(الصفحة 243)
أصلا ; فإنّ السّبيل له معنى عامّ يشمل الحجّة وغيرها ، ولا وجه لحمله على خصوصها ، مع أنّه ربما يقال بأنّه على هذا التقدير أيضاً يتمّ الاستدلال بالآية ; نظراً إلى أنّ حجّة الملك والزوجية والولاية من أعظم الحجج ، فتأمّل .
ومنها : أنّ الكافرين وكذا المؤمنين في الآية جمعان محلّيان باللاّم مفيدان للعموم ، وعليه : فمفاد الآية أنّه تعالى لم يجعل لكلّ فرد من أفراد الكافر على كلّ فرد من أفراد المؤمن سبيلا ، فهي تدلّ على سلب العموم لا عموم السلب الذي هو المدّعى ، فلا تنافي الآية وجود السبيل لبعض أفراد الكفّار على جميع أفراد المسلم فضلا عن بعضه ، كما لا يخفى .
والجواب : وضوح كون المراد من الجمعين هو الجنس الذي هو أحد معاني الجمع المحلّى باللاّم ، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك أيضاً ، مع أنّ سلب العموم في الآية يدلّ على عموم السّلب بعدم القول بالفصل ، والآية لا تنفيه بوجه ، كما لا يخفى .
الثالث : ما رواه الصّدوق في باب ميراث أهل الملل من قوله (صلى الله عليه وآله) : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون(1) . وضعف السند مجبور باشتهار التمسك به بين الفقهاء واستنادهم إليه في الموارد المختلفة .
وتوضيح دلالته على القاعدة : أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» لو لم يكن مذيّلا بالذيل المذكور ، لكان يحتمل أن يكون في مقام الإخبار عن علوّ الإسلام في مستقبل الزمان ، وأنّه ينتشر في أقطار العالم ، وتنحصر مرتبة العلوّ والحكومة به ، ويصير نظير قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
- (1) الفقيه : 4 / 243 ح 778 ، وعنه وسائل الشيعة : 26 / 125 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ب 15 ح 2 .
(الصفحة 244)
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1) بناءً على كونه إخباراً بغلبة الدين الحنيف على سائر الأديان في عهد مولانا صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف .
ولكنّ الذيل المذكور في الحديث يرشدنا إلى أمرين :
أحدهما : كون الرواية في مقام الإنشاء والجعل دون الإخبار .
ثانيهما : كون مقابل الإسلام هو الكفّار دون الكفر ، فالمراد بالإسلام هو المسلمون المتديّنون به لا نفس الإسلام .
وبعد ذلك يتّضح المراد من الحديث الشريف ، وأنّ معناه أنّ المسلم لم يجعل عليه حكم يوجب علوّ الكافر بالإضافة إليه ، بل الأحكام المجعولة في الإسلام فيما يرجع إلى الاُمور التي بين المسلمين والكفّار كلّها مجعولة للمسلمين ، وقد روعي فيها جانبهم ولوحظ فيها علوّهم ، فملكية الكافر للمسلم الموجبة لعلوّه بالنسبة إليه غير مجعولة في الإسلام ، من دون فرق بين أن يراد بيعه منه ، وبين أن يسلّم العبد الكافر للمولى الكافر ، وهكذا غير الملكيّة من الزوجية والولاية وغيرهما .
فالإنصاف تمامية دلالة الحديث على القاعدة ، إلاّ أن يناقش فيها من حيث السند ; نظراً إلى أنّ المقدار المجبور بالشهرة والاستناد إنّما هو صدر الرواية دون جميعها ، وصدرها في نفسه لا ينطبق على القاعدة كما عرفت ، إلاّ أن يقال : إنّ فهم الفقهاء منه ذلك دليل على اعتبارهم لذيل الرواية أيضاً ، فتأمّل .
