(الصفحة 201)قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به
وهي أيضاً من القواعد الفقهية المشهورة التي اشتهرت من زمان الشيخ الطوسي (قدس سره) إلى زماننا هذا(1) ، والكلام فيها يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في مورد هذه القاعدة ، وبيان النسبة بينها وبين قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» التي تقدّم البحث عنها مفصّلا .
فنقول : إنّ النسبة بين الموردين هي العموم من وجه ، ولازمه وجود مادّة الاجتماع ومادّتي الافتراق . أمّا مادّة الاجتماع ، فهي مثل ما إذا أقرّ الشخص بأنّه وهب ماله لزيد مثلا ; فإنّه بمقتضى كونه إقراراً من عاقل على نفسه تنطبق عليه قاعدة الإقرار ، وبمقتضى كونه مالكاً ومسلّطاً على هبة ماله ـ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ـ تنطبق عليه قاعدة من ملك .
وأمّا مادّة الافتراق من ناحية قاعدة «من ملك» فهي كما إذا أقرّ الوكيل أو
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 180 ـ 181 .
(الصفحة 202)
الوليّ على الأصيل ، كما إذا أقرّ ببيع مال الموكّل أو المولّى عليه بثمن مخصوص ، أو شرط مخصوص ، فإنّه لا تنطبق عليه قاعدة الإقرار ; لعدم كونه إقراراً على نفسه ، بل على موكّله أو له ، أو الصّغير .
كما أنّ مادّة الافتراق من ناحية قاعدة الإقرار ، هي ما إذا أقرّ على نفسه بفعل لا يكون جائزاً له ولا مسلّطاً عليه ، كالإقرار بقتل زيد أو جرحه مثلا ; فإنّه لا ينطبق عليه قاعدة من ملك ، بل هو من مصاديق قاعدة الإقرار .
وعلى ما ذكرنا فلا وجه للاستناد في هذه القاعدة إلى قاعدة الإقرار ، كما حكي عن بعض تخيّله(1) .
المقام الثاني : في مدركها .
فنقول : قد عرفت أنّ قاعدة الإقرار لا يمكن أن تكون مستنداً لهذه القاعدة بعدما عرفت من اختلاف الموردين ، وأنّ العمدة في هذه القاعدة تصحيح إقرار الصّبي بما يصحّ منه ، كالوصيّة بالمعروف والصّدقة ، ولو كان المستند فيها حديث الإقرار لم يجز ذلك ; لبنائهم على خروج الصبي من حديث الإقرار ، مع أنّ دليل الإقرار لا ينفع في إقرار الوكيل والعبد والوليّ على غيرهم كما مرّ ، فاللازم إقامة الدليل من غير تلك الناحية . وما يمكن أن يكون دليلا اُمور :
أحدها : الإجماع على هذه القاعدة ; بمعنى أنّ استدلال الأصحاب بها يكشف عن وجود دليل معتبر لو عثرنا به لم نعدل عنه وإن لم يكشف عن الحكم الواقعي ، بل يظهر منهم أنّهم أرسلوها إرسال المسلّمات . قال الشيخ في مسألة إقرار العبد المأذون في التجارة : وإن كان ـ يعني المال المقرّ به ـ يتعلّق بالتجارة ، مثل ثمن المبيع وأرش المعيب وما أشبه ذلك ; فإنّه يقبل إقراره ; لأ نّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به
- (1) لم نعثر عليه عاجلاً .
(الصفحة 203)
الخ(1) وحكاه عنه الحلّي(2) ساكتاً عليه من دون اعتراض ، وظاهره ارتضاؤه له ، وإلاّ لم يكن من دأبه السكوت .
وقال القاضي في محكيّ «المهذّب» : إذا كان له عبد فكاتبه في صحّته ثمّ مرض وأقرّ أنّه قبض مال الكتابة ، صحّ إقراره وعتق العبد ; لأنّ المريض يملك القبض ، ويملك الإقرار به مثل الصّحيح(3) .
وقال المحقق في «الشرائع» : لو كان ـ يعني العبد ـ مأذوناً في التجارة ، فأقرّ بما يتعلّق بها ، قُبل ; لأنّه يملك التصرّف فيملك الإقرار ، ويؤخذ ما أقرّ به ممّا في يده(4) . ومثله العلاّمة في محكيّ القواعد (5) .
وذكر فخرالدين في مسألة اختلاف الولي والمولّى عليه : أنّ الأقوى أنّ كلّ من يلزم فعله أو انشاؤه غيره ، كان إقراره بذلك ماضياً عليه(6) .
وربما يستدلّ على تقديم قول الوكيل في التصرّف بأنّه أقرّ بما له أن يفعله .
ولكنّ الظاهر أنّه لا مجال للاستناد إلى الإجماع أيضاً لوجهين :
الأوّل : أنّه يظهر من جملة من أعاظم الفقهاء المخالفة وعدم الإلتزام أو الترديد في هذه القاعدة ، فعن العلاّمة في التذكرة(7) أنّه رجّح تقديم قول الموكّل عند دعوى الوكيل التصرف قبل العزل ، وتردّد فيه في التحرير(8) .
