(الصفحة 203)
الخ(1) وحكاه عنه الحلّي(2) ساكتاً عليه من دون اعتراض ، وظاهره ارتضاؤه له ، وإلاّ لم يكن من دأبه السكوت .
وقال القاضي في محكيّ «المهذّب» : إذا كان له عبد فكاتبه في صحّته ثمّ مرض وأقرّ أنّه قبض مال الكتابة ، صحّ إقراره وعتق العبد ; لأنّ المريض يملك القبض ، ويملك الإقرار به مثل الصّحيح(3) .
وقال المحقق في «الشرائع» : لو كان ـ يعني العبد ـ مأذوناً في التجارة ، فأقرّ بما يتعلّق بها ، قُبل ; لأنّه يملك التصرّف فيملك الإقرار ، ويؤخذ ما أقرّ به ممّا في يده(4) . ومثله العلاّمة في محكيّ القواعد (5) .
وذكر فخرالدين في مسألة اختلاف الولي والمولّى عليه : أنّ الأقوى أنّ كلّ من يلزم فعله أو انشاؤه غيره ، كان إقراره بذلك ماضياً عليه(6) .
وربما يستدلّ على تقديم قول الوكيل في التصرّف بأنّه أقرّ بما له أن يفعله .
ولكنّ الظاهر أنّه لا مجال للاستناد إلى الإجماع أيضاً لوجهين :
الأوّل : أنّه يظهر من جملة من أعاظم الفقهاء المخالفة وعدم الإلتزام أو الترديد في هذه القاعدة ، فعن العلاّمة في التذكرة(7) أنّه رجّح تقديم قول الموكّل عند دعوى الوكيل التصرف قبل العزل ، وتردّد فيه في التحرير(8) .
- (1) المبسوط : 3 / 19 .
(2) السرائر : 2 / 57 ـ 58 .
(3) المهذّب : 2 / 393 .
(4) شرائع الإسلام : 3 / 152 .
(5) قواعد الأحكام : 2 / 415 .
(6) إيضاح الفوائد : 2 / 55 ، وفيه : والأقوى أنّ كلّ من يلزم فعله أو انشاؤه غيره يمضي إقراره بذلك عليه .
(7) تذكرة الفقهاء : 2 / 137 (ط .ق) .
(8) تحرير الأحكام : 3 / 42 .
(الصفحة 204)
واستظهر من فخر الدين في الإيضاح(1) عدم قبول دعوى الزوج في العدّة الرّجوع ، وجعل نفس الدعوى رجوعاً . وتردّد في ذلك في موضع من القواعد(2) . وعن الشهيد في القواعد : الاستشكال في دعوى الزوج الرّجعة(3) ، وعن المحقق الثاني : إنكار هذه القاعدة رأساً ; حيث تردّد في قبول إقرار العبد المأذون(4) ، وفي قبول قول الوليّ في تزويج بنته لو أنكرت ، بل ولو لم تنكر ; لجهلها بالحال (5) .
لكنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسالته في هذه القاعدة : هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ القضية المذكورة في الجملة إجماعيّة ; بمعنى أنّه ما من أحد من الأصحاب ـ ممّن وصل إلينا كلامهم ـ إلاّ وقد عمل بهذه القضية في بعض الموارد ، بحيث نعلم أن لا مستند له سواها ; فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضية ، وعملوا بها في مورد آخر ـ إلى أن قال ـ : وكيف كان ، فلم نجد فقيهاً أسقطه عن استقلال التمسّك(6) .
الثاني : أنّ التمسك بالإجماع إنّما يتمّ لو كان دليلا منحصراً في المقام ، حيث إنّ الإجماع حينئذ يتّصف بالأصالة ، ويكشف عن موافقة المعصوم (عليه السلام) أو وجود دليل معتبر ، وأمّا مع فرض عدم الانحصار ، وتماميّة بعض الوجوه الاُخر التي استدلّ بها على القاعدة ، واحتمال أن يكون ذلك الوجه هو مستند المجمعين ، فلا يبقى أصالة له ، ولا يتّصف بكونه دليلا مستقلاًّ في مقابل ذلك الوجه كما لا يخفى . فاللازم ملاحظة الوجوه الاُخر .
