(الصفحة 29)
فنقول :
منها : ما في الوسائل عن كتاب المقنع للصدوق قال : سئل الصادق (عليه السلام) عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه(1) ، وقد نبّهنا مراراً على أنّ الإرسال بهذا النحو ـ أي بنحو الإسناد إلى المعصوم (عليه السلام) ـ من دون الرواية ـ لا يوجب قدحاً في سند الرواية ; لأنّه بمنزلة التوثيق للوسائط ، فالرواية لا مجال للإشكال فيها من جهة الإرسال .
وأمّا من جهة الدّلالة ، فظاهر السؤال يدلّ على مفروغية عدم الضمان في محلّ البحث ; لأنّ محطّ نظر السائل أنّه إذا كان المستودع غير ثقة وقد تحقّق التلف في يده ، وهو يدّعى وقوعه من دون استناد إليه ، بل لأجل آفة مهلكة سماوية مثلا ، هل يقبل قوله في ذلك؟ وهو يدلّ على وضوح عدم الضمان مع العلم بعدم استناد التلف إليه ، كما لا يخفى .
ومنها : مرسلة أبان بن عثمان المروية في الوسائل عمّن حدّثه ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال : وسألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يُسرق ، أعَلى صاحبه ضمان؟ فقال : ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً(2) . ومقتضى تعليق الحكم بعدم الغرامة في الجواب على كون الرجل أميناً ثبوت الحكم في جميع موارد ثبوت الأمانة ، ولو في غير مورد السؤال ، من دون فرق بين أن تكون الأمانة مالكيّة أو شرعيّة .
ومنها : ما في المستدرك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : ليس على المؤتمن ضمان(3) ، وهو نص في عدم ثبوت الضمان على المؤتمن ، ولكن شموله للأمين من
- (1) المقنع : 386 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 80 ، كتاب الوديعة ب4 ح7 .
(2) الكافي : 5 / 238 ح 4 ، تهذيب الأحكام : 7 / 184 ح 812 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 80 ، كتاب الوديعة ب 4 ح 5 .
(3) دعائم الإسلام : 2 / 491 ح 1755 ، وعنه مستدرك الوسائل : 14 / 16 ، كتاب الوديعة ب 4 ح 4 .
(الصفحة 30)
قبل الله دون المالك ، غير ظاهر .
ومنها : ما في الوسائل أيضاً عن قرب الإسناد ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ليس لك أن تأتمن من خانك ، ولا تتّهم من ائتمنت(1) .
ومنها : غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتعدّدة من الوديعة والعارية واللقطة وغيرها ، الدالّة على عدم ثبوت ضمان على الأمين . نعم ، هنا بعض الروايات الظاهرة في الضمان ; مثل ما ورد في القصّار والصائغ :
كرواية يونس قال : سألت الرّضا (عليه السلام) عن القصّار والصائغ أيضمنون؟ قال : لايصلح إلاّ أن يضمنوا(2) .
ورواية الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن القصّار والصائغ احتياطاً على الناس ، وكان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً(3) .
ورواية السكوني ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن الصبّاغ والقصّار والصائغ احتياطاً على أمتعة الناس ، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشيء الغالب ، الحديث(4) .
والظاهر أنّ المراد من التطوّل الذي تدلّ عليه رواية الحلبي هو التطوّل في مقام العمل ، مع جواز التغريم الذي هو متفرّع على ثبوت الضمان ، وعليه : فلا ينافي
- (1) قرب الإسناد : 72 ح 231 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 81 ، كتاب الوديعة ب 4 ح 9 .
(2) الكافي : 5 / 243 ح 10 ، تهذيب الأحكام : 7 / 219 ح 958 ، الاستبصار : 3 / 132 ح 473 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 144 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 9 .
(3) الكافي : 5/242 ح3، تهذيب الأحكام : 7/22 ح962، الإستبصار: 3/133 ح478، وعنها وسائل الشيعة: 19/142، كتاب الإجارة ب29 ح4 .
(4) الكافي : 5 / 242 ح 5 ، تهذيب الأحكام : 7 / 219 ح 956 ، الاستبصار : 3 / 133 ح 471 ، الفقيه : 3 / 162 ح 714 ، مستطرفات السرائر : 63 ح 43 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 142 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 6 .
(الصفحة 31)
التضمين من ناحية أمير المؤمنين (عليه السلام) مطلقاً ، ويؤيّده بل يدلّ عليه مرسلة الصدوق ، أنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال : كان أبي (عليه السلام) يضمّن الصائغ والقصّار ما أفسدا وكان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يتفضّل عليهم(1) . مع أنّ موردها صورة الإفساد والإتلاف التي يكون الحكم فيها الضمان بمقتضى القاعدة والنصوص الكثيرة(2)الواردة في صورة الإفساد ، فالتفضّل والتطوّل لا ينافي الضمان ، ولكنّه حيث يكون في المقام رواية اُخرى ظاهرة في عدم الضمان ، وهي :
رواية معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال : ليس يضمنان(3) . ودلالتها على حكم صورة التلف ظاهرة .
وروايتان ظاهرتان في التفصيل في مثل القصّار في الضمان وعدمه بين صورتي الأمن والإتّهام :
إحداهما : رواية أبي بصير المشتملة على قول أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّه لا يضمّن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين(4) .
وثانيتهما : رواية محمد بن الحسن الصفار قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصّره ، فدفعه القصّار إلى قصّار غيره ليقصّره ، فضاع الثوب ، هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره وإن كان القصّار مأموناً؟ فوقّع (عليه السلام) هو ضامن له إلاّ أن يكون ثقة مأموناً إن شاء الله(5) .
