(الصفحة 188)
أنّ مجرى القاعدة هو ما إذا كان مرامهم ومذهبهم واضحاً عند الإماميّة ومعدوداً من مشخّصاتهم ومميزاتهم . وأمّا مع ثبوت الاختلاف وكون بعضنا موافقاً لهم فلا مجال لجريانها ، كما لا يخفى .
ومنها : إرث الزوجة ، فإنّهم يحكمون بأنّه يكون من جميع تركة زوجها ، نقوداً ، أو عروضاً ، أو أراضي مملوكة ، أو بساتين ، أو غيرها ، من غير فرق ظاهراً بين ذات الولد من الزوج وغير ذات الولد(1) . وأمّا الإمامية فهم وإن اختلفوا في ذات الولد ، إلاّ أنّهم اتفقوا في غير ذات الولد على عدم إرثها من جميع التركة ، بل لا ترث من الأرض لا عيناً ولا قيمة ، وترث من الأشجار والبناء والنخيل وسائر ما هو ثابت في الأرض القيمة دون العين(2) .
وعليه : فمقتضى قاعدة الإلزام في هذا المورد ، أنّه إذا كان الميت مخالفاً والزوجة شيعية ولم تكن ذات ولد من الزوج ، الحكم بأنّها ترث من جميع التركة ، ولا تكون محرومة من شيء ، وإرثها من العين دون القيمة .
ومنها : طواف النساء ، فإنّهم لا يوجبونه في الحج(3) ، والشيعة قائلون بوجوبه(4) ، وإن لم يكن ركناً من أركان الحج ، وفرّعوا عليه أنّ الإخلال به يوجب عدم حلّية النساء عليه مطلقاً حتى العقد عليها ، وحينئذ لو حج سنّي وزوجته شيعية ، أو بالعكس ، لا يحلّ لكلّ واحد الطرف المقابل عندنا ، ولكن مقتضى قاعدة
- (1) الخلاف : 4 / 116 مسألة 131 ، المغني لابن قدامة : 7 / 18 ـ 19 ، المجموع شرح المهذب : 17 / 208 .
(2) السرائر : 3 / 258 ـ 259 ، مسالك الأفهام : 13 / 184 ـ 195 ، رياض المسائل : 12 / 582 ـ 590 .
(3) بداية المجتهد : 1 / 357 ، ردّ المحتار على الدرّ المختار : 3 / 468 ـ 470 ، المهذّب في فقه الشافعي : 1 403 ، 417 و 422 ، الخلاف : 2 / 363 مسألة 199 ، الوجيز في فقه الشافعي : 1 / 260 ، 263 و 265 ، السراج الوهّاج : 156 ، 162 و 164 ، المغني لابن قدامة : 3 / 469 .
(4) المبسوط : 1 / 360 ، الكافي في الفقه : 194 ـ 195 ، المهذّب : 1 / 231 ـ 232 ، تذكرة الفقهاء : 8 / 353 ـ 355 ، إصباح الشيعة : 154 ـ 155 ، الجامع للشرائع : 200 .
(الصفحة 189)
الإلزام الجارية في حق الشيعة الحلّية ; نظراً إلى دينه ، وأنّ من دان بدين قوم لزمته أحكامهم ، وكذا يجوز للموافق التزويج بالحاج المخالف التارك لطواف النساء على مذهبه ; لهذه القاعدة ، إلاّ أن يقال بعدم جريانها إلاّ في موارد يكون إلزام المخالف ضرراً عليه ، ولا يجري في غير موارد الضّرر ; لأنّ كلمة الإلزام ظاهرة فيه ، وفي المقام يكون الإلزام بنفعه دون ضرره .
وعليه : فلابدّ لحلّ مشكلة حجّ المخالف من التطرّق إلى غير قاعدة الإلزام ، فنقول :
يمكن أن يكون الوجه فيه جريان سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) المختلطين بالعامّة اختلاطاً كثيراً ، خصوصاً مع كثرتهم ومعاملتهم مع حجّاجهم المعاملة مع حجّاج الشيعة في ما يرتبط بمسألة النّساء ، وحكمهم ببقاء نسائهم على الزوجية بعد الحج ، وجواز العقد على مرأة جديدة ، ولم يظهر من الأئمة (عليهم السلام) الردع عن ذلك ، مع كون هذه الجهة بمرأى ومسمع منهم ، فسكوتهم دليل على الرّضا ، ونتيجة ذلك امضاء حجّهم ولو كان فاقداً لطواف النساء ، ولا ارتباط له بقاعدة الإلزام أصلا ; لما ذكرنا في وجهه . وحكمهم (عليهم السلام) باعتبار طواف النساء في الحج(1) ، ومدخليته في حلّية النساء بقاءً وحدوثاً لا يكون ردعاً عن هذه السيرة العملية ; لاحتياج الردع في مثلها إلى التصريح ، كما لا يخفى .
