(الصفحة 36)
وبما ذكرنا ينقدح أنّ المراد من الأمين في المقام هو المؤتمن ، وأنّ المراد من المؤتمن هو الذي يكون طبع جعل المال بيده مقتضياً لعدم خيانته ، وكأنّه يكون مقيّداً به من دون فرق بين أن يكون الإذن من المالك أو من الله ، ولا يشترط ثبوت وصف الأمانة له في نفسه ، ولا الوثوق بكون المال محفوظاً عنده ، وعليه: يكون استثناء صورة التعدّي والتفريط بنحو الاستثناء غير المنقطع . نعم ، لابدّ حينئذ من إقامة الدليل عليه ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
ويدلّ على ما ذكرنا رواية المقنع ومرسلة أبان المتقدّمتين(1)، حيث وصف الإمام (عليه السلام) الرجل بكونه أميناً مع عدم تعرّض في السؤال لثبوت وصف الأمانة له ، ولا للوثوق لصاحب المال بعدم تحقّق الخيانة منه أصلا ، فمعناه أنّ نفس جعل المال في يد المستبضع مقتض لذلك وإن لم يكن هناك أمانة واقعاً ولا وثوق أصلا .
الأمر الثالث : في استثناء صورة التعدّي أو التفريط من الحكم بعدم ضمان الأمين ، ولا يخفى عدم ورود هذين العنوانين في دليل شرعيّ حتى يجب التكلّم في مفادهما من حيث موضوعيّتهما للحكم الشرعي ، بل الوجه في ثبوت الضمان في موردهما ـ مع ملاحظة أنّ المتفاهم العرفي من عنوان التعدّي هو التجاوز ; أي التجاوز عن دائرة الإذن والتعدّي عمّا هو المأذون فيه ، ومن عنوان التفريط هو التضييع ، فالتعدّي هو الإفراط والتجاوز ، والتفريط هو التضييع ـ هو كون التلف في موردهما مستنداً إلى من كان المال في يده ، فيتحقّق عنوان الإتلاف الذي هو سبب مستقلّ لتحقّق الضمان ; لقاعدة الإتلاف التي هي قاعدة مستقلّة غير قاعدة ضمان اليد .
والوجه فيه : وضوح أنّه لو غذّي الحيوان بما لا يناسبه كمّاً أو كيفاً فتلف ، يكون تلفه حينئذ مستنداً إلى من فعل به ذلك ، كما أنّه لو ترك تغذيته بالمرّة يستند
(الصفحة 37)
التلف إلى التارك .
وعليه : فالوجه في ثبوت الضمان في موردي التعدّي والتفريط هو صدق الإتلاف حينئذ ، ولا شبهة في عدم شمول الروايات المتقدّمة الدالّة على عدم ضمان الأمين لصورة الإتلاف ، بل موردها صورة التلف عنده ; فإنّ مورد السؤال في رواية المقنع المتقدّمة(1) صورة انعدام المال مع الشكّ في كونه بنحو التلف ، أو الإتلاف ، مع دعوى من كان المال في يده الأوّل ، وظاهره أنّه مع العلم بحصول الإتلاف واستناد التلف إليه لا يبقى مجال لتوهّم عدم ثبوت الضمان ، كما أنّ مورد المرسلة المتقدّمة(2) صورة الهلاك أو السرقة من دون مدخليّة المستبضع في ذلك أصلا .
وأمّا قوله (عليه السلام) : ليس على المؤتمن ضمان(3) ، فالمتفاهم العرفي منه هو عدم الضمان مع التلف ، لا ما يشمل صورة الإتلاف أيضاً ، فبعد قصور أدلّة عدم ضمان الأمين للشمول لصورة الإتلاف يكون مقتضى سببيّة الإتلاف للضمان ثبوته مع التعدّي والتفريط الموجبين لتحقّق الإتلاف .
وعلى ما ذكرنا يصير استثناء صورتي التعدّي والتفريط من قبيل الاستثناء المنقطع ، لا بالنحو الذي ذكر سابقاً ، بل من جهة أنّ مورد القاعدة صورة التلف ، والصورتان واردتان في مورد الإتلاف ، فتدبّر .
