(الصفحة 241)
بيع العبد المسلم من الكافر ، وعلى أدلّة النكاح الدالّة بإطلاقها على مشروعية تزويج المؤمنة من الكافر ، وعلى أدلّة ولاية الأب والجدّ الدالّة كذلك على ثبوت الولاية لهما إذا كانا كافرين على الولد المسلم ، وعلى غيرها من الأدلّة الأوّلية الاُخرى ، ويوجب اختصاصها بما إذا لم يتحقق السّلطة والسبيل ، فلم تجعل مشروعيّة البيع والنكاح والولاية المذكورات .
وبالجملة : هذه الآية وإن لم يقع فيها التعبير بالدين كما في آية الحرج ، إلاّ أنّ الظاهر اتّحاد سبيلهما ، وأنّ المراد من الجعل المنفي هو الجعل التشريعي المرتبط بمقام الأحكام وتشريعها ، وعلى ما ذكرنا فدلالة الآية على القاعدة ظاهرة .
ولكن اُورد على الاستدلال بالآية باُمور :
منها : أنّ قوله تعالى قبل ذلك {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قرينة على أنّه ليس المراد بالآية ما ذكره المستدلّ ، بل المراد بها نفي جعل الحجة للكافرين على المؤمنين في يوم القيامة ; بمعنى أنّه في ذلك اليوم الذي هو يوم ظهور الحقائق وانكشاف الواقع ، لا يبقى حجّة بنفع الكافر على ضرر المسلم ، بل تكون الحجة للمؤمنين على الكافرين .
ويؤيّد هذا المعنى ما رواه الطبري في محكيّ تفسيره عن ابن وكيع بإسناده عن أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) قال : قال رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون . قال له عليّ (عليه السلام) : ادنُه ادنُه ، ثمّ قال (عليه السلام) : {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} يوم القيامة .
وعن ابن عباس تفسيرالآية بيوم القيامة ،وأنّ المرادمن السبيل فيهاهي الحجّة(1) .
- (1) جامع البيان في تفسير القرآن : 5 / 214 ، وراجع العناوين : 2 / 357 ، والقواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 1 / 188 ـ 189 .
(الصفحة 242)
والجواب : أنّ مجرّد المسبوقيّة بذلك لا دلالة له على الاختصاص ، وقد اشتهر أنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، غاية الأمر أنّ المسبوقية توجب تعميم مفاد الآية والحكم بأنّ مرادها أنّ الله لن يجعل الغلبة للكافر على المؤمن ، لا في مقام التشريع وجعل الأحكام ، ولا في يوم القيامة ، وهذا المعنى ممّا يساعده ويؤيّده تناسب الحكم والموضوع ; فإنّ عدم جعل السبيل بهذا النحو الكلّي يناسب مع عدم ثبوت الغلبة في يوم القيامة ، فتدبّر .
وأمّا الرواية الواردة في التفسير ـ فمضافاً إلى عدم اعتبارها ـ يكون الغرض المهمّ فيها نفي جعل السبيل التكويني والغلبة الخارجية التي يكذّبها الوجدان ; بمعنى ثبوتها في الخارج وجداناً ، ولا دلالة لها على نفي الجعل التشريعي بوجه .
ومنها : أنّ المراد بالسبيل هي الحجّة كما عن بعض المفسّرين(1) ، وقد ورد في الخبر أيضاً ، وهو ما روى في العيون عن أبي الحسن (عليه السلام) ردّاً على من زعم أنّ المراد بها نفي تقدير الله سبحانه بمقتضى الأسباب العادية تسلّط الكفّار على المؤمنين ، حتى أنكروا لهذا المعنى الفاسد الذي لا يتوهّمه ذو مسكة : أنّ الحسين بن علي (عليهما السلام) لم يقتل ، بل شبّه لهم ورفع كعيسى (عليه السلام) (2) ، فيكون مفادها : أنّه تعالى لن يجعل حجّة للكافر على المؤمن ، بل الحجّة للثاني على الأوّل ، فيكون سبيل الآية سبيل قوله تعالى : {كَتَبَ اللهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى}(3) ، بناءً على أن يكون المراد منه هي الغلبة في مقام الحجّة والاحتجاج ، فالحجّة في جميع الموارد بنفع المؤمن وفي جانبه .
