(الصفحة 125)
ينبغي الإشكال فيه ، غاية الأمر أنّه حيث إنّ المختار شمول الحديث له ، فاللازم شموله له أيضاً ، واقتضاؤه الضمان بالنسبة إلى العين والمنفعة معاً .
كما أنّ ثبوت الضمان في القسم الثاني مطلقاً ممّا لا إشكال فيه أصلا ، والظاهر فيه رجوع المنفعة إلى الموقوف عليهم ; لأنّهم هم المستحقون لها ، فتردّ عليهم .
وأمّا القسم الثالث : الذي لم يتعرّض له من جهة ثبوت الضمان وعدمه ، فالظاهر أنّه إن كان المأخوذ مثل فرش المسجد وحصيره وسائر ما يتعلّق به ، فلا ينبغي الإشكال أيضاً في ضمان العين والمنفعة معاً ; لأنّه مال مأخوذ وله مالك وهو المسجد ، بناءً على صحة اعتبار الملكية له ، كما هو الظاهر ، فلا يرتفع الضمان إلاّ بالأداء إليه عيناً أو مثلا أو قيمة .
وإن كان المأخوذ نفس المسجد ، فالظاهر شمول الحديث له أيضاً ، كما قلنا في الحرّ ، فيترتب عليه ضمان العين ، فإذا انهدم بمثل السيل يجب على الضامن تعميره وتجديد بنائه . نعم ، لا مجال للحكم بضمان المنافع بعد كون المنفعة من الاُمور الاُخرويّة مثل الصلاة والذكر ، وهل الحكم كذلك فيما إذا اتخذ المسجد المستولى عليه مسكناً ومحلا لسكناه وسكنى أهله مثلا ، فلا يضمن ما يقابله من المالية ، أو يضمن؟ الظاهر هو الأوّل ، فتدبّر .
وأمّا من الجهة الخامسة : وهي المراد من الأداء المأخوذ غاية للضمان ورافعاً له ، وأنّه في الماليّات عبارة عن الأداء إلى من؟
فنقول : لا شبهة في تحقّقه وصدقه فيما إذا أدّى العين المأخوذة من المالك إليه ، فيما إذا لم تكن العين متعلّقة لحق الغير بالإجارة أو الرهن أو غيرهما ; بأن كانت منافعها غير خارجة عن ملكه ، ولم يتعلّق بها مثل حق الرّهانة ، ويكفي في هذه الصورة الأداء إلى وكيل المالك إذا كانت وكالته شاملة لمثله أيضاً .
كما أنّ الظاهر عدم تحقّق الأداء فيما إذا غصبها غاصب من الغاصب الأوّل مثلا
(الصفحة 126)
وأدّاها إليه دون المالك ، فإنّه وإن كان يصدق الأداء إلى من أخذ العين منه وهو الغاصب الأوّل ، إلاّ أنّه لا يحتمل الحديث الحكم برفع الضّمان مع الأداء إليه ، كما لا يخفى .
وأمّا إذا غصبها من المستأجر الذي كانت العين المستأجرة بيده ، فهل يتحقّق الأداء الرافع للضمان إذا أدّاها إلى مالك العين ، أو لا يتحقّق إلاّ إذا أدّاها إلى المستأجر؟ الحقّ أنّه هنا ضمانان : ضمان العين بالنسبة إلى المالك ، وضمان المنفعة بالنسبة إلى المستأجر ، فإذا أدّاها إلى المستأجر يرتفع كلاهما ; لأنّه أدّى المنفعة إلى صاحبها ، وأدّى العين إلى من يكون أميناً من قبل المالك عليها ; وهو المستأجر ، فهو يكون كالأداء إلى الوكيل في المثال المتقدم ، وأمّا إذا أدّاها إلى مالك العين ، فضمان العين وإن كان يرتفع بذلك ، إلاّ أنّ ضمان المنفعة لا مجال لتوهّم ارتفاعه به .
ومن هنا يتّجه أن يقال : إذا غصب العين المستأجرة من المستأجر مالكها ـ بناءً على عدم انفساخ الإجارة بذلك ـ يصير مالك العين ضامناً لمنافعها ، ولا يرتفع ضمانه إلاّ بأداء العين الذي يستتبع أداء المنفعة إلى المستأجر ، ومع عدم الأداء وفوت المنافع بيده يلزم عليه أداء قيمتها ، كما لا يخفى .