- (1) المبسوط : 3 / 19 .
(2) السرائر : 2 / 57 ـ 58 .
(3) المهذّب : 2 / 393 .
(4) شرائع الإسلام : 3 / 152 .
(5) قواعد الأحكام : 2 / 415 .
(6) إيضاح الفوائد : 2 / 55 ، وفيه : والأقوى أنّ كلّ من يلزم فعله أو انشاؤه غيره يمضي إقراره بذلك عليه .
(7) تذكرة الفقهاء : 2 / 137 (ط .ق) .
(8) تحرير الأحكام : 3 / 42 .
(الصفحة 204)
واستظهر من فخر الدين في الإيضاح(1) عدم قبول دعوى الزوج في العدّة الرّجوع ، وجعل نفس الدعوى رجوعاً . وتردّد في ذلك في موضع من القواعد(2) . وعن الشهيد في القواعد : الاستشكال في دعوى الزوج الرّجعة(3) ، وعن المحقق الثاني : إنكار هذه القاعدة رأساً ; حيث تردّد في قبول إقرار العبد المأذون(4) ، وفي قبول قول الوليّ في تزويج بنته لو أنكرت ، بل ولو لم تنكر ; لجهلها بالحال (5) .
لكنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسالته في هذه القاعدة : هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ القضية المذكورة في الجملة إجماعيّة ; بمعنى أنّه ما من أحد من الأصحاب ـ ممّن وصل إلينا كلامهم ـ إلاّ وقد عمل بهذه القضية في بعض الموارد ، بحيث نعلم أن لا مستند له سواها ; فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضية ، وعملوا بها في مورد آخر ـ إلى أن قال ـ : وكيف كان ، فلم نجد فقيهاً أسقطه عن استقلال التمسّك(6) .
الثاني : أنّ التمسك بالإجماع إنّما يتمّ لو كان دليلا منحصراً في المقام ، حيث إنّ الإجماع حينئذ يتّصف بالأصالة ، ويكشف عن موافقة المعصوم (عليه السلام) أو وجود دليل معتبر ، وأمّا مع فرض عدم الانحصار ، وتماميّة بعض الوجوه الاُخر التي استدلّ بها على القاعدة ، واحتمال أن يكون ذلك الوجه هو مستند المجمعين ، فلا يبقى أصالة له ، ولا يتّصف بكونه دليلا مستقلاًّ في مقابل ذلك الوجه كما لا يخفى . فاللازم ملاحظة الوجوه الاُخر .
- (1) إيضاح الفوائد : 3 / 331 .
(2) قواعد الأحكام : 3 / 136 .
(3) القواعد والفوائد : 2 / 279 .
(4) جامع المقاصد : 5 / 209 ـ 210 وج 9 / 217 .
(5) جامع المقاصد : 12 / 73 .
(6) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 194 ـ 195 .
(الصفحة 205)
ثانيها : استقرار السيرة على معاملة الأولياء ـ بل مطلق الوكلاء ـ معاملة الأصيل في إقرارهم كتصرفاتهم ، والظاهر أنّ المراد بالسيرة هي سيرة المتشرعة ، وعلى تقدير ثبوتها وعدم كون منشئها هو بناء العقلاء على ما يأتي الكلام فيه ، لا تجري في جميع موارد القاعدة ، فهل تجري في مورد الصبي واعتبار قوله في ما له أن يفعل ، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار إقرار الصبيّ ـ الحاكمة على قاعدة إقرار العقلاء ـ عدم الاعتبار؟ بل هل تجري فيما إذا كان إقرار الوليّ أو الوكيل بضرر المولّى عليه أو الموكّل ، كما هو المهمّ من هذه القاعدة ، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار الإقرار على الغير عدم نفوذه وعدم اعتباره؟
وبالجملة : فالتمسّك بالسّيرة المذكورة في جميع موارد تطبيق القاعدة في غاية الإشكال .
ثالثها : الروايات الواردة في الإئتمان ، الدالّة على قبول قول من ائتمنه المالك بالإذن ، أو الشارع بالأمر ، وأنّه لا يجوز إتّهامه بوجه ، ولكنّه استشكل عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) بأنّ النسبة بين هذه القاعدة وقاعدة الإئتمان عموم من وجه ; لعدم جريان قاعدة الإئتمان في إقرار الصّبي بما له أن يفعله ، وعدم جريان قاعدة من ملك بعد زمان الإئتمان ، مع أنّ مقتضى قاعدة الإئتمان عدم الفرق ، وقد صرّح جماعة بالأوّل ، وقالوا : إنّه لو أقرّ المريض بأنّه وهب وأقبض حال الصحّة نفذ من الثلث(2) ، وبعدم نفوذ إقرار العبد المأذون من قبل المولى ـ بعد الحجر عليه ـ بدين أسنده إلى حال الإذن(3) ، فلا مجال لأن يكون مستند المقام قاعدة الإئتمان بوجه .
رابعها : ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالته من أنّه يمكن أن يكون الوجه في
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 197 ـ 198 .
(2 ، 3) تحرير الأحكام : 4 / 400 ـ 401 .