والجواب : أنّ حمل السبيل على الحجّة إن كان بلحاظ المسبوقية بيوم القيامة ، فقد عرفت الجواب عنه ، وإن كان في نفسه فلا مجال له ; لعدم الدليل عليه
- (1) التبيان في تفسير القرآن : 3 / 364 ، مجمع البيان : 3 / 212 ، تفسير الصافي : 1 / 406 .
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2 / 203 ح 5 .
(3) سورة المجادلة 58 : 21 .
(الصفحة 243)
أصلا ; فإنّ السّبيل له معنى عامّ يشمل الحجّة وغيرها ، ولا وجه لحمله على خصوصها ، مع أنّه ربما يقال بأنّه على هذا التقدير أيضاً يتمّ الاستدلال بالآية ; نظراً إلى أنّ حجّة الملك والزوجية والولاية من أعظم الحجج ، فتأمّل .
ومنها : أنّ الكافرين وكذا المؤمنين في الآية جمعان محلّيان باللاّم مفيدان للعموم ، وعليه : فمفاد الآية أنّه تعالى لم يجعل لكلّ فرد من أفراد الكافر على كلّ فرد من أفراد المؤمن سبيلا ، فهي تدلّ على سلب العموم لا عموم السلب الذي هو المدّعى ، فلا تنافي الآية وجود السبيل لبعض أفراد الكفّار على جميع أفراد المسلم فضلا عن بعضه ، كما لا يخفى .
والجواب : وضوح كون المراد من الجمعين هو الجنس الذي هو أحد معاني الجمع المحلّى باللاّم ، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك أيضاً ، مع أنّ سلب العموم في الآية يدلّ على عموم السّلب بعدم القول بالفصل ، والآية لا تنفيه بوجه ، كما لا يخفى .
الثالث : ما رواه الصّدوق في باب ميراث أهل الملل من قوله (صلى الله عليه وآله) : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون(1) . وضعف السند مجبور باشتهار التمسك به بين الفقهاء واستنادهم إليه في الموارد المختلفة .
وتوضيح دلالته على القاعدة : أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» لو لم يكن مذيّلا بالذيل المذكور ، لكان يحتمل أن يكون في مقام الإخبار عن علوّ الإسلام في مستقبل الزمان ، وأنّه ينتشر في أقطار العالم ، وتنحصر مرتبة العلوّ والحكومة به ، ويصير نظير قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
- (1) الفقيه : 4 / 243 ح 778 ، وعنه وسائل الشيعة : 26 / 125 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ب 15 ح 2 .
(الصفحة 244)
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1) بناءً على كونه إخباراً بغلبة الدين الحنيف على سائر الأديان في عهد مولانا صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف .
ولكنّ الذيل المذكور في الحديث يرشدنا إلى أمرين :
أحدهما : كون الرواية في مقام الإنشاء والجعل دون الإخبار .
ثانيهما : كون مقابل الإسلام هو الكفّار دون الكفر ، فالمراد بالإسلام هو المسلمون المتديّنون به لا نفس الإسلام .
وبعد ذلك يتّضح المراد من الحديث الشريف ، وأنّ معناه أنّ المسلم لم يجعل عليه حكم يوجب علوّ الكافر بالإضافة إليه ، بل الأحكام المجعولة في الإسلام فيما يرجع إلى الاُمور التي بين المسلمين والكفّار كلّها مجعولة للمسلمين ، وقد روعي فيها جانبهم ولوحظ فيها علوّهم ، فملكية الكافر للمسلم الموجبة لعلوّه بالنسبة إليه غير مجعولة في الإسلام ، من دون فرق بين أن يراد بيعه منه ، وبين أن يسلّم العبد الكافر للمولى الكافر ، وهكذا غير الملكيّة من الزوجية والولاية وغيرهما .
