رمضان ولم يأت بشيء من المفطرات ، فهل يتحقّق الجبّ بالنسبة إلى مجموع هذه العبادة ، فلا يجب عليه صوم ما بقي من النهار ولا قضاؤه ، أو لا يتحقق الجبّ ، فلابدّ من الإتيان بها أداءً لو كان له فرض ، أو قضاءً كما في مثال الصوم المذكور ، أو يتحقّق الجبّ بالإضافة إلى ما مضى في حال الكفر دون ما بقي ، فيأتي بالباقي مؤمناً مسلماً؟ وجوه واحتمالات ، ولا يبعد ترجيح الاحتمال الأخير .
الرّابع : الواجبات الموسّعة إذا أسلم الكافر وقد مضى من وقتها مقدار يمكن
- (1) في ص 269 و 272 .
(2) الخصال : 284 ح 35 ، تهذيب الأحكام : 2 / 152 ح 597 ، الفقيه : 1 / 181 ح 857 و ص 225 ح 991 وعنها وسائل الشيعة : 1 / 371 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب 3 ح 8 ، و ج 4 / 312 ، كتاب الصلاة ، أبواب القبلة ب 9 ح 1 ، و ج 5 / 470 ، أبواب أفعال الصلاة ب 1 ح 14 ، و ج 6 / 91 ، أبواب القراءة في الصلاة ب 29 ح 5 .
(3) وسائل الشيعة : 1 / 125 ، كتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات ب 31 .
(4) وسائل الشيعة: 9 / 216، كتاب الزكاة، أبواب المستحقّين للزكاة، ب 3 .
(الصفحة 286)
أداؤها فيه مع الشرائط وهو لم يأت بها على ما هو المفروض ; لكونه كافراً ، فهل يسقط التكليف بها أم لا؟ فيه وجهان :
من أنّه تعلّق الخطاب به قبل الإسلام ; لأنّ المفروض مضيّ مقدار من الوقت يمكن أداؤها فيه ، فيكون مشمولا للقاعدة ، فلا يجب عليه الإتيان بها فيما بقي من الوقت . ومن استمرار الخطاب في آنات الوقت الموسّع واستصحاب اشتغال الذمّة والشك في شمول القاعدة لهذه الصورة ، فيجب عليه الإتيان بها .
وربما يؤيّد الوجه الأوّل ملاحظة أنّ الواجبات الموسّعة مادام العمر ، كصلاة الزلزلة وقضاء الصّلوات اليوميّة ، لا ريب فى سقوطها بالإسلام ; فإنّ الكافر إذا أسلم في شهر شوّال ، فلا ريب في عدم وجوب قضاء شهر رمضان عليه ، مع أنّ قضاء رمضان موسّع بحسب الرّخصة إلى رمضان الآتي ، وبحسب الإجزاء إلى آخر العمر ، ولا يرى فرق بين الواجبات الموسّعة أصلا(1) .
أقول : الظاهر هو الفرق ; فإنّ وجوب القضاء متفرّع على الفوت ، وبعد اقتضاء الحديث كون الترك كالعدم لا يبقى مجال لوجوب القضاء ، ووجوب صلاة الزلزلة مسبّب عنها ، وقد مرّ أنّ الحديث يشمل الأحكام الوضعية أيضاً ، وهذا بخلاف مثل صلاة الظهر التي دخل وقتها ثمّ أسلم بعد مضيّ مقدار من الوقت يمكن أداؤها فيه ، فإنّه لا مجال للحكم بسقوطها بالقاعدة مع فرض سعة الوقت وإمكان الأداء وهو مسلم ، فتدبّر .
هذا تمام الكلام في قاعدة الجبّ .
21 ذي القعدة الحرام 1408 هـ
قاعدة الإحسان
وهي أيضاً من القواعد الفقهيّة المعروفة ، ويستند إليها في الفروع المختلفة الفقهية التي سيأتي التعرّض لبعضها إن شاء الله تعالى ، والكلام فيها يقع في مواقف :
الموقف الأوّل : في مدركها ومستندها ، وما قيل في هذا المجال اُمور :
الأوّل : قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَعْلَمُونَ}(1) .
وقد ذكر المفسّر العظيم القدر صاحب مجمع البيان في شأن نزول الآيات : قيل : إنّ الآية الاُولى نزلت في عبدالله بن زائدة ـ وهو ابن اُمّ مكتوم وكان ضرير
- (1) سورة التوبة 9 : 91 ـ 93 .