(الصفحة 66)
الروايات الواردة في مورد الإقرار بالزّنا التعبير بـ«طهّرني»(1) الدالّ على أنّ إقراره الموجب للحدّ إنّما هو لأجل حصول الطّهارة والنظافة من القذارة المعنوية المتحقّقة بسبب الزّنا ، فالداعي إلى الإقرار هو التخلّص في الجملة من العذاب الاُخروي .
نعم ، ربما يمكن أن يتحقّق الإقرار من دون أن يكون لبيان الواقع أو التحذّر من شدّة العذاب ، بل يكون كذباً مخالفاً للواقع صادراً بداعى إظهار الشخصية أو الشجاعة مثلا ، ولكنّه حيث يكون متصفاً بالشذوذ وقلّة الوجود ، لا يمنع عن اعتماد العقلاء على الأقارير ، ولكن احتماله صار موجباً لكون الإقرار من الأمارات الظنيّة ; إذ بدونه يكون الإقرار موجباً للعلم بصحّة ما أقرّ به وصدّقه ، فهو ـ أي احتمال الكذب ـ وإن صار مانعاً عن تحقّق العلم ، إلاّ أنّه لم يصر مانعاً عن الاعتماد على الإقرار ونفوذه وجوازه ، ولذلك ترى أنّ عمدة ما يعتمدون عليه في المحاكم وفي باب المرافعات وفصل الخصومات وإجراء الأحكام والمقرّرات هو الإقرار الصّادر من المتّهم ، ولم يناقش في هذا الاعتماد واحد منهم أصلا .
وأمّا عدم ردع الشارع وامضاؤه فهو يظهر كما عرفت بملاحظة الكتب المختلفة من كتب الحديث المؤلّفة للخاصة والعامّة ، ولا شبهة في الإمضاء بوجه .
الثاني : الكتاب ; كقوله تعالى : {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(2) . وقوله تعالى : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}(3) . وقوله تعالى : {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}(4) .
- (1) وسائل الشيعة : 28 / 38 ، كتاب الحدود والتعزيرات ، أبواب مقدّمات الحدود ب 16 ح 6 و ص 55 ب 31 ح 3 ـ 5 .
(2) سورة آل عمران3 : 81 .
(3) سورة التوبة 9 : 102 .
(4) سورة النساء 4 : 135 .
(الصفحة 67)
واُجيب عنها ، أمّا عن الآية الاُولى ، فلأنّه لا ربط لها بما هو محلّ البحث في قاعدة إقرار العقلاء ; لأنّ الله تعالى يخاطب الناس ويقول ـ بعد أخذ العهد والمواثيق منهم على أن يؤمنوا وينصروا رسله «هل أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري» أي ثقلي؟ والمراد بالثقل : العهود والمواثيق التي اُخذت منهم ، أي قبلتم عهودي ومواثيقي ، قالوا : «أقررنا» أي قبلنا تلك العهود والمواثيق ، والمراد من الأمر بالشهادة تثبيت تلك العهود والمواثيق عليهم وإتمام الحجّة ، ولذلك يقول بعد ذلك : {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} أي لا يمكن لكم أن تنكروا هذه العهود .
وأمّا عن الآية الثانية ، فلأنّه أيضاً لا ربط لها بالمقام ; سواء كان المراد بـ «آخرون» هم الفاسقون المعترفون بذنوبهم ، التائبون عمّا فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السيّء ، أو المتخلّفين عن غزوة تبوك ، فندموا وتابوا(1) .
أقول : لا تنبغي المناقشة في إشعار الآية بل دلالتها على أنّ الاعتراف بالذنب كاشف عن ثبوته وحاك عن تحقّقه ، ولكن دلالتها على أنّ «إقرار كلّ عاقل على نفسه جائز» ممنوعة .
وأمّا عن الآية الثالثة ، فلأنّ المراد من الشهادة الواجبة ـ ولو كانت على النفس ـ هي ما إذا كان نفس الشهادة وأداؤها موجباً لوقوع ضرر على النفس ، والمفروض في القاعدة كون المقرّبه ضرراً على المقرّ لا نفس إقراره ، فهذه الآية أيضاً لا مجال للاستدلال بها في محلّ البحث في المقام .
