(الصفحة 97)
حتّى يتحقّق أداؤه ، وهذا أمر اعتباري لا يكون مورداً لإنكار العقلاء أيضاً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الظرف في الحديث ظرف مستقرّ ، ومرجعه إلى استقرار وثبوت نفس المال المأخوذ على عهدة ذي اليد حتى تؤدّيه ، وهذا مع أنّه لا يحتاج إلى إضمار ما هو خلاف الأصل ـ كما عرفت ـ معنى في غاية اللطافة والاستقامة والملاءَمة ، ولا محيص من حمل الرواية عليه .
ثمّ إنّه من الواضح أنّه ليس المراد من اليد هي الجارحة المخصوصة ; لأنّه ربما لا يكون للغاصب تلك الجارحة المخصوصة ، كما أنّ الشيء المأخوذ ربما لا يكون قابلا لأن يؤخذ باليد كالدار مثلا ، فاللازم أن يقال بأنّ المراد منه هو الاستيلاء والتسلّط على شيء ; سواء كان في عالم الخارج والتكوين ،أو في عالم الاعتبار .
واستعمال اليد بهذا المعنى شائع في المحاورات العرفية ، بل في الكتاب والسنّة ، فيقال : الأمر بيدي أفعل ما أشاء ، كناية عن ثبوت القدرة والاستيلاء على ذلك ، وفي الكتاب حكى الله ـ تعالى ـ عن اليهود قولهم : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}(1) والنكتة في العدول عن تعبير اليهود باليد بنحو المفرد بقوله : {بَلْ يَدَاهُ} بصورة التثنية هي الإشارة إلى أنّه كما أنّ مجموع القدرة في مثل الإنسان متحقّق في مجموع اليدين ; لأنّ اليد الواحدة لها بعض الاقتدار وسهم من القدرة ، كذلك قدرة الله ـ تبارك وتعالى ـ على الإنفاق إنّما هي بنحو الكمال لا في خصوص مرتبة منه ، فالمراد ثبوت الاستيلاء الكامل والقدرة المطلقة له ـ تعالى ـ على الإنفاق ، غاية الأمر أنّ ثبوته وتحقّق الإنفاق توسعة وتضييقاً إنّما يرتبط بمشيئة الله وإرادته حسب المصالح التي يراها .
فانقدح أنّ المراد باليد في الحديث الشريف هو الاستيلاء ، وهل المراد منه
- (1) سورة المائدة 5 : 64 .
(الصفحة 98)
نفس الاستيلاء الذي هو معنى الإسم المصدري ، أو أنّ المراد به هو المستولى المتصف بصفة الاستيلاء؟ الظاهر والمتفاهم عرفاً من تعبير الحديث هو الثاني ; من جهة الحكم بثبوت المال المأخوذ واستقراره عليه ، ومن الواضح أنّ الحكم الشرعي إنّما يكون ثابتاً على المكلّف ، من دون فرق بين الحكم التكليفي وبين الحكم الوضعي . نعم ، بعض الأحكام الوضعية يكون موضوعه الأعيان الخارجية ، كالنجاسة الثابتة للدّم ، والطهارة الثابتة للماء ، ولكنّ المقام لا يشبه ذلك .
ومن جهة إسناد الأخذ إلى نفس ما يكون المال على عهدته ، ومن الواضح أنّ الآخذ هو المستولي ، ولا معنى لأخذ الاستيلاء ، وحتّى لو كان المراد باليد هي الجارحة المخصوصة لكان الآخذ حقيقة هو الإنسان ، واليد آلة للأخذ ووسيلة له ، وإسناد الأخذ اليها لعلّه لا يكون بنحو الحقيقة .
هذا كلّه لو كانت اليد كنايةً عن الاستيلاء والسّلطة ، وكان الاستعمال استعمالا كنائيّاً ، مثل استعمال كثير الرّماد وإرادة الجود والسّخاء والكرامة .