نعم ، قد يتحقّق عنوان التعدّي مع عدم صدق الإتلاف وتحقّق الاستناد ، كما في مورد صحيحة أبي ولاّد(4) المعروفة الواردة في مورد اكتراء البغل إلى مكان معيّن ، فتجاوز عمّا أذن له إلى مكان آخر ، الدالّة على ثبوت الضمان لو تلف البغل ،
- (1 ـ 2) في ص 29 .
(3) تقدّم أيضاً في ص29.
(4) وسائل الشيعة : 19 / 119 ، كتاب الإجارة ب 17 ح 1 ، وتأتي بتمامها في ص 125 .
(الصفحة 38)
وأنّه يضمن قيمة بغل يوم المخالفة .
والوجه في ثبوت الضمان فيه ـ مضافاً إلى إمكان دعوى صدق الإتلاف في مثل هذا المورد أيضاً، فتدبّر ـ : أنّه مع التعدّي والتجاوز عمّا أذن له ، يكون مقتضى قاعدة «اليد»(1) ثبوت الضمان فيه ; سواء قلنا بأنّ المراد من اليد فيها هي اليد العادية ، أو اليد غير المأذونة ، أو مطلق اليد ، ولا دلالة للروايات المتقدِّمة الواردة في عدم ضمان الأمين على نفي الضمان في هذه الصّورة ; لعدم شمولها لها بوجه ، كما لا يخفى .
الأمر الرابع : قد مرّت الإشارة ـ بل التصريح مراراً ـ إلى أنّ المراد من الأمانة في هذه القاعدة أعمّ من الأمانة المالكية والأمانة الشرعيّة(2) . والمراد بالاُولى هو ما إذا كان وقوع المال بيده بإذن المالك ، أو من هو بحكمه كوكيله أو الوليّ ، وبالثانية هو ما إذا كان الإذن المزبور من قبل الله تبارك وتعالى دون المالك .
فمورد الاُولى جميع المعاملات التي تصدر من المالك أو من بحكمه ، بدون أن تكون متضمّنة لنقل العين ; سواء كان من جهة تمليك المنفعة كباب الإجارة ، أو تمليك الانتفاع كالعارية ، أو كان الغرض مجرّد كونه محفوظاً عنده كالوديعة ، أو كان الغرض أن يعامل معه بحصّة من الربح كالمضاربة ، أو أن يزرع فيه بحصّة من الحاصل كالمزارعة ، أو أن يسقيه بحصّة من الثمرة كالمساقاة ، أو أن يحمله من مكان إلى مكان آخر كالحمّال والمكاري ، ففي جميع هذه الموارد تكون الأمانة مالكية .
ومورد الثانية جميع الموارد التي يكون الإذن فيها من طرف الشارع ، كالمعاملات التي تقع على أموال الغيّب والقصّر بدون أن يكون فيها نقل العين ، كجميع ما ذكرنا في موارد الأمانة المالكية ، وكذلك في مثل اللقطة التي يكون الملتقط مأذوناً فيها من قبل الشارع مادام مشغولا بالتعريف ، فالأمانة في القاعدة
- (1) يأتي البحث عنها في ص78 .
(2) في ص 34 .
(الصفحة 39)
تشمل كلتا الأمانتين .
الأمر الخامس : أنّه قد انتقض عموم هذه القاعدة بموارد :
الأوّل : المقبوض بالسّوم ، حيث حكموا فيه بالضمان(1) ، مع أنّ وقوع المال تحت يد القابض إنّما هو بإذن المالك أو من بحكمه ، كما هو المفروض في المقبوض بالسّوم .
وربما يجاب تارة بأنّ هذه المسألة خلافية ، وقد ذهب جمع إلى عدم الضمان معلّلا بأنّه أمانة مالكية(2) ، واُخرى بأنّه يمكن أن يقال بأنّه ليس القبض فيه بعنوان الأمانة ، بل بعنوان أن يكون عند اختيار القابض للاشتراء مضموناً عليه بالمسمّى(3) ، وبعبارة اُخرى : يكون قبضه وأخذه بعنوان المقدّميّة للشراء الذي يكون فيه الضمان بالمسمّى ، فهو خارج عن الأمانة المالكيّة والشرعية بالتخصّص لا بالتخصيص ، فلا تنخرم به القاعدة ; لأنّه خارج عن موضوع الأمانة .