الثالث : الرّوايات ، وهي على قسمين :
الأوّل : ما يدلّ على القاعدة بعنوانها الكلّي ; وهو الحديث المشهور بين الفريقين الذي عبّر عنه صاحب الجواهر (قدس سره) بالنبويّ المستفيض أو المتواتر(2) وهو
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 3 / 49 .
(2) جواهر الكلام : 35 / 3 .
(الصفحة 68)
قوله (صلى الله عليه وآله) : إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(1) ، وأيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) : قولوا الحقّ ولو على أنفسكم(2)، وأورده صاحب الجواهر في كتاب الإقرار(3) .
والظاهرعدم انطباق الحديث الثاني على المقام ; لأنّ المراد وجوب إظهار الحقّ وعدم جواز كتمانه ، وإن كان نفس هذا الإظهار وعدم الكتمان ضرراً على المقرّ ، فالرواية مثل قوله تعالى : {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}(4) .
وأمّا الحديث الأوّل : فهو ينطبق على القاعدة ، بل عنوانها مأخوذ فيه ، وسيأتي(5) البحث في مفاده إن شاء الله تعالى .
القسم الثاني : الأحاديث الكثيرة التي ورد أكثرها في الموارد الخاصّة ، كالإقرار بالولد والنسب ، وكون النساء مصدّقات في أنفسهنّ (6)، ولكنّ الظاهر أنّ ذكر المورد إنّما هو لأجل تطبيق القاعدة عليه ، لا لأجل خصوصيّة فيه ، كما لا مجال للتأمّل فيه لمن راجعها ، وقد ورد في بعض الأحاديث ، مثل :
مرسل العطّار ، عن الصادق (عليه السلام) : المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه(7) . ومرجعه إلى أنّ الشهادة على النفس وإن كانت واحدة ، بل ربما لايكون
- (1) عوالي اللئالي : 1 / 223 ح 104 و ج 2 / 257 ح 5 و ج 3 / 442 ح 5 ، وسائل الشيعة : 23 / 184 ، كتاب الإقرار ب 3 ح 2 ، مستدرك الوسائل : 16 / 31 ، كتاب الإقرار ب 2 ح 1 .
(2) بحار الأنوار : 30 / 414 ، تلخيص الحبير : 3 / 125 ح 1265 ، ولكن المروي هو : قل الحقّ ولو على نفسك ، كما قاله صاحب تلخيص الحبير، ونقله في البحار : 77 / 173 عن كنز الفوائد للكراجكي : 2 / 31 وفي كنز العمال : 3 / 359 ح 6929 عن ابن النجار ، عن عليّ (عليه السلام) .
(3) جواهر الكلام 35 / 3 .
(4) سورة النّساء 4 : 135 .
(5) فى ص 80 ـ 81 .
(6) انظر وسائل الشيعة : 19 / 322 ـ 328 ، كتاب الوصايا ب 26 ووسائل الشيعة : 21 / 499 ، كتاب النكاح ، أبواب أحكام الأولاد ب 102 .
(7) صفات الشيعة : 116 ح 60 ، وعنه وسائل الشيعة : 23 / 184 ، كتاب الإقرار ب 3 ح 1 وبحار الأنوار : 75 / 216 ح 18 .
(الصفحة 69)
عادلا ، لكنّها أكشف للواقع وأصدق من شهادة سبعين مؤمناً وإن كانت متصفة بالتعدّد ، بل وبالعدالة أيضاً .
وفي خبر جرّاح المدائني ، عن الصادق (عليه السلام) : لا أقبل شهادة الفاسق إلاّ على نفسه(1) . فإذا قبلت شهادة الفاسق على نفسه ، فشهادة العادل عليها بطريق أولى ، ومرجع هذه الروايات إلى أنّ مسألة الإقرار من شؤون مسألة الشهادة . غاية الأمر أنّ لها خصوصيّة ; وهي عدم اعتبار التعدّد والعدالة فيها ، بخلاف الشهادة على الغير .