- (1) إيضاح الفوائد : 3 / 331 .
(2) قواعد الأحكام : 3 / 136 .
(3) القواعد والفوائد : 2 / 279 .
(4) جامع المقاصد : 5 / 209 ـ 210 وج 9 / 217 .
(5) جامع المقاصد : 12 / 73 .
(6) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 194 ـ 195 .
(الصفحة 205)
ثانيها : استقرار السيرة على معاملة الأولياء ـ بل مطلق الوكلاء ـ معاملة الأصيل في إقرارهم كتصرفاتهم ، والظاهر أنّ المراد بالسيرة هي سيرة المتشرعة ، وعلى تقدير ثبوتها وعدم كون منشئها هو بناء العقلاء على ما يأتي الكلام فيه ، لا تجري في جميع موارد القاعدة ، فهل تجري في مورد الصبي واعتبار قوله في ما له أن يفعل ، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار إقرار الصبيّ ـ الحاكمة على قاعدة إقرار العقلاء ـ عدم الاعتبار؟ بل هل تجري فيما إذا كان إقرار الوليّ أو الوكيل بضرر المولّى عليه أو الموكّل ، كما هو المهمّ من هذه القاعدة ، مع أنّ مقتضى أدلّة عدم اعتبار الإقرار على الغير عدم نفوذه وعدم اعتباره؟
وبالجملة : فالتمسّك بالسّيرة المذكورة في جميع موارد تطبيق القاعدة في غاية الإشكال .
ثالثها : الروايات الواردة في الإئتمان ، الدالّة على قبول قول من ائتمنه المالك بالإذن ، أو الشارع بالأمر ، وأنّه لا يجوز إتّهامه بوجه ، ولكنّه استشكل عليه الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) بأنّ النسبة بين هذه القاعدة وقاعدة الإئتمان عموم من وجه ; لعدم جريان قاعدة الإئتمان في إقرار الصّبي بما له أن يفعله ، وعدم جريان قاعدة من ملك بعد زمان الإئتمان ، مع أنّ مقتضى قاعدة الإئتمان عدم الفرق ، وقد صرّح جماعة بالأوّل ، وقالوا : إنّه لو أقرّ المريض بأنّه وهب وأقبض حال الصحّة نفذ من الثلث(2) ، وبعدم نفوذ إقرار العبد المأذون من قبل المولى ـ بعد الحجر عليه ـ بدين أسنده إلى حال الإذن(3) ، فلا مجال لأن يكون مستند المقام قاعدة الإئتمان بوجه .
رابعها : ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالته من أنّه يمكن أن يكون الوجه في
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 197 ـ 198 .
(2 ، 3) تحرير الأحكام : 4 / 400 ـ 401 .
(الصفحة 206)
القضية المذكورة ظهور اعتبره الشارع ، وبيانه : أنّ من يملك إحداث تصرّف فهو غير متّهم في الإخبار عنه حين القدرة عليه ، والظاهر صدقه ووقوع المقرّ به ، وإن كان هذا الظهور متفاوت الأفراد قوّة وضعفاً بحسب قدرة المقرّ فعلا على إنشاء المقرّ به ، من دون توقّف على مقدّمات غير حاصلة وقت الإقرار ، كما في قول الزوج : «رجعت» قاصداً به الإخبار مع قدرته عليه بقصد الإنشاء ، وعدم قدرته لفوات بعض المقدّمات ، لكنّه قادر على تحصيل المقدّمات وفعلها في الزمان المتأخر ، كما إذا أقرّ العبد بالدّين في زمان له الاستدانة شرعاً ، لكنّه موقوف على مقدّمات غير حاصلة ; فإنّ الظاهر هاهنا أيضاً صدقه ، وإن أمكن كذبه باعتبار بعض الدواعي ، لكن دواعي الكذب فيه أقلّ بمراتب من دواعي الكذب المحتملة في إقرار العبