(الصفحة 480)
ويمكن الجواب عن الإيراد بأنّه حيث لا تكون الوجوه الآتية ظاهرة الدلالة على حجّية البيّنة ، بل اكثرها أو كلّها مخدوشة ، فالاجماع على اعتبارها بنحو يكون كإرسال المسلّمات لا يبعد أن يقال بكشفه عن موافقة المعصوم (عليه السلام) ، لعدم التلاؤم بين هذا النحو من الإرسال ، وبين الوجوه التي لا تكون دلالتها على حجيّة البيّنة ظاهرة ، كما هو ظاهر .
الثاني : أنّه لا إشكال في اعتبار البيّنة في مورد الترافع والخصومة وتقدّمها على غير الإقرار مثل اليمين ونحوها ، فإذا كانت معتبرة في ذلك الباب مع وجود المعارض وثبوت المكذّب ـ حيث إنّ المنكر بإنكاره يكذب البيّنة ويعارضها ـ ففيما إذا لم يكن لها معارض تكون معتبرة بطريق أولى ، فالدليل على حجّية البيّنة في ذلك الباب يدلّ بمفهوم الموافقة على الحجيّة في غيره ممّا لا يكون لها معارض .
واُورد عليه بأنّ اعتبار شيء في باب المرافعات والخصومات ، لا دلالة له على اعتباره في غيرها أصلا ، فضلا عن أن يكون بطريق أولى ; لأنّ بقاء التنازع والتخاصم ينجرّ إلى اختلال النظام ، وهو مبغوض للشارع ، وغرضه رفعها بأيّ نحو كان ، فاعتبار شيء في ذلك الباب لا يلازم الاعتبار في غيره ، كما أنّ اليمين مع اعتبارها في فصل الخصومة لا تكون معتبرة في غيره(1) .
الثالث : الروايات الواردة في هذا الباب ، وعمدتها رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ،
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الطهارة : 2 / 261 .
(الصفحة 481)
أو تقوم به البيّنة(1) .
والكلام في هذه الرّواية تارة من حيث السند ، واُخرى : من جهة الدّلالة :
أمّا من الجهة الاُولى : فقد عبّر عنها الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) بالموثّقة(2) ، ولعلّ هذا الإتّصاف مشهور بينهم ، مع أنّه لم يوثّق مسعدة ـ راوى الحديث ـ في شيء من الكتب الرّجالية القديمة التي هي الأساس لسائر الكتب ، بل المحكي عن العلاّمة(3) والمجلسي(4) وغيرهما(5) تضعيفه ، وغاية ما ذكر في مدحه أنّ رواياته غير مضطربة المتن ، وأنّ مضامينها موجودة في سائر الموثّقات(6) .
هذا ، ولكن توثيق الشيخ الأعظم بضميمة وقوع الرجل في سند بعض الروايات الواقعة في كامل الزيارات لابن قولويه(7) ـ مع تصريح مؤلّفه في ديباجته بأنّه لم يرد في ذلك الكتاب إلاّ الأخبار التي رواها الثقات من الأصحاب ، ولا تكون متّصفة بالشذوذ(8) ـ يكفي في جواز الاعتماد عليها وإن كان الرجل عاميّاً .
وأمّا من الجهة الثانية : فتقريب دلالتها أنّه (عليه السلام) بعد الحكم بثبوت الحلّية الظاهرية للأشياء التي شك في حلّيتها وحرمتها ، وإيراد أمثلة لذلك ، حكم بأنّ الأشياء كلّها كذلك محكومة بالحلّية ، إلاّ مع استبانة الحرمة والعلم بها ، أو قيام البيّنة وشهادة العدلين عليها . فيستفاد منها اعتبار البيّنة في موارد الشك في الحلّية والحرمة ، وبضميمة أنّه لا فرق بين الشبهات الموضوعية في باب الحلّية والحرمة ،
- (1) الكافي : 5 / 313 ح 40 ، وعنه وسائل الشيعة : 17 / 89 ، كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 .