الرّابع : عدم الخلاف من أحد من علماء الإسلام بل إجماعهم كافّة على حجّية «إقرار العقلاء على أنفسهم» ونفوذه ومضيّته في الجملة(2) .
ولكن بملاحظة ما ذكرنا مراراً يظهر أنّه لا أصالة للإجماع في مثل المقام ممّا يوجد فيه نصّ معتبر ، إلاّ أن يكون الإجماع جابراً لضعف الرّواية على تقديره .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ عمدة الدليل على نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم هو بناء العقلاء ، ويكون مثل الحديث النبوي دليلا على الإمضاء ، فالحديث يمضي ما عليه بناء العقلاء ، وعليه : لا يكون دليلا مستقلاًّ في مقابله ، ولكن حيث يكون بناء العقلاء من الأدلّة اللبّية ودليل الإمضاء دليلا لفظيّاً ، لابدّ من المشي على طبق دليل الإمضاء والبحث في مفاده من جهة العبارات الواقعة والكلمات المستعملة فيه .
الجهة الثانية : في مفاد القاعدة ، وقد عرفت أنّه لابدّ في هذه الجهة من البحث في مفاد الحديث الذي هو دليل لفظي يتضمّن الإمضاء لما عليه بناء العقلاء .
فنقول : أمّا الإقرار، فمعناه لغةً وعرفاً هو الإثبات وجعل الشيء ذا قرار
- (1) الكافي : 7 / 395 ح 5 ، تهذيب الأحكام : 6 / 242 ح 600 ، وعنهما وسائل الشيعة : 23 / 186 ، كتاب الإقرار ب 6 ح 1 .
(2) المبسوط : 3 / 2 ـ 3 ، السرائر : 2 / 498 ، جواهر الكلام : 35 / 3 .
(الصفحة 70)
وثبات(1) ، ومعنى أقرّه على شغله : هو جعله ثابتاً على ذلك الشّغل ، ومعناه في المقام الذي هو بحث فقهي: هو إثبات المقرّ به وجعله ثابتاً .
وإضافة الإقرار إلى العقلاء لأجل خصوصية لهم في هذا الحكم ، وعدم شموله لغيرهم ممّن لا عقل له .
والمتفاهم من كلمة «على أنفسهم» كونه على ضررهم ; فإنّ كلمة «على» في مثل المقام بمعنى الضرر في مقابل «اللام» الذي بمعنى النفع ، مثل قوله تعالى : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(2) .
والمراد بالجواز كما أشرنا إليه في أوّل بحث القاعدة هو النفوذ والمضيّ لا الجواز مقابل الحرام ; لأنّ الجواز التكليفي لا يختصّ بالإقرار على النفس ، بل يشمل الإقرار للنفس ، كما أنّه لا يختصّ بخصوص العقلاء ، مع أنّه قد لا يكون الإقرار على النفس من العاقل بجائز شرعاً ، كما إذا علم بكذب إقراره ، فإنّه حينئذ حرام من جهة الكذب ، وربما ينطبق عليه عنوان محرّم آخر ; كقذف المحصنة فيما إذا أقرّ بالزنا بالمحصنة الفلانية ، مع أنّ الظاهر كما عرفت كون الحديث إمضاء لما عليه العقلاء ، ومرّ أيضاً أنّ العقلاء يجعلون الإقرار من الأمارات الظنّية القويّة ويعتمدون عليها ، فالمراد من الجواز هي الحجية التي عليها بناء العقلاء .
وأمّا الظرف ، فهل هو متعلّق بالإقرار كما هو ظاهر عبارة القاعدة ، ومرجعه إلى تقييد موضوع الحكم بالمضيّ بما إذا كان الإقرار على النفس وبضرره ، كتقييده بما إذا كان صادراً من العقلاء على ما تقتضيه إضافة الإقرار إليهم ، أو يكون متعلّقاً بالجواز والمضيّ ، ويكون الموضوع مطلق الإقرار ، ومرجعه إلى كون الحكم ـ وهو الجواز ـ مقيّداً بكونه على النفس وبضرر المقرّ؟
- (1) راجع تاج العروس : 7 / 381 .
(2) سورة البقرة 2 : 286 .