هذا ، ولكن لصاحب كتاب «العناوين» تحقيق في هذا المقام يظهر منه دلالة الحديث على القاعدة مع قطع النظر عن الذيل أيضاً ; حيث إنّه بعد نفي كون المراد بعلوّ الاسلام هو علوّ الشرف والرتبة ، نظراً إلى كونه سبيل النجاة دون سائر الأديان ، قال ما ملخّصه : إن كان المراد الإخبار عن أنّ الإسلام تزيد شوكته وقوّته
(الصفحة 245)
بحيث يعلو على سائر الأديان بكثرة المتديّنين والأعوان ، فلا ريب أنّ الإخبار عن هذا المعنى ليس ممّا هو وظيفة للشارع من حيث هو كذلك ، مع أنّا نرى علوّ سائر الأديان وكثرة الكفر والشرك ومقهوريّة المسلمين .
واحتمال إرادة أنّه يعلو في أواخر الأزمنة بحيث يضمحلّ الكفر ، فالإخبار عن هذا المعنى ممّا لا ريب في بعده من الخبر عند الإنصاف ، سيّما مع التأكيد بقوله : «ولا يعلى عليه» ; فإنّ الظاهر من إثبات العلوّ للإسلام في المستقبل وإن كان أعمّ من كونه دائماً ، أو في زمان من الأزمنة المستقبلة ، لكن نفي علوّ غيره في المستقبل مع حذف المتعلّق والزّمان ظاهر في النفي دائماً .
فالفقرة الاُولى مجملة في إثبات العلوّ من هذه الجهة ، والمتيقّن منه بعض الأزمنة ، ولكنّه لا ينفي العلوّ في الجميع ، والفقرة الثانية دالّة على عدم علوّ غيره مطلقاً ; لأنّ المصدر في ضمن الفعل نكرة ، فإذا دخل عليه أداة النفي إقتضى العموم المستلزم لنفي جميع أفراد العلوّ في الزمن المستقبل ، وهذا مدلول لا معارض له في الفقرة الاُولى ، غاية الأمر دورانه بين علوّ الإسلام في بعض الأوقات ، ومساواته مع الكفر في بعض آخر ، أو علوّه دائماً ، فيدور الأمر بين الاحتمالين .
وعلى أيّ تقدير يكون مدلول الخبر الإخبار عن عدم علوّ الكفر على الإسلام في وقت من الأوقات ، ولازمه الكذب ; لأنّا نرى بالوجدان قوّة الكفّار ومقهوريّة المسلمين في بعض الأزمنة ، فلا وجه لحمل الخبر على الإخبار ، بل ينحصر الطريق في حمله على الإنشاء(1) .
ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ حمل الرواية على أنّ الإسلام يعلو في الحجّة والبرهان على سائر الأديان في غاية البعد ، وليس احتماله مبطلا للاستدلال بها ، خصوصاً بعد عدم مساعدة معنى العلوّ للغلبة على الخصم في مقام الاحتجاج ; لأنّ العلوّ بمعنى
- (1) العناوين : 2 / 354 ـ 355 .
(الصفحة 246)
التسلّط والغلبة بالحجّة ليس تسلّطاً على الخصم .
نعم ، هنا إشكال على الاستدلال بالرّواية ، وكذا بآية نفي السبيل المتقدمة ; وهو ثبوت السبيل والعلوّ للكافر على المسلم في الجملة ، كما إذا اقترض المسلم من الكافر غير الحربي ، أو أتلف ماله ، فإنّه لا شبهة في ثبوت التسلّط والسبيل للكافر على أخذ ماله وثبوت الضمان للمسلم في مقابله .
واُجيب عن ذلك تارة بالالتزام بالتخصيص في مفاد الدليلين ، واُخرى بعدم شمولهما لمثل هذه الفروض حتى يحتاج إلى التخصيص ; لأنّ المتبادر منهما عدم جعل السبيل ، وكذا عدم ثبوت العلوّ بأصل الشرع ; بمعنى أنّ الشارع لم يسلّط الكافر على المسلم ابتداءً وأمّا إذا فعل المسلم فعلا سلّطه على نفسه ، فلا دخل لذلك بالإسلام وعلوّه ، وإنّما هو شيء خارجي .