فالإنصاف تمامية دلالة الحديث على القاعدة ، إلاّ أن يناقش فيها من حيث السند ; نظراً إلى أنّ المقدار المجبور بالشهرة والاستناد إنّما هو صدر الرواية دون جميعها ، وصدرها في نفسه لا ينطبق على القاعدة كما عرفت ، إلاّ أن يقال : إنّ فهم الفقهاء منه ذلك دليل على اعتبارهم لذيل الرواية أيضاً ، فتأمّل .
هذا ، ولكن لصاحب كتاب «العناوين» تحقيق في هذا المقام يظهر منه دلالة الحديث على القاعدة مع قطع النظر عن الذيل أيضاً ; حيث إنّه بعد نفي كون المراد بعلوّ الاسلام هو علوّ الشرف والرتبة ، نظراً إلى كونه سبيل النجاة دون سائر الأديان ، قال ما ملخّصه : إن كان المراد الإخبار عن أنّ الإسلام تزيد شوكته وقوّته
(الصفحة 245)
بحيث يعلو على سائر الأديان بكثرة المتديّنين والأعوان ، فلا ريب أنّ الإخبار عن هذا المعنى ليس ممّا هو وظيفة للشارع من حيث هو كذلك ، مع أنّا نرى علوّ سائر الأديان وكثرة الكفر والشرك ومقهوريّة المسلمين .
واحتمال إرادة أنّه يعلو في أواخر الأزمنة بحيث يضمحلّ الكفر ، فالإخبار عن هذا المعنى ممّا لا ريب في بعده من الخبر عند الإنصاف ، سيّما مع التأكيد بقوله : «ولا يعلى عليه» ; فإنّ الظاهر من إثبات العلوّ للإسلام في المستقبل وإن كان أعمّ من كونه دائماً ، أو في زمان من الأزمنة المستقبلة ، لكن نفي علوّ غيره في المستقبل مع حذف المتعلّق والزّمان ظاهر في النفي دائماً .
فالفقرة الاُولى مجملة في إثبات العلوّ من هذه الجهة ، والمتيقّن منه بعض الأزمنة ، ولكنّه لا ينفي العلوّ في الجميع ، والفقرة الثانية دالّة على عدم علوّ غيره مطلقاً ; لأنّ المصدر في ضمن الفعل نكرة ، فإذا دخل عليه أداة النفي إقتضى العموم المستلزم لنفي جميع أفراد العلوّ في الزمن المستقبل ، وهذا مدلول لا معارض له في الفقرة الاُولى ، غاية الأمر دورانه بين علوّ الإسلام في بعض الأوقات ، ومساواته مع الكفر في بعض آخر ، أو علوّه دائماً ، فيدور الأمر بين الاحتمالين .
وعلى أيّ تقدير يكون مدلول الخبر الإخبار عن عدم علوّ الكفر على الإسلام في وقت من الأوقات ، ولازمه الكذب ; لأنّا نرى بالوجدان قوّة الكفّار ومقهوريّة المسلمين في بعض الأزمنة ، فلا وجه لحمل الخبر على الإخبار ، بل ينحصر الطريق في حمله على الإنشاء(1) .
ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ حمل الرواية على أنّ الإسلام يعلو في الحجّة والبرهان على سائر الأديان في غاية البعد ، وليس احتماله مبطلا للاستدلال بها ، خصوصاً بعد عدم مساعدة معنى العلوّ للغلبة على الخصم في مقام الاحتجاج ; لأنّ العلوّ بمعنى
- (1) العناوين : 2 / 354 ـ 355 .