(الصفحة 205)
ثانيها : استقرار السيرة على معاملة الأولياء ـ بل مطلق الوكلاء ـ معاملة الأصيل في إقرارهم كتصرفاتهم ، والظاهر أنّ المراد بالسيرة هي سيرة المتشرعة ، وعلى تقدير ثبوتها وعدم كون منشئها هو بناء العقلاء على ما يأتي الكلام فيه ، لا تجري في جميع موارد القاعدة ، فهل تجري في مورد الصبي واعتبار قوله في ما له أن يفعل ، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار إقرار الصبيّ ـ الحاكمة على قاعدة إقرار العقلاء ـ عدم الاعتبار؟ بل هل تجري فيما إذا كان إقرار الوليّ أو الوكيل بضرر المولّى عليه أو الموكّل ، كما هو المهمّ من هذه القاعدة ، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار الإقرار على الغير عدم نفوذه وعدم اعتباره؟
وبالجملة : فالتمسّك بالسّيرة المذكورة في جميع موارد تطبيق القاعدة في غاية الإشكال .
ثالثها : الروايات الواردة في الإئتمان ، الدالّة على قبول قول من ائتمنه المالك بالإذن ، أو الشارع بالأمر ، وأنّه لا يجوز إتّهامه بوجه ، ولكنّه استشكل عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) بأنّ النسبة بين هذه القاعدة وقاعدة الإئتمان عموم من وجه ; لعدم جريان قاعدة الإئتمان في إقرار الصّبي بما له أن يفعله ، وعدم جريان قاعدة من ملك بعد زمان الإئتمان ، مع أنّ مقتضى قاعدة الإئتمان عدم الفرق ، وقد صرّح جماعة بالأوّل ، وقالوا : إنّه لو أقرّ المريض بأنّه وهب وأقبض حال الصحّة نفذ من الثلث(2) ، وبعدم نفوذ إقرار العبد المأذون من قبل المولى ـ بعد الحجر عليه ـ بدين أسنده إلى حال الإذن(3) ، فلا مجال لأن يكون مستند المقام قاعدة الإئتمان بوجه .
رابعها : ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالته من أنّه يمكن أن يكون الوجه في
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 197 ـ 198 .
(2 ، 3) تحرير الأحكام : 4 / 400 ـ 401 .
(الصفحة 206)
القضية المذكورة ظهور اعتبره الشارع ، وبيانه : أنّ من يملك إحداث تصرّف فهو غير متّهم في الإخبار عنه حين القدرة عليه ، والظاهر صدقه ووقوع المقرّ به ، وإن كان هذا الظهور متفاوت الأفراد قوّة وضعفاً بحسب قدرة المقرّ فعلا على إنشاء المقرّ به ، من دون توقّف على مقدّمات غير حاصلة وقت الإقرار ، كما في قول الزوج : «رجعت» قاصداً به الإخبار مع قدرته عليه بقصد الإنشاء ، وعدم قدرته لفوات بعض المقدّمات ، لكنّه قادر على تحصيل المقدّمات وفعلها في الزمان المتأخر ، كما إذا أقرّ العبد بالدّين في زمان له الاستدانة شرعاً ، لكنّه موقوف على مقدّمات غير حاصلة ; فإنّ الظاهر هاهنا أيضاً صدقه ، وإن أمكن كذبه باعتبار بعض الدواعي ، لكن دواعي الكذب فيه أقلّ بمراتب من دواعي الكذب المحتملة في إقرار العبد المعزول عن التجارة الممنوع عن الاستدانة .