والجواب عن الأوّل : وضوح كون الدليلين سيّما الآية المشتملة على كلمة «لن» آبيين عن التخصيص ; ضرورة منافاة سياقهما لعروض أيّ تخصيص عليهما .
وعن الثاني : ـ مضافاً إلى النقض بما إذا أرادت المرأة المؤمنة تزويج نفسها من الكافر ، فإنّه لا فرق بينه وبين صورة الاقتراض بوجه ، مع أنّهم لا يقولون بالجواز في النكاح ـ أنّ منشأ التسلّط في هذه الفروض أيضاً جعل الشارع وحكمه بلزوم أداء القرض إلى المقرض ، وكون الإتلاف سبباً للضمان ; ضرورة أنّه مع عدم هذا الجعل لم يكن المقترض ملزماً بالأداء ولا المتلف ضامناً لماله أصلا ، فالإشكال لا يندفع بمثل ذلك .
ويمكن الجواب عن النقض بأنّ عدم جوازتزويج المرأة المؤمنة نفسها من الكافر مستند إلى الرّوايات الخاصّة الواردة في مورده(1) ، ولم يعلم أنّ الوجه فيه هي قاعدة نفي السبيل ،بل يمكن أن يكون بملاك آخر لا يوجد في مثل الاقتراض والضمان .
- (1) وسائل الشيعة : 20 / 533 ، كتاب النكاح ، أبواب ما يحرم بالكفر ب 1 ، و ص 542 ب 5 ح 5 .
(الصفحة 247)
الرّابع : دليل الاعتبار أو مناسبة الحكم والموضوع ; بمعنى أنّ شرف الإسلام وعزّته يقتضي أن لا يجعل في أحكامه وشرائعه ما يوجب ذلّ المسلم وهوانه ، وقد حصر الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز العزّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين(1) ، وعليه : فكيف يمكن أن يجعل الله حكماً يكون سبباً لعلوّ الكفّار على المسلمين ، ومنافياً للعزّة الموجودة فيهم المنحصرة بهم؟ وهذا ليس من باب إعمال الظنّ في استخراج الحكم الشرعي حتى يقال : إنّ الأصل في الظنّ عدم الحجية والاعتبار إلاّ إذا قام دليل عليه ، بل من باب تنقيح المناط القطعي ، بل يكون استظهاراً من الأدلّة اللفظية على ما عرفت .
قال المحقق البجنوردي (قدس سره) بعد ذكر هذا الدليل : وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال على هذه القاعدة ; لأنّه ممّا تركن النفس إليه ويطمئنّ الفقيه به(2) .
أقول : الظاهر أنّ هذا الوجه أيضاً لا ينطبق على جميع موارد القاعدة ; فإنّ مثال التزويج المتقدّم من موارد القاعدة على حسب قولهم ، مع أنّه لا يكون فيه ذلّ بوجه ; فإنّ الزوجية المتقوّمة بالطرفين المفتقرة إلى رضا كليهما كيف تكون مستلزمة للذلّ والهوان إذا أرادت المؤمنة أن تزوّج نفسها من الكافر؟ فهل إرادة التزويج من ناحية المرأة إرادة للوقوع في المذلّة ، أم هي متاع يشتريها الزوج بأغلى الثمن؟ كما في بعض الروايات الواردة في جواز النظر إليها قبل العقد(3) ، وكون الطلاق بيد الزوج الذي هو من أخذ بالساق(4) لا يوجب كون التزويج هواناً وذلاًّ .
- (1) سورة المنافقون 63 : 8 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 1 / 192 .
(3) وسائل الشيعة : 20 / 87 ـ 90 ، كتاب النكاح ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب 36 ح 1 ، 7 و 11 .
(4) المعجم الكبير للطبراني : 17 / 179 ح 473 ، العلل المتناهية : 2 / 646 ح 1071 ، مجمع الزوائد : 4 / 334 ، كنز العمال : 9 / 640 ح 27770 ، مستدرك الوسائل : 15 / 306 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 25 ح 18329 .