أقول : لا خفاء في بطلان الجواب الثاني ; لأنّ الأخذ بعنوان المقدمية للشراء الذي يكون فيه الضمان بالمسمّى ، لا يوجب الخروج عن الأمانة المالكية بعد وضوح كون المال واقعاً تحت يده بإذن المالك ، وكان الغرض منه أنّه على تقدير تعلّق غرض القابض به ، وموافقة شرائه لمصلحته ، أن يتحقّق منه الشراء ، فالمقدميّة لا تقتضي إسراء حكم ذي المقدّمة إليها ، خصوصاً بعد عدم ترتّبه عليها أحياناً ; لعدم موافقته لغرض القابض، وعدم تحقّق الاشتراء عقيبه .
فالحقّ أن يقال : إنّ مبنى الحكم في المقبوض بالسّوم إن كان هو القاعدة ، فهي
- (1) المبسوط : 2 / 363 ، شرائع الإسلام : 3 / 238 ، إرشاد الأذهان : 1 / 362 ، إيضاح الفوائد : 2 / 166 ، جامع المقاصد : 4 / 177 و ج 6 / 315 ، رياض المسائل : 8 / 147 ، جواهر الكلام : 37 / 72 ـ 73 .
(2) السرائر : 2 / 86 ، مختلف الشيعة : 5 / 342 ، مسالك الأفهام : 12 / 174 ـ 175 ، مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 192 ، كفاية الأحكام : 256 .
(3) تحرير المجلّة : 2 / 21 ـ 22 ، الفصل السادس .
(الصفحة 40)
تقتضي عدم الضمان ; لأنّه أمانة مالكية يجري فيها ما يجري في سائر الموارد ، وإن كان هو الدليل الخاصّ ، فلا مانع منه على فرض تماميّته ; لصلاحية أدلّة عدم ضمان الأمين ; لورود التخصيص عليها ، وعدم إبائها عنه .
الثاني : المقبوض بالعقد الفاسد ، حيث حكموا فيه بالضمان(1) ، وأجروه مجرى الغصب في جميع الأحكام ، إلاّ في الإثم في خصوص صورة الجهل بالفساد ، مع أنّ القابض مأذون من قبل المالك ، من دون فرق بين قبض الثمن بالإضافة إلى البائع ، أو المثمن بالنسبة إلى المشتري .
والجواب عنه: أوّلا : أنّ مورد القاعدة في الأمانة المالكية ما إذا كان وقوع المال تحت يد الغير بإذن المالك مع حفظ كونه مالكاً ، وأنّ غير المأذون مأذون عن المالك ومن قبله في أن يكون ماله تحت يده ، فالمفروض كون الآذن مالكاً والمأذون غير مالك ، وأمّا القبض في المقبوض بالعقد الفاسد ، فإنّما يتحقّق بتخيّل كون القابض صار مالكاً بالعقد الواقع بينهما ، ففي الحقيقة يكون تسليم المال من المثمن والثمن ، إنّما هو باعتبار كونه مالكاً يستحقّ ملكه وماله ; ضرورة أنّ تسليم المبيع إلى المشتري من البائع ، إنّما هو باعتقاد صيرورته مالكاً للمبيع بالبيع الواقع بينهما ، فليس من قبيل إذن المالك للغير ووقوع المال تحت يده مقروناً به ، فلا تتحقّق الأمانة المالكية .
وهذا في صورة الجهل بالفساد واضح ، ضرورة أنّه مع الجهل واعتقاد صحّة المعاملة لا يكون القبض والإقباض إلاّ بتخيّل تحقّق الانتقال وحصول الملكية للقابض ، وأنّ المال ماله ، فبينه وبين الأمانة المالكية المفروضة في القاعدة بون بعيد .
- (1) السرائر : 2 / 326 و 488 ، شرائع الإسلام : 2 / 13 و ج 3 / 238 ، تذكرة الفقهاء : 10 / 290 ، جامع المقاصد : 6 / 215 ، مسالك الأفهام : 3 / 154 و ج 12 / 174 ، رياض المسائل : 8 / 147 ، كفاية الأحكام : 256 و 260، الحدائق الناضرة : 18 / 466 ، جواهر الكلام : 22 / 256 و ج 37 / 71 ، .