ويمكن أن يكون المراد من اليد في الحديث هو «ذا اليد» ، نظير استعمال العين في الربيئة الذي يكون استعمالا استعاريّاً مرجعه إلى أنّ الربيئة بلحاظ وصفه كأنّه يكون بجميع أعضائه وجوارحه عيناً باصرة ناظرة ، وقد حققنا في الاُصول(1) أنّ المجازات بأجمعها ـ من دون فرق بين الاستعارة وغيرها ـ لا يكون الاستعمال فيها استعمالا للّفظ في غير ما وضع له ، خلافاً لما هو المشهور بين أهل الأدب ; لعدم تحقّق اللّطافة والظّرافة في استبدال لفظ مكان لفظ ، من دون التصرف في دائرة المعنى ، وثبوت نحو ادّعاء في البين ، فالمجازات بأجمعها شبيه ما يقول السكّاكي في باب الاستعارة من أنّ إطلاق لفظ الأسد وإرادة الرجل الشجاع لا يرجع إلى
- (1) اُصول فقه الشيعة : 1 / 413 ـ 427 .
(الصفحة 99)
استبدال لفظ الرجل الشجاع بلفظ الأسد ، فإنّ قيام لفظ مكان آخر ـ مع قطع النظر عن المعنى ـ يكون خالياً عن الحسن ، ففي قول الشاعر :
قامت تظلّلني ومن عجب *** شمس تظلّلني من الشمس(1)
يكون التعجّب من أن تكون الشمس بمعناها مظلّلة من الشمس ، وإلاّ فالشمس التي يراد منها من أراده الشاعر من محبوبه ومعشوقه ، لا عجب في كونها مظلّلة ، فتحقّق التعجّب لا محالة لا يكاد أن يحصل بدون التصرّف في المعنى ، من جعل المشبّه فرداً ادّعائياً لماهية المشبّه به وحقيقته ، أو أمراً شبيه ذلك ، كما حقّقنا في محلّه من ثبوت الفرق بين ما نقول به ، وبين ما ذهب إليه السكّاكي وإن كان الفرق غير مهمّ .
وبالجملة : كما أنّ استعمال العين في الربيئة يكون استعمالا استعاريّاً ، والمراد بها هو الشخص الكذائي ، يمكن أن يكون استعمال اليد في المقام بهذا النحو ، بأن يكون المراد بها هو ذا اليد ، بادّعاء كونه بأجمعه يداً .
وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى تقدير ذي اليد ; لكون المراد منها هو ذا اليد ، بخلاف الاستعمال الكنائي على ما عرفت .
وبالجملة : فمعنى الحديث الشريف : أنّ المال الذي استولى عليه إنسان يكون على عهدة المستولي وثابتاً ومستقرّاً عليه ، وهذا يستمرّ إلى أن يتحقّق أداؤه ولا يرتفع إلاّ به ، وهذه عبارة اُخرى عن ضمان المستولي للمال ; إذ ليس معنى الضمان عرفاً إلاّ استقرار الشيء وثبوته في عهدة الضامن في عالم الاعتبار الشرعي أو العقلائي .
إن قلت : ظاهر الحديث ـ على ما ذكرت ـ أنّ المال الذي يتعلّق به الأخذ هو
- (1) مفتاح العلوم : 369 ـ 372 .
(الصفحة 100)
الثابت على عهدة ذي اليد ، ففي الحقيقة تعلّق بالمال الخارجي على ما هو المفروض أمران : الأوّل : الأخذ ، والثاني : الثبوت في العهدة والاستقرار في الذمّة ، مع أنّ الموجود الخارجي الذي تعلّق الأخذ به لا يمكن أن يكون في الذمّة والعهدة ; لانّ الموجود الخارجي وعاء وجوده عالم الخارج لا عالم الاعتبار ; إذ ليس عالم الاعتبار إلاّ عبارة عن الموجودات الاعتبارية التي لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار ، فلا يمكن أن يكون الموجود الخارجي موجوداً في عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم انقلاب الخارج اعتباراً ; وذلك كما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن يكون موجوداً في الذهن ، وإلاّ يلزم انقلاب الخارج ذهناً وهو محال .