ويمكن أن يكون الوجه فيه : أنّهم حيث يعتبرون في الحجّ طواف الوداع ، ويقول الأغلب منهم : بوجوبه ولزوم الإتيان به ، يكون ذلك الطواف بحكم طواف النساء في التأثير ، ويدلّ عليه خبر إسحاق : لو لا ما منّ الله به على الناس من طواف الوداع لرجعوا إلى منازلهم ، ولا ينبغي لهم أن يمسّوا نساءهم (2) . بل عن علي
- (1) وسائل الشيعة : 13 / 298 ، كتاب الحج ، أبواب الطواف ب 2 .
(2) الكافي : 4 / 513 ح 3 ، وسائل الشيعة : 13 / 299 كتاب الحج ، أبواب الطواف ب 2 ح 3 .
(الصفحة 190)
ابن بابويه الفتوى به في الشيعي الناسي لطواف النساء الآتي بطواف الوداع(1) ، واحتمال أن يكون المراد من الرواية أنّ الإتّفاق على فعل طواف الوداع سبب لتمكّن الشيعة من طواف النساء ; إذ لولاه لزمته التقية بتركه غالباً ، في غاية البعد ، بل الظاهر أنّ المراد بالناس فيه هم العامّة غير القائلين بطواف النساء ، ولا مجال لاستفادة حكم الشيعي من الرواية إذا كان كذلك بعد كون موردها المخالفين .
ومنها : الشفعة بالجوار ، فعلى ما حكاه ابن رشد في بدايته يقول أهل العراق بأنّ الشفعة مرتّبة ، فأولى الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم ، ثمّ الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصّحن شركة ، ثمّ الجار الملاصق . وقال أهل المدينة : لا شفعة للجار ولا للشريك المقاسم(2) ، وقال المحقّق في كتاب الشفعة من الشرائع : المقصد الثاني في الشفيع ; وهو كلّ شريك بحصّة مشاعة قادر على الثمن ، ويشترط فيه الإسلام إذا كان المشتري مسلماً ، فلا تثبت الشفعة للجار بالجوار ، ولا فيما ما قسّم ومُيّز إلاّ مع الشركة في طريقه أو نهره(3) .
وربما يقال في تطبيق القاعدة على هذا المورد : إنّه لو كان لسنّي جار شيعي ، وأراد السنّي بيع داره ، فللشيعي أن يأخذ بالشفعة وأخذ الدّار منه ; إلزاماً له بما يدين به ، وإن كان هو غير معتقد بثبوت حقّ الشفعة للجار .
أقول : حيث إنّ الشفعة حقّ للشريك أو الجار على تقديره على المشترى لا على البائع ، ضرورة أنّ حقّ الشفعة يرجع إلى تسلّط صاحبه على أخذ المال من يد المشتري بغير رضاه ، على خلاف قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، ولذا اشترط المحقق في عبارته المتقدمة إسلام الشفيع إذا كان المشتري مسلماً ، فلابدّ في إجراء
- (1) حكى عنه في مختلف الشيعة : 4 / 217 مسألة 170 .
(2) بداية المجتهد : 2 / 255 .
(3) شرائع الإسلام : 3 / 254 ـ 255 .
(الصفحة 191)
قاعدة الإلزام من ملاحظة حال المشتري ، وأنّه هل يكون مخالفاً أو موافقاً ، فإذا كان الأوّل يحكم بمقتضى تديّنه بثبوت حقّ الشفعة للجار بناءً على تبعيّته لأهل العراق القائلين بثبوت ذلك الحق له في المرتبة الثالثة ، وإن كان البائع شيعيّاً . وإذا كان الثاني فلا مجال لإعمال حق الشفعة بالإضافة إليه ، وإن كان البائع سنيّاً .
وبالجملة : لابدّ في إجراء قاعدة الإلزام من ملاحظة حال المشتري دون البائع ، كما عرفته في القول المذكور .