ولو تأمّلت هذا الظهور ـ ولو في أضعف أفراده ـ وجدته أقوى من ظهور حال المسلم في صحّة فعله ; بمعنى مطابقته للواقع ، بل يمكن أن يدّعى أنّ حكمة اعتبار الشارع والعرف لإقرار البالغ العاقل على نفسه : أنّ الظاهر أنّ الإنسان غير متّهم فيما يخبره ممّا يكون عليه لا له ، وفي النبويّ : «إقرار العقلاء»(1) إشارة إليه ، حيث أضاف الإقرار إلى العقلاء تنبيهاً على أنّ العاقل لا يكذب على نفسه غالباً ، وإلاّ فلم يعهد من الشارع إضافة الأسباب إلى البالغ العاقل ـ إلى أن قال : ـ مرجعه إلى تقديم هذا الظهور على الأصل ، كما في نظائره من ظهور الصحّة في فعل المسلم ونحوه من الظواهر .
ثمّ قال : ولكنّ الظهور المذكور لا حجيّة فيه بنفسه حتى يقدّم على مقابله من الاُصول والقواعد المقرّرة ، بل يحتاج إلى قيام دليل عليه ، أو استنباطه من أدلّة
(الصفحة 207)
بعض القواعد الاُخر(1) .
أقول : يمكن أن يقال ـ بعد استقرار سيرة العقلاء على القضية المذكورة ـ : بأنّ الشارع لم يردع عمّا هو مقتضى بناء العقلاء ، وأدلّة الاُصول والقواعد المقابلة لا تصلح للرّادعية ، بل الرّدع يحتاج إلى دليل قويّ .
كما أنّه يمكن أن يقال بأنّ نفس السلطنة الثابتة من طرف الشارع إمّا بدون الواسطة ، أو بوساطة إذن المالك ، تلازم عرفاً مع نفوذ إقراره به ، فالدليل على القاعدة نفس هذه الملازمة العرفية التي مرجعها إلى عدم الانفكاك بين السلطة على الشيء وملكية الإقرار به ، فإنّ الصبيّ الذي يجوز له الوصية كيف لا يقبل إقراره بها؟ والزوج الذي يجوز له الرجوع كيف لا يقبل إقراره به؟ وإذا اُضيف إلى ذلك ثبوت الإجماع على القاعدة في الجملة لا يبقى ارتياب في أصل القضية ، ويكفي مستنداً لها كما لا يخفى .
وقد عبّر عن هذا الوجه المحقّق العراقي (قدس سره) فيما حكي عنه بثبوت الملازمة بين السّلطنة على ثبوت الشيء والسلطنة على إثباته ; بمعنى أنّ القدرة على وجود الشيء واقعاً ملازم مع القدرة على إيصاله إلى مرتبة الإظهار والإثبات ، مثلا لو كانت له السلطنة على بيع داره أو وقفه أو هبته أو غير ذلك من التصرّفات ، فلابدّ وأن تكون له السلطنة على إثبات هذه الأعمال والأفعال(2) .
ولكنّه اُورد عليه : بانّه إن كان المراد من السلطنة على إثباته هو أن يكون ثابتاً في مرحلة الظاهر بمحض إظهاره وإقراره ، كي يترتّب عليه جميع آثار وجود ذلك الشيء ; سواء كان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير ، فهذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ; إذ ربما يكون الإنسان قادراً على عمل ، ولكن ليس قادراً على إثباته
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 199 ـ 200 .
(2) حكى عنه المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهية : 1 / 9 .
(الصفحة 208)
بمحض إقراره ، وإلاّ كان إخبار كلّ مخبر عن صدور فعل حجّة على وجود ذلك الفعل ، وإن أنكره من يتعلّق به العمل ، مثل ما لو استأجر البنّاء على أن يبني له الحائط ، فأخبر بوقوع ذلك البناء ، وأنكره المستأجر ، فإنّ إخباره لا يكون حجّة قطعاً .
وإن كان المراد هو أنّ الشارع إن جعل سلطاناً على أمر ، فجعله ملازم لجعل إخباره ، وإقراره حجّة على إثباته .