ومن قبيل الإجارة الرّهن ، فإذا أخذ العين من يد المرتهن ، فإن أدّاها إليه يرتفع الضمان كلاًّ ، وأمّا إذا أدّاها إلى المالك يبقى الضمان بالنسبة إلى المرتهن بحاله ، فإذا تلفت في يده يلزم عليه أداء المثل أو القيمة إلى المرتهن ، ليبقى عنده وثيقة لدينه ، ثمّ يردّها المرتهن إلى الرّاهن ، أو يأخذ منه دينه .
وأمّا إذا أخذ العين من يد الودعي ، فالظاهر تحقّق الأداء الرافع للضمان بالردّ إلى كلّ من المالك والودعي ، والفرق عدم تعلّق حقّ الغير بها في هذه الصورة . وعلى ما ذكرنا يتّجه أن يقال : إنّ الأداء المأخوذ غاية هو الأداء إلى من هو ضامن بالنسبة إليه أو وكيله أو أمينه ، لا الأداء إلى خصوص المالك ولا الأداء إلى من أخذ منه .
(الصفحة 127)
الجهة الثالثة : قد عرفت(1) أنّ الضمان في صورة تلف العين إنّما يستفاد من نفس دليل القاعدة ، وأنّ الأداء الذي يكون غاية للحكم بالضمان ورافعاً له ، يكون له مراتب على ما هو المتفاهم عند العرف منه ، وأنّ أداء المثل في المثلي والقيمة في القيمي من مراتب الأداء ، ويرتفع به الضمان أيضاً ، وقد وقع البحث مفصّلا في المعيار في المثلي والقيمي ، وبيان الضابطة لهما ، ونحن نحيل هذا البحث إلى محلّه . وقد وقع في كلام الشيخ الأعظم الأنصاري في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب مكاسبه(2) .
إنّما المهمّ في المقام البحث في أنّ القيمي الذي يجب أداء قيمته بعد التلف ، هل الواجب رعاية قيمته حال الاستيلاء والأخذ ، أو قيمته في حال التلف والانعدام ، أو القيمة حال الأداء الذي هو الغاية للحكم بالضمان ، أو أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان التلف ، أو إلى زمان الأداء؟ فيه وجوه واحتمالات .
وقد ذكروا لهذه الوجوه والاحتمالات أدلّة ووجوهاً ، والمهمّ هو النظر في القاعدة ، وأنّها تقتضي أيّ وجه ، فنقول :
ربما يقال ـ كما قال به المحقّق البجنوردي ـ بأنّ مقتضى القاعدة هي قيمة يوم الأخذ والاستيلاء ، الذي هو في باب الغصب يكون يوم الغصب ، وتقريبه بنحو الاختصار : أنّ ظاهر قوله (صلى الله عليه وآله) : «وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» هو أنّ نفس ما وقع تحت اليد يثبت ويستقرّ على عهدة الآخذ ، ولا شك في أنّ هذا المعنى حكم شرعيّ وضعيّ في عالم الاعتبار التشريعي ; لأنّه حيث إنّ المال المأخوذ مال وعين خارجية ، والموجود الخارجي يمتنع أن ينتقل بوجوده الخارجي إلى عالم الاعتبار ، كما أنّه يستحيل أن ينتقل إلى الذهن للزوم الانقلاب ، فاللازم أن يقال بأنّ ثبوته
- (1) في ص 106 ـ 108 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 209 ـ 271 .
(الصفحة 128)
ووجوده في العهدة إنّما هو في عالم الاعتبار الذي هو أيضاً وجود ، كالوجود الخارجي والوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الكتبي ، ومرجعه إلى اعتبار ذلك الوجود الذي وقع تحت اليد فوق اليد وعلى عهدتها .