ومنها : أبواب الضمانات ; سواء كان الضمان ضماناً واقعياً وهو الضمان بالمثل أو القيمة ، أم كان ضماناً معاوضيّاً وهو المعبّر عنه بالضمان بالمسمّى ، وتطبيق القاعدة على هذه الأبواب بأنّه في كلّ مورد يكون الضمان بأحد الوجهين ثابتاً باعتقاد المخالف فمقتضاها الحكم بثبوته وإن لم يكن عليه ضمان عندنا وعلى اعتقادنا ، فيجوز إلزامه بذلك على طبق القاعدة ، وأخذ المثل أو القيمة أو المسمّى منه ، والتصرّف فيه بأيّ نحو شاء وإن كان الحكم الأوّلي غير ذلك ، وموارد هذا القسم كثيرة ، ولا بأس بالإشارة إلى جملة منها :
1 ـ ما لو باع حيواناً من المخالف وقبضه المشتري ، ثمّ تلف في يده في أيّام خيار الحيوان الثابت للمشتري ، فالإماميّة قائلون بأنّ التلف من البائع ; لقاعدة التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له(1) ، والمخالفون قائلون : بأنّ التلف من المشتري(2) ; لإنكارهم هذه القاعدة وقولهم : إنّ التلف ممّن وقع في يده وهو المشتري .
وعليه : فمقتضى قاعدة الإلزام الجارية في البائع الشيعي عدم وجوب ردّ الثمن إليه ; لأنّ مقتضى اعتقاد المشتري ذلك وإن كان مذهب الإمامية لزوم ردّ الثمن بناءً
- (1) المراسم العلوية :177 ، الخلاف : 3/39 مسألة 55 ، شرائع الإسلام : 2/ 23 ـ 24، تذكرة الفقهاء : 11/181 .
(2) النتف في الفتاوى : 280 ـ 281 ، المبسوط للسرخسي : 13 / 44 ، شرح فتح القدير : 5 / 503 ـ 511 ، اللباب في شرح الكتاب : 1 / 238 ـ 239 .
(الصفحة 192)
على كون مفاد قاعدة التلف المذكورة حصول الانفساخ القهري قبل التلف آناًمّا ووقوعه في ملك البائع ، فيجب عليه ردّ الثمن ; سواء كان مساوياً للمبيع قيمة أو مخالفاً له كذلك ، وسواء كان من جنسه أو من غيره ، كما هو ظاهر كلام الأصحاب ، بل صريح جماعة منهم ; كالمحقق والشهيد الثانيين(1) ، أو لزوم ردّ المثل أو قيمة المبيع بناءً على كون مفاد القاعدة مجرّد الضمان دون الانفساخ ، كما هو ظاهر بعض الكلمات ، كالشهيد في الدروس(2) .
وبالجملة : لا يجب عليه بمقتضى قاعدة الإلزام ردّ شيء إلى المشتري المخالف .
2 ـ الوديعة ، وفيها فرعان :
الأوّل ـ الوديعة المحفوظة عند من يساكن المستودع عادة ، وقيل في تطبيق القاعدة عليها ما هذه عبارته : الوديعة عندنا ليست بمضمونة مع المحافظة عليها ، من غيرفرق بين أن يحفظهاالإنسان عند ولده أو زوجته أو غيرهما ،بل عندكلّ شخص يحفظ عنده ماله عادة(3) . قال العلاّمة الحلّي (قدس سره) في تبصرته في البحث عن الوديعة : ويضمن المستودع مع التفريط لا بدونه(4) . وقال المحقّق في الشرائع في المورد نفسه : وإذااستودعوجب عليه الحفظ ،ولايلزمه دركهالوتلفت من غيرتفريط أواُخذت منه قهراً(5) . أمّا أبو حنيفة ، فقد ذهب إلى عدم وجوب الضمان لو أودعهاعندمن يساكنه من العيال ، قال في الفقه على المذاهب الأربعة : الحنفيّة قالوا : على أنّ للوديع أن يحفظ الوديعة عند من يساكنه عادة من عياله ـ إلى قوله : ـ فإذا دفع الوديعة لولده ونحوه ممّن يساكنه من عياله فهلكت عند الثاني ; فإنّ الأوّل لا يضمن ; لأنّه دفعها
- (1) جامع المقاصد : 4 / 309 ، مسالك الأفهام : 3 / 217 .
(2) الدروس الشرعية : 3 / 271 .
(3) لم نعثر عليه عاجلاً .
(4) تبصرة المتعلّمين : 109 .
(5) شرائع الإسلام : 2 / 163 .