(2) فرائد الاُصول : 3 / 351 و 381 .
(3) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال : 410 رقم 1661 .
(4) الوجيز في الرجال : 178 رقم 1881 .
(5) اختيارمعرفة الرجال ، المعروف بـ(رجال الكشي) : 390رقم733 ، رجال الشيخ الطوسي : 146رقم 1609 .
(6) تنقيح المقال في علم الرجال : 3 / 312 رقم 11711 .
(7) كامل الزيارات : 306 / 516 .
(8) كامل الزيارات : 37 .
(الصفحة 482)
وبينها في غير ذلك الباب ، كموارد الطهارة والنجاسة ، ولم يقل أحد بالفصل ، يتمّ المطلوب ; وهي حجّية البيّنة في جميع الموارد .
وقد استشكل فيها بوجهين :
أحدهما وهو العمدة : أنّ الرواية ظاهرة بل صريحة في أنّ الحكم بالحلّية في الموارد المذكورة فيها مستند إلى أصالة الحلّية التي يدلّ عليها قوله (عليه السلام) في صدر الرواية : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» وأنّ تلك الموارد من أمثلة القاعدة المذكورة وصغريات هذه الكبرى الكلّية ، مع أنّ الحلّية فيها لا تستند إلى قاعدة الحلّية بوجه ; ضرورة أنّ الحلّية في مثال الثوب مستندة إلى اليد التي هي أمارة على الملكية عند العقلاء وفي الشريعة .
وفي مثال العبد إلى الإقرار أو اليد أيضاً ، وفي مثال المرأة إلى استصحاب عدم تحقّق الرضاع وعدم اتّصافها بكونها رضيعة له ، وإلى استصحاب عدم الاُختيّة بناءً على جريانه ، وعلى فرض عدم الجريان ـ كما هو الحقّ ـ لا يكون هناك حلّية أصلا ، بل الثابت هي أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر على النكاح(1) .
ومن الواضح استهجان إيراد قاعدة كلّية ثمّ ذكر أمثلة خارجة عن تلك القاعدة ، خصوصاً مع التصريح بالقاعدة ثانياً وتكرارها في الذيل كما في الرواية ، وخصوصاً مع كون الحكم في بعضها على خلاف القاعدة المذكورة .
والجواب : أنّ هذا الإشكال وان كان ممّا لا سبيل إلى حلّه ، إلاّ أن تحمل الموارد المذكورة فيها ـ غير المرتبطة بالقاعدة أصلا ـ على بيان ذكر النظائر والأشباه لا المصاديق والصغريات ، إلاّ أنّه لا يقدح في الاستدلال بالرواية على ما هو المقصود في المقام من حجّية البيّنة ; فإنّ عدم انطباق القاعدة على الموارد المذكورة لا يستلزم خروج ذيل الرواية ـ الدالّ على اعتبار البيّنة وأنّ
- (1) فرائد الاُصول : 2 / 120 ـ 121 ، و ج 3 / 351 ـ 353 .
(الصفحة 483)
قيامها يوجب سقوط أصالة الحلية وعدم جريانها ـ عن الاعتبار والحجّية ، فتأمّل .
ثانيهما : أنّ كلمة «البيّنة» لم ثتبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعيّة ، وإنّما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي ، وهو ما به البيان والظّهور ، وبعبارة اُخرى : هي بمعنى الحجّة ، فلا مجال للاستدلال بالرواية على حجيّة البيّنة بالمعنى الاصطلاحي (1) .
والجواب : أنّ ظهور «البيّنة» مع الإطلاق وعدم وجود قرينة على الخلاف في هذا المعنى الاصطلاحي ممّا لا ينبغي إنكاره ، ويدلّ عليه استعمالها فيه من الصدر الأوّل في مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر(2) وقوله (صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) ، وغيرهما من الموارد الكثيرة(4) ، ولم يعلم استعمالها في الكتاب وغيره في غير هذا المعنى الاصطلاحي من دون قرينة ، كما في التعبير المعروف : «دعوى فلان خالية عن البرهان والبيّنة» .