قلت : لابدّ أوّلا في مقام الجواب من التعرّض لبيان ماهية الضّمان وحقيقته .
فنقول : الأقوال في تعريف الضمان وبيان معناه ثلاثة :
الأوّل : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري(1) في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» من أنّ الضمان عبارة عن كون درك الشيء وخسارته عليه ، فإذا تلف يقع نقصان في ماله الأصلي للزوم تداركه منه .
ويستفاد من كلامه (قدس سره) بلحاظ عنوان الدرك والخسارة ، وبلحاظ تفريع التلف : أنّ الضمان أمر تعليقي مرجعه إلى اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة عند تحقّق التلف ، وعليه ، فلا يتعلّق الضمان بالعين بصورة التنجيز قبل عروض التلف ، وما دامت العين باقية موجودة ، وسيأتي أنّه غير تامّ .
الثاني : ما حكاه الشيخ(2) (قدس سره) وزيّفه ، من أنّ الضمان عبارة عن أن يتلف المال مملوكاً له ، ومرجعه إلى أنّه في مثل الغصب تعتبر ملكية الغاصب قبل التلف قهراً عليه وعلى المالك ، وملكية المالك للمثل أو القيمة ، ثمّ يتحقّق تلف العين المغصوبة في ملك الغاصب .
- (1 ، 2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 183 .
(الصفحة 101)
وضعّفه الشيخ (قدس سره) بأنّ لازمه أن يكون كلّ مالك ضامناً لمال نفسه ; لأنّه يصدق تلف المال مملوكاً له ، بل هو في هذه الجهة أولى من الغاصب ، مع أنّه لا يقال للمالك : أنّه ضامن لمال نفسه .
ويرد على هذا القول أيضاً : أنّ تحقّق المعاوضة القهرية على الطرفين من دون أن تكون تجارة عن تراض في البين ، لا يكاد يصار إليه إلاّ مع وجود دليل قويّ ; لأنّه مخالف للقواعد الأوّلية والضوابط الثابتة في باب المعاملات وأدلّة الضمان ، مثل حديث «على اليد» التي لا دلالة لها على ذلك ، إلاّ على فرض عدم تصوّر معنى للضمان غير ذلك ، مع أنّه ممنوع جدّاً كما سيأتي .
الثالث : ما أشار إليه الأعاظم والمحقّقون ، مثل المحقّق الخراساني (قدس سره) في حاشية المكاسب(1) من أنّه اعتبار ، أي اعتبار عقلائي وشرعي . ومثل تلميذه الكبير المحقّق الإصفهاني في حاشية المكاسب(2) .
وقد أوضحه تلميذه الكبير الآخر سيّدنا الاُستاذ العلاّمة البروجردي(3) على ما في تقريرات مباحثه فيما يتعلّق بكتاب الغصب ، وتوضيحه وتقريبه : أنّ بحث الضمان يغاير بحث اشتغال الذمّة ، فالضمان أمر والاشتغال أمر آخر ، والدليل عليه : أنّ المديون ذمّته مشغولة للدائن ، مع أنّه لا يقال : إنّه ضامن له ، فالمقترض مع اشتغال ذمّته للمقرض لا يكون ضامناً له ، والسرّ فيه : أنّ اشتغال الذمّة لابدّ وأن يكون بأمر كلّي وهو المثل أو القيمة ، فالذمة تكون بمنزلة الذهن الذي توجد فيها الماهية ، فالماهية الكلّية تتشخّص بوجودها في الذهن ، فالموجود فيه أمر كلّي ، وهكذا الذمّة ; فإنّ اشتغالها إنّما هو بأمر كلّي .
- (1) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 30 .
(2) حاشية كتاب المكاسب للمحقّق الإصفهاني 1 : 307 ـ 308 .
(3) اُنظر كتاب الغصب للمحقق البروجردي : 128 ـ 130 و 136 و 144 .