(الصفحة 127)
الجهة الثالثة : قد عرفت(1) أنّ الضمان في صورة تلف العين إنّما يستفاد من نفس دليل القاعدة ، وأنّ الأداء الذي يكون غاية للحكم بالضمان ورافعاً له ، يكون له مراتب على ما هو المتفاهم عند العرف منه ، وأنّ أداء المثل في المثلي والقيمة في القيمي من مراتب الأداء ، ويرتفع به الضمان أيضاً ، وقد وقع البحث مفصّلا في المعيار في المثلي والقيمي ، وبيان الضابطة لهما ، ونحن نحيل هذا البحث إلى محلّه . وقد وقع في كلام الشيخ الأعظم الأنصاري في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد في كتاب مكاسبه(2) .
إنّما المهمّ في المقام البحث في أنّ القيمي الذي يجب أداء قيمته بعد التلف ، هل الواجب رعاية قيمته حال الاستيلاء والأخذ ، أو قيمته في حال التلف والانعدام ، أو القيمة حال الأداء الذي هو الغاية للحكم بالضمان ، أو أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان التلف ، أو إلى زمان الأداء؟ فيه وجوه واحتمالات .
وقد ذكروا لهذه الوجوه والاحتمالات أدلّة ووجوهاً ، والمهمّ هو النظر في القاعدة ، وأنّها تقتضي أيّ وجه ، فنقول :
ربما يقال ـ كما قال به المحقّق البجنوردي ـ بأنّ مقتضى القاعدة هي قيمة يوم الأخذ والاستيلاء ، الذي هو في باب الغصب يكون يوم الغصب ، وتقريبه بنحو الاختصار : أنّ ظاهر قوله (صلى الله عليه وآله) : «وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» هو أنّ نفس ما وقع تحت اليد يثبت ويستقرّ على عهدة الآخذ ، ولا شك في أنّ هذا المعنى حكم شرعيّ وضعيّ في عالم الاعتبار التشريعي ; لأنّه حيث إنّ المال المأخوذ مال وعين خارجية ، والموجود الخارجي يمتنع أن ينتقل بوجوده الخارجي إلى عالم الاعتبار ، كما أنّه يستحيل أن ينتقل إلى الذهن للزوم الانقلاب ، فاللازم أن يقال بأنّ ثبوته
- (1) في ص 106 ـ 108 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 209 ـ 271 .
(الصفحة 128)
ووجوده في العهدة إنّما هو في عالم الاعتبار الذي هو أيضاً وجود ، كالوجود الخارجي والوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الكتبي ، ومرجعه إلى اعتبار ذلك الوجود الذي وقع تحت اليد فوق اليد وعلى عهدتها .
وذلك الوجود المأخوذ له جهات ثلاث : الخصوصيات الشخصيّة ، والجهات الصنفيّة الطبيعيّة ، وماليّته التي هي العمدة في أبواب الضمانات والغرامات ، وهذه الجهات مأخوذة في عالم الاعتبار ومعتبرة فيه ، فإذا أمكن أداؤها بأجمعها ، فالواجب هو الأداء بهذه الكيفية ، وإذا تلفت العين تسقط الخصوصيات الشخصية ; لأنّه مع عدم إمكان أدائها يكون اعتبارها لغواً ، وتبقى الجهتان الاُخريان ، وإذا لم تكن مثلية كما هو المفروض ، تسقط الجهات الصنفيّة أيضاً ، ويبقى خصوص الجهة الماليّة ، فاللازم أداء تلك الجهة ; وهي التي كان ضامناً لها ابتداءً ومن حين الأخذ ; لأن ظرف الضمان هو وقت الأخذ ، فاللازم هي القيمة في وقت الأخذ الذي هو وقت الضمان بحسب الحديث الشريف(1) .
ولكنّ الظاهر أنّ مفاد الحديث هي القيمة يوم الأداء والدفع ، وذلك لظهوره في ثبوت نفس العين المأخوذة على العهدة . وأمّا ما في كلامه من أنّ العين الخارجيّة يمتنع أن تنتقل بوجودها الخارجي إلى عالم الاعتبار ، فيردّه أنّ العين الخارجية إنّما هي طرف الاعتبار ومتعلّق له ، فهي بوجودها الخارجي ثابتة على العهدة ، لكنّ الثبوت إنّما هو أمر اعتباري لا واقعي .
