(الصفحة 213)
ظاهر القضية الشرطية عند التجرّد عن القرينة ; حيث إنّ مقتضاه مدخلية الشرط حدوثاً وبقاءً .
ولا مجال للاستناد إلى استصحاب بقاء السلطنة ـ التي كانت له حال وقوع الفعل الذي يقرّ بوقوعه في الزمان المتقدّم ـ إلى ذلك الزمان ; وذلك لتبدّل الموضوع ; حيث إنّ السّلطنة السابقة كانت في ظرف السّلطنة الفعلية على الشيء ، والمفروض انتفاؤها وزوالها . ودعوى الوحدة العرفية الكافية في جريان الاستصحاب ممنوعة جدّاً ; لوضوح الفرق عندهم بين الزوج في حال بقاء العدّة وبينه في حال الانقضاء ، وكذا سائر الموارد .
المقام الخامس : ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالته في هذه القاعدة ما ملخّصه : أنّ المراد بـ«ملك الإقرار» إذا كان أصيلا واضح ، وإن كان غير أصيل ـ كالوليّ والوكيل ـ فيحتمل اُمور :
الأوّل : السلطنة على الإقرار به ; بمعنى أنّ إقراره ماض مطلقاً ، ويكون كإقرار ذلك الغير حتى أنّه لا يسمع منه بيّنة على خلافه ، فضلا عن حلفه على عدمه . قال : وهذا المعنى وإن كان بحسب الظاهر أنسب بلفظ الإقرار ، إلاّ أنّه يكاد يقطع بعدم إرادته .
الثاني : أنّ إقراره به نافذ بالنسبة إلى الأصيل ، كنفوذ إقراره ، وإن لم يترتّب عليه جميع آثار إقراره ، فالتعبير بالإقرار من حيث إنّه لمّا كان في التصرف نائباً عنه ، وكان كالتصرف الصادر عن نفسه ، فالإخبار به كأنّه أيضاً صادر عن نفسه ، ففعله كفعله ولسانه كلسانه ، ولا فرق حينئذ بين أن تقع هناك دعوى وبين أن لا تكون ، ولا بين أن تكون الدعوى مع ذلك الأصيل أو مع ثالث ، وحينئذ فلو أخبر الوكيل بقبض الدين من الغريم ، فإخباره يكون بمنزلة البيّنة للغريم على الأصيل لو ادّعى عليه بقاء الدين .
(الصفحة 214)
الثالث : أن يراد قبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو أنكره ، فيختصّ بالتداعي الواقع بينهما ، فلا تعرّض فيه لقبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو كانت الدّعوى ترجع على ثالث ، حتى يكون كالشاهد للثالث على الأصيل .
قال : وبهذا يجمع بين حكم المحقّق والعلاّمة بتقديم قول الوكيل فيما إذا ادّعى على الموكّل إتيان ما وكِّل فيه ، معلّلين بأنّه أقرّ بما له أن يفعله(1) ، وتقديم قول الموكّل فيما إذا ادّعى الوكيل شراء العبد بمائة ، وادّعى الموكِّل شراءه بثمانين ، معلّلين بأنّ الموكِّل غارم(2) . ومعنى ذلك أنّ الوكيل لا يريد أن يدفع عن نفسه شيئاً ، وإنّما يريد أن يثبت لغيره حقّاً على موكِّله ، فهو بمنزلة الشاهد على الموكّل .
وبعبارة اُخرى : إنّما يعتبر إقراره بما له أن يفعله في ما يتعلّق بنفسه لا في ما يتعلّق بغيره (3) .
وهو وإن لم يصرّح بترجيح أحد الاحتمالين الأخيرين على الآخر ، إلاّ أنّه ربما يستظهر من كلامه ترجيح الاحتمال الأخير ، وهو اختصاص قبول قوله بما إذا كان في مقابل الأصيل ، وكان التداعي واقعاً بينهما ، والظاهر أنّه لا محيص عن ترجيحه لو كان المدرك للقاعدة هو الإجماع ; لأنّه القدر المتيقن من مفادها ، كما أنّه لو كان المدرك لها هي الدلالة الإلتزامية العرفية المتقدمة ، لكان اللازم ترجيحه أيضاً ; لعدم ثبوت الدلالة المذكورة بأزيد من هذا المقدار ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه ذكر الشيخ أيضاً أنّ المراد بـ«ملك الإقرار» يحتمل أن يراد به السلطنة المستقلّة المطلقة ; بمعنى أنّه لا يزاحمه أحد في إقراره ، وأنّه نافذ على كلّ أحد ، وأن يراد به مجرّد أنّ له الإقرار به ، فلا سلطنة مطلقة له ، فيمكن أن يزاحمه من يكون له
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 205 مسألة 3 ، قواعد الأحكام : 2 / 370 .
(2) شرائع الإسلام : 2 / 206 مسألة 6 ، قواعد الأحكام : 2 / 370 .
(3) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 187 ـ 189 .
(الصفحة 215)
أيضاً سلطنة على الفعل ، فيكون «ملك الإقرار بالشيء» على نحو السلطنة على ذلك الشيء ، فليس للبنت البالغة الرشيدة ـ بناءً على ولاية الأب عليها ـ مزاحمة الوليّ في إقراره ، كما ليس لها مزاحمته في أصل الفعل .
وكذا إذا قامت البيّنة على إقرار الأب حين صغر الطفل بتصرّف فيه أو في ماله ، فليس له بعد البلوغ مزاحمته . وهذا بخلاف الموكِّل ; فإنّه يزاحم الوكيل في إقراره كما يزاحمه في أصل التصرّف (1) .
أقول : معنى المزاحمة في الإقرار الثابتة في الموكِّل أنّه يمكن للموكّل الإقرار قبل الوكيل ، فلا يبقى موضوع لإقرار الوكيل ، مثلا إذا أقرّ بأنّ مورد الوكالة ملك لزيد ، يترتّب على إقراره آثار ملكية زيد ، ولا يبقى حينئذ موضوع لإقرار الوكيل بأنّه باعه من عمرو مثلا ، مع أنّه لو لم يكن مسبوقاً بإقرار الموكِّل ، لكان يترتّب على إقرار الوكيل تحقق المعاملة وثبوت الملكية لعمرو ; لأنّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به ، فالمزاحمة في الإقرار كالمزاحمة في أصل التصرف ، فإذا باع الموكِّل مورد الوكالة من شخص قبل أن يتحقق البيع من الوكيل ، لا يبقى حينئذ موضوع لتصرف الوكيل .
والظاهر من الاحتمالين في معنى «ملك الإقرار» هو الثاني ; لرجوعه إلى مساواة «ملك الإقرار» لملكية الشيء والسّلطنة عليه ، بخلاف الاحتمال الأوّل الذي مرجعه إلى توسعة دائرة «ملك الإقرار» بالنسبة إلى ملك الشيء ، كما لا يخفى .
هذا ،مضافاًإلى أنّه مع ثبوت السلطنة للآخر ـ كما هو المفروض ـ يصير الآخر أيضاً مشمولا للقاعدة ، فيملك الإقرار كما يملكه الأوّل ، ولا مجال لإخراجه بعد تساوي نسبة القاعدة إليهما ، فمقتضى الأخذ بعموم القاعدة ترجيح الاحتمال الثاني .
هذا تمام الكلام في قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به.
5 ذي القعدة الحرام 1408 هـ
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 191 .