ففيه : أنّ هذه أيضاً دعوى بلا بيّنة وبرهان ; لعدم لزوم اللغوية ، مع عدم كون الإقرار حجّة ; لإمكان الإشهاد على صدوره منه حتى في مثل الرجوع في العدّة . نعم ، لو كان قوله : «رجعت إليها في حال عدم انقضاء العدّة» إنشاءً لا إخباراً ، فهو بنفسه رجوع ، ويمكن أيضاً أن يكون من قبيل إثبات الرجوع بإقراره ، ومن مصاديق هذه القاعدة ، وليس الجعل الثاني من لوازم الجعل الأوّل حتى يكون الدليل عليه دالاًّ عليه بالدلالة الالتزاميّة (1) .
والظاهر أنّه لا مجال لإنكار الدلالة الالتزامية العرفيّة ; فإنّ العرف يفهم من ثبوت السلطنة للزوج على الرجوع بقول : «رجعت» انشاءً ، أنّه لو وقع هذا القول في مقام الإخبار والإقرار يكون حجّة إذا كانت الزوجة في العدّة ، بحيث كان له ذلك إنشاءً . نعم ، مع انقضاء العدّة وعدم ثبوت حقّ الرجوع له بالفعل لا مجال لاستفادة حجية الإقرار ، كما أنّه لا تدلّ عليه القاعدة ; لظهورها في السلطنة الفعلية كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
المقام الثالث : في مفاد هذه القاعدة ومدلولها.
فنقول : الظاهر أنّ المراد بـ «ملك الشيء» ليس هي الملكية المتداولة في باب الأموال ، كملك الدار والعقار مثلا ، بل بقرينة الإقرار ـ الظاهر في السّلطنة عليه ـ
- (1) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 1 / 9 ـ 10 .
(الصفحة 209)
يكون المراد به هي السّلطنة على الشيء ; سواء كانت هذه السّلطنة ناشئة من الملكية الاصطلاحية ، أو من ناحية الشارع بواسطة أو بدونها .
نعم ، ذكر سيدنا الاُستاذ الأعظم الإمام الخميني ـ أدام الله ظلّه الشريف ـ في حواشيه على رسالة الشيخ (قدس سره) في هذه القاعدة ما لفظه : أنّ المالكية ـ على ما يستفاد من اللغة والعرف ـ هي علقة ورابطة اعتبارية حاصلة بين الشخص والشيء تستتبعها السلطنة والاستبداد به ، وهي غير السلطنة عرفاً ولغة ، ولهذا وقع التشاجر من الصدر الأوّل بين المفسّرين والمحققين في أرجحية «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ، أو «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ولو كان «المالك» بمعنى السلطان لما وقع النزاع والتشاجر بين أئمّة اللّغة والتفسير وأساطين الأدب والعربيّة .
وبالجملة : «مَلَكَ الشيءَ» على ما في القاموس ; أي احتواه قادراً على الاستبداد به(1) ، والسلطنة لازم أعمّ للمالكية . وهذا واضح ; فإنّ أولي الأمر ـ من النبيّ والوصيّ ـ لهم السلطنة على أموال الناس وأنفسهم ، وليست لهم المالكيّة ، والحاصل : أنّ المتفاهم العرفي من «مَلَكَ الشيءَ» هو كونه صاحباً له فعلا ، فيشمل ملك الصغير ، فعدم نفوذ إقراره من مستثنيات هذه القاعدة ، لا أنّ نفوذه في الموارد الخاصّة من الدواخل(2) .
ثمّ ذكر ـ دام ظلّه الشريف ـ في ذيل كلامه ما يرجع إلى أنّ المراد من «ملك الإقرار» وإن كان هو السّلطنة عليه لا المالكية ، لكنّ الظاهر أنّ ذكر «ملك الإقرار» بعد «ملك الشيء» إنّما هو من باب التطابق ، مثل قوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قلت اطبخوا لي جبّة وقميصاً(3)
- (1) القاموس المحيط : 3 / 436 .
(2) الرسائل العشرة للإمام الخميني : 160 ـ 161 .
(3) الرسائل العشرة للإمام الخميني : 162 .