وذلك الوجود المأخوذ له جهات ثلاث : الخصوصيات الشخصيّة ، والجهات الصنفيّة الطبيعيّة ، وماليّته التي هي العمدة في أبواب الضمانات والغرامات ، وهذه الجهات مأخوذة في عالم الاعتبار ومعتبرة فيه ، فإذا أمكن أداؤها بأجمعها ، فالواجب هو الأداء بهذه الكيفية ، وإذا تلفت العين تسقط الخصوصيات الشخصية ; لأنّه مع عدم إمكان أدائها يكون اعتبارها لغواً ، وتبقى الجهتان الاُخريان ، وإذا لم تكن مثلية كما هو المفروض ، تسقط الجهات الصنفيّة أيضاً ، ويبقى خصوص الجهة الماليّة ، فاللازم أداء تلك الجهة ; وهي التي كان ضامناً لها ابتداءً ومن حين الأخذ ; لأن ظرف الضمان هو وقت الأخذ ، فاللازم هي القيمة في وقت الأخذ الذي هو وقت الضمان بحسب الحديث الشريف(1) .
ولكنّ الظاهر أنّ مفاد الحديث هي القيمة يوم الأداء والدفع ، وذلك لظهوره في ثبوت نفس العين المأخوذة على العهدة . وأمّا ما في كلامه من أنّ العين الخارجيّة يمتنع أن تنتقل بوجودها الخارجي إلى عالم الاعتبار ، فيردّه أنّ العين الخارجية إنّما هي طرف الاعتبار ومتعلّق له ، فهي بوجودها الخارجي ثابتة على العهدة ، لكنّ الثبوت إنّما هو أمر اعتباري لا واقعي .
وعليه : فقياس المقام بالموجود الخارجي الذي يمتنع أن يوجد في الذهن بوصف وجوده في الخارج قياس مع الفارق ; ضرورة أنّ الوجود الذهني قسيم للوجود الخارجي ، وكل منهما له واقعية ، ويمتنع انتقال أحدهما إلى الآخر مع وصف ثبوت واقعيّته ووجوده . وهذا بخلاف المقام ; فإنّ الأمر الاعتباري الذي هو
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 4 / 75 ـ 76 .
(الصفحة 129)
الضمان والثبوت على العهدة ، إنّما يكون متعلّقه الوجود الخارجي الذي تعلّق الأخذ به ، ولابدّ أن يكون كذلك ; لما عرفت(1) في الفرق بين الضمان واشتغال الذمّة ; من أ نّ الأوّل يتعلّق بالجزئي والثاني بالكلّي ، وعليه : فالثابت على العهدة في المقام نفس المأخوذ الذي هو العين الخارجيّة من دون استلزام الانتقال .
هذا إنّما هو بالإضافة إلى العين مادام كونها موجودة باقية ، وأمّا مع التلف والانعدام ، فالمستفاد من الحكم بالضمان في قاعدة الإتلاف المفروضة بعد التلف ، ومن الحكم ببقاء الضمان في قاعدة «على اليد» بعد تلف العين المأخوذة ; لعدم تحقّق الغاية الرافعة وهي الأداء ـ ولا مجال لتوهّم عدم ثبوت الغاية للضمان ; لامتناع تحقّق الأداء ، كما أنّه لا مجال لدعوى عدم دلالتها على الضمان بعد التلف ـ أنّه لابدّ وأن يعتبر وجود العين في قاعدة الإتلاف وبقاؤها في قاعدتنا . غاية الأمر كونه بنحو الاعتبار ; لأنّه لا يعقل عدم ثبوت الطرف للضمان ; فإنّه كما يحتاج إلى وجود الضامن كذلك يحتاج إلى وجود المضمون ، فلا محالة يكون ثبوت الحكم بالضمان بعد إعدام العين أو انعدامها مستلزماً لفرض وجود العين واعتبار بقائها .
وعلى ما ذكرنا فالثابت على العهدة إنّما هو نفس العين المأخوذة ، من دون فرق بين زمان قبل التلف ، وبين زمان عروض التلف لها ، فكما أنّ العين بجميع جهاتها الثلاث المذكورة في كلام القائل ثابتة على اليد قبل التلف ، غاية الأمر في عالم الاعتبار الذي هو طور من الوجود في قبال سائر أطواره وأنواعه ، كذلك هو ثابت على اليد مع جميع الجهات بعد التلف ، ولا مجال للتفكيك في مفاد الحديث الذي هو الحكم بالضمان بين الزّمانين : قبل التلف وبعده ، والحكم بأنّ الثابت قبل التلف إنّما هي العين مع جميع الجهات الثلاث ، والثابت بعده إنّما هي العين مع بعض تلك الجهات ، فالعين المأخوذة على اليد وعهدتها مستمرّاً إلى زمان الأداء ، ولا فرق في