- (1) الفقيه : 3 / 161 ح 706 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 47 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 20 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 141 ـ 147، كتاب الإجارة ب 29 .
(3) تهذيب الأحكام : 7 / 220 ح 964 ، الاستبصار : 3 / 132 ح 477 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 145 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 14 .
(4) تهذيب الأحكام : 7 / 218 ح 951 ، الفقيه : 3 / 163 ح 715 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 144 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 11 .
(5) تهذيب الأحكام : 7 / 222 ح 974 ، الفقيه : 3 / 163 ح 720 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 146 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 18 .
(الصفحة 32)
يكون مقتضى الجمع بين الروايات المتعارضة في المقام هو التصرّف في المطلقات منها ، وحملها على الرواية المفصِّلة التي يكون مقتضاها ثبوت الضمان مع التهمة وعدم كونه مأموناً ، وعدمه مع كونه كذلك ، وعليه تتحقّق المخالفة مع الروايات المتقدِّمة الظاهرة في عدم ضمان الأمين مطلقاً ، فاللازم أن يقال : إنّ الروايات الدالّة على الضمان في المقام خارجة عن محلّ البحث ; لأنّ موردها صورة الشك في تحقّق التلف في يد الصائغ والقصّار ومثلهما .
والدليل عليه ـ مضافاً إلى التعليل بكون تضمين أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما هو لأجل الاحتياط على أمتعة الناس ـ ذيل رواية السكوني الدالّ على أنّه لم يكن يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب ; فإنّ مقتضاه أنّه مع العلم بثبوت التلف واستناده إلى أمر آخر دون مثل الصائغ ، لم يكن هناك تضمين أصلا ، فالتضمين الثابت في الصدر إنّما هو في مورد الشك في تحقّق التلف أو الشكّ في الاستناد إلى العامل واحتمال كونه هو المتلف .
ومنه يظهر أنّ مورد الرواية المفصِّلة أيضاً إنّما هو خصوص صورة الشكّ ، ويؤيّده بل يدلّ عليه أنّ نفس هذا التفصيل لا يلائم إلاّ مع هذه الصورة ; فإنّ الإتّهام وعدمه لا يرتبطان إلاّ بما إذا كان هناك شكّ ، وإلاّ فمع العلم بثبوت التلف وعدم الاستناد إلى العامل لا يكون فرق بين المتّهم وغيره ، فالإنصاف أنّ الروايات الدالّة على عدم الضمان محكّمة .
هذا ما ورد في باب الإجارة ، وقد ورد في أبواب اُخر بعض ما يدلّ على الضمان ; مثل ما ورد في باب المضاربة بمال اليتيم ، وأنّ العامل ضامن(1) . وما ورد في
- (1) وسائل الشيعة : 9 / 83 ـ 89 ، كتاب الزكاة ، أبواب من تجب عليه الزكاة ب 1 و 2 و ج 19 / 27 : كتاب المضاربة ب 10 .
(الصفحة 33)
العارية ممّا يدلّ على ضمان عارية الدرهم والذهب والفضة(1) . وما ورد في الوصيّ ممّا يدلّ على ضمانه في الجملة(2) . وما ورد في باب اللقطة وأنّه إذا تلفت فالواجد ضامن لها(3) ، ولكنّها على تقدير عدم إمكان حملها على ما لا ينافي الروايات المتقدّمة ، يكون مفادها ضمان الأمين في الجملة ، ولا بأس به ; لأنّ قاعدة عدم ضمان الأمين قابلة للتخصيص ، ولا مجال للالتزام بابائها عنه أصلا .
ثمّ إنّه مع ما عرفت من وجود روايات متكثرة واردة في المسألة ، وأنّ الأمين لا يكون ضامناً إلاّ مع التعدّي أو التفريط ، يشكل الاستدلال في مقابل عموم قاعدة ضمان اليد ـ على تقديره ـ بإجماع الفقهاء وإرسالهم المقام إرسال المسلّمات ; فإنّه مع وجود روايات متكثّرة دالّة على عدم الضمان ، وثبوت حجيّة بعضها من جهة السّند أيضاً ، لا يبقى مجال للإجماع ولا لدعوى كونه دليلا مستقلاًّ في مقابل الروايات ، كما لا يخفى . نعم ، لو كانت الروايات بأجمعها قاصرة من حيث السّند ، لكان الإجماع كاشفاً عن الاعتبار وجابراً للضعف من جهة السّند .
وكيف كان ، فالعمدة على تقدير شمول قاعدة ضمان اليد هي الرّوايات الواردة في عدم ضمان الأمين . هذا كلّه من جهة الدليل على القاعدة .
وأمّا من سائر الجهات ، فيقع الكلام في اُمور :
الأمر الأوّل : أنّ الضمان المنفي هنا هو الضمان الثابت في قاعدة اليد ، وهو كون المال في ذمّة ذي اليد وفي عهدته ، الذي هو أمر اعتباري عند العقلاء والشرع وإن كان بينهما اختلاف في بعض الموارد ، وهو أي ثبوت المال في العهدة ـ وبتعبير الرواية «على اليد» ـ يستمرّ إلى أن يتحقّق أداء نفس المال مع وجوده وإمكان أدائه
- (1) وسائل الشيعة : 19 / 96 ، كتاب العارية ب 3 .
(2) وسائل الشيعة : 19 / 348 ، كتاب الوصايا ب 37 .
(3) وسائل الشيعة : 25 / 460 ، كتاب اللقطة ب 14 .