وعليه : فقياس المقام بالموجود الخارجي الذي يمتنع أن يوجد في الذهن بوصف وجوده في الخارج قياس مع الفارق ; ضرورة أنّ الوجود الذهني قسيم للوجود الخارجي ، وكل منهما له واقعية ، ويمتنع انتقال أحدهما إلى الآخر مع وصف ثبوت واقعيّته ووجوده . وهذا بخلاف المقام ; فإنّ الأمر الاعتباري الذي هو
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 4 / 75 ـ 76 .
(الصفحة 129)
الضمان والثبوت على العهدة ، إنّما يكون متعلّقه الوجود الخارجي الذي تعلّق الأخذ به ، ولابدّ أن يكون كذلك ; لما عرفت(1) في الفرق بين الضمان واشتغال الذمّة ; من أ نّ الأوّل يتعلّق بالجزئي والثاني بالكلّي ، وعليه : فالثابت على العهدة في المقام نفس المأخوذ الذي هو العين الخارجيّة من دون استلزام الانتقال .
هذا إنّما هو بالإضافة إلى العين مادام كونها موجودة باقية ، وأمّا مع التلف والانعدام ، فالمستفاد من الحكم بالضمان في قاعدة الإتلاف المفروضة بعد التلف ، ومن الحكم ببقاء الضمان في قاعدة «على اليد» بعد تلف العين المأخوذة ; لعدم تحقّق الغاية الرافعة وهي الأداء ـ ولا مجال لتوهّم عدم ثبوت الغاية للضمان ; لامتناع تحقّق الأداء ، كما أنّه لا مجال لدعوى عدم دلالتها على الضمان بعد التلف ـ أنّه لابدّ وأن يعتبر وجود العين في قاعدة الإتلاف وبقاؤها في قاعدتنا . غاية الأمر كونه بنحو الاعتبار ; لأنّه لا يعقل عدم ثبوت الطرف للضمان ; فإنّه كما يحتاج إلى وجود الضامن كذلك يحتاج إلى وجود المضمون ، فلا محالة يكون ثبوت الحكم بالضمان بعد إعدام العين أو انعدامها مستلزماً لفرض وجود العين واعتبار بقائها .
وعلى ما ذكرنا فالثابت على العهدة إنّما هو نفس العين المأخوذة ، من دون فرق بين زمان قبل التلف ، وبين زمان عروض التلف لها ، فكما أنّ العين بجميع جهاتها الثلاث المذكورة في كلام القائل ثابتة على اليد قبل التلف ، غاية الأمر في عالم الاعتبار الذي هو طور من الوجود في قبال سائر أطواره وأنواعه ، كذلك هو ثابت على اليد مع جميع الجهات بعد التلف ، ولا مجال للتفكيك في مفاد الحديث الذي هو الحكم بالضمان بين الزّمانين : قبل التلف وبعده ، والحكم بأنّ الثابت قبل التلف إنّما هي العين مع جميع الجهات الثلاث ، والثابت بعده إنّما هي العين مع بعض تلك الجهات ، فالعين المأخوذة على اليد وعهدتها مستمرّاً إلى زمان الأداء ، ولا فرق في
(الصفحة 130)
هذا الثبوت بين ما قبل التلف وما بعده ، فبعده أيضاً تكون العين على العهدة كقبله .
غاية الأمر أنّ التلف إنّما يؤثّر في الغاية وهي الأداء ; حيث إنّه قبل التلف كان أداء العين بجميع الخصوصيات ممكناً ، وبعده امتنع ذلك وصار محالا ، وحينئذ ينتقل إلى المرتبة الثانية ; وهي أداء المثل مع فرض مثليّته ، وبعدها إلى المرتبة الثالثة ; وهي أداء القيمة مع كونه قيميّاً ، ولكنّ الانتقال إلى القيمة إنّما هو في ما يرتبط بالاداء وبالغاية ، ولا ارتباط له بأصل الضمان ، فمادام لم يؤدّ القيمة تكون العين المأخوذة باقية على العهدة وثابتة على اليد ، فإذا أراد ردّها ليرتفع الضمان ، فحيث لا يكون قادراً على ردّ العين لفرض التلف ، ولا على ردّ مثلها لعدم كونها مثليّة ، فاللازم ردّ قيمتها ، ومن الواضح أنّ القيمة التي يجب ردّها حينئذ هي القيمة للعين في حال الأداء والدّفع .