نعم ، قد استعملت في الكتاب في خمسة عشر موضعاً(5) منه بمعناها اللغوي ; وهو الظهور والبيان ، لكن مع القرينة ، فنرى أنّه قد عبرّ فيه عن معجزتي موسى (عليه السلام) تارة بالبرهان في قوله تعالى : {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}(6) واُخرى
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الطهارة : 2 / 262 ـ 264 .
(2) المفردات في غريب القرآن : 68 ، وقد تقدّم في ص 351 باختلاف يسير .
(3) الكافي : 7 / 414 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 6 / 229 ح 552 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 232 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1 .
(4) وسائل الشيعة : 27 / 229 ـ 235 ب 1 ـ 3 ، ومستدرك الوسائل : 17 / 362 ـ 368 ب 1 ـ 3 .
(5) سورة الأنعام 6 : 57 و 157 ، سورة الأعراف 7 : 73 و 85 ، سورة الأنفال 8 : 42 ، سورة هود 11 : 17 ، 28 ، 53 ، 63 و 88 ، سورة طه 20 : 133 ، سورة العنكبوت 29 : 35 ، سورة فاطر 35 : 40 سورة محمد 47 : 14 ، سورة البيّنة 98 : 1 و 4 .
(6) سورة القصص 28 : 32 .
(الصفحة 484)
بالبيّنة في قوله تعالى : {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة مِن رَّبِّكُمْ}(1) مع أنّ توصيف البيّنة بكونها من ناحية الرّب أيضاً يدلّ على كون المراد هي الحجّة الواضحة .
ويدلّ على كون المراد بالبيّنة في الموثّقة خصوص المعنى الاصطلاحي ، أنّه لو كان المراد بها هو المعنى اللغوي ، يلزم أن تكون الاستبانة أيضاً من مصاديق البيّنة ، فيكون العطف من قبيل عطف العامّ على الخاصّ ، وهو خلاف ما هو المتفاهم عرفاً منها ، كما لا يخفى .
ودعوى أنّه يمكن أن يكون المراد بالبيّنة في النبويّين أيضاً هو المعنى اللّغوي لا شهادة عدلين ، مدفوعة ـ مضافاً إلى كونه خلاف ما فهمه الأصحاب منهما ، وقد عبّروا بمثلهما في كتاب القضاء اقتباساً منه (صلى الله عليه وآله) مع وضوح كون مرادهم هو المعنى الاصطلاحي ـ بأنّه لو كان المراد بها هو المعنى اللغوي الذي هي الحجّة ، لكان المنكر أيضاً واجداً للحجّة ، خصوصاً لو كان تعريفه : أنّه «من كان قوله موافقاً للأصل أو الظاهر» ; فإنّ المنكر حينئذ يكون واجداً للحجّة ، فلا يبقى فرق بينه وبين المدّعي ، ولا وجه لترجيحه عليه بعد اشتراكهما في ثبوت الحجّة لهما ، كما هو ظاهر .
فانقدح أنّه لا مجال لانكار كون البيّنة في الرّواية بالمعنى الاصطلاحي الذي هو شهادة عدلين ، وأنّ الرواية ظاهرة في اعتبارها وحجّيتها .
ثمّ إنّ في الرواية اشكالا ثالثاً ; وهو أنّه قد جعلت البيّنة فيها غاية للحلّ ، فكأنّه قال (عليه السلام) : كلّ شيء لك حلال حتى تعلم حرمته أو تقوم البيّنة على حرمته ، فغاية مدلول الرواية حجّية البيّنة لإثبات حكم الحرمة لا إثبات الموضوعات ، كخمرية هذا المائع ، وكريّة ذلك الماء وأشباههما ، بل لا تدلّ على حجّيتها لإثبات الأحكام الجزئية ; كنجاسة هذا الثوب وملكية ذلك الشيء لفلان وأمثال ذلك ،
- (1) سورة الأعراف 7 : 105 .