وبعبارة اُخرى : الواجب عليه ردّ العين في هذه الحالة أيضاً ، وحيث إنّه ممتنع ، فتصل النوبة إلى ماليتها القائمة مقامها ، وهي الماليّة في حال الردّ والأداء .
والظاهر وقوع الخلط في كلام القائل بين الضمان المغيّى ، وبين الأداء الذي هي الغاية ، فرأى أنّه حيث لا يمكن ردّ العين مع جميع الجهات ، واللازم ردّها ببعضها ، فيكون الضمان أيضاً مرتبطاً بذلك البعض ، مع أنّ الضمان إنّما هو بالإضافة إلى العين في جميع الحالات ، والغاية له مراتب ودرجات ، ونتيجته لزوم أداء قيمة يوم الأداء ; لامتناع أداء العين بجميع الخصوصيات .
ويؤيّد ما ذكرنا الحكم بضمان النماءات التي تحصل للعين المغصوبة بعد الغصب ، وإن تلفت تلك النماءات بعد حصولها ، كما لو سمنت الشاة مثلا في يد الغاصب ، ثمّ زال عنها السمن وعادت حالتها الاُولى ; فإنّ منشأ الحكم بضمانها هو كون المضمون هي العين بجميع الخصوصيات ، وهي الثابتة على العهدة وعلى اليد . ودعوى كون هذه النماءات واقعة تحت اليد جديداً بتبع بقاء العين ، فتكون غصباً
(الصفحة 131)
آخر غير مربوط بالغصب الأوّل ، مدفوعة بوضوح خلافها ; فإنّ تعدّد الغصب في مثله ممّا لا يقبله العقلاء والعرف أصلا .
وبالجملة لا فرق في أصل الحكم بالضمان المستفاد من المغيّى في الحديث الشريف ، وهو ضمان العين وثبوتها على العهدة بجميع الخصوصيات ، بين الفروض المختلفة والحالات المتعددة : من التلف وغيره ، والمثلى وغيره ، وإنّما الاختلاف بينها يرجع إلى الغاية الرافعة للضمان ، ومقتضى ما ذكر في القيمي ردّ قيمته يوم الردّ والدفع ، فتدبّر جيّداً .
ثمّ إنّ في دلالة القاعدة احتمالا ثالثاً اختاره سيدنا المحقّق الاُستاذ البروجردي (قدس سره) على ما في تقريراته في مباحث الغصب(1) ، فإنّه بعد أن ذكر أنّ مختاره في السابق كان ما عليه المحقّق الخراساني(2) (قدس سره) ممّا يرجع إلى لزوم قيمة يوم الأداء والدفع ، وقد رجع عنه بعداً ، ذكر أنّ القيمة التي يقال لها بالفارسيّة : «أرزش» لا تعتبر للمعدوم الصّرف ، فالعين الشخصية الخارجيّة وإن كانت في زمن بقائها تعتبر لها في كلّ يوم قيمة ، ولكنّها إذا تلفت لا تعتبر لها عند العقلاء قيمة ، بأن يقولوا : إنّ هذه العين في هذا اليوم تساوي كذا وكذا ; لانتفاء الهذيّة والشخصيّة ، فكيف تعتبر لها قيمة؟
نعم ، تعتبر عند العقلاء لمثلها قيمة ، ولكن أين هذا من قيمة شخص العين التالفة التي جعلت من المراتب النازلة لنفس العين ، فالعين لمّا لم يكن لها قيمة بعد تلفها ، كان الواجب على الضامن أداؤها بقيمتها حينما تعتبر لها قيمة ; وهو حال الوجود ، فزمان الانتقال إلى القيمة وإن كان هو يوم التأدية ، لكنّ العين لمّا لم تكن لها قيمة إلاّ حال الوجود ، فاللازم قيمة ذلك الحال ، ولكن لا دلالة للقاعدة حينئذ
- (1) اُنظر كتاب الغصب للبروجردي : 142 ـ 143 .
(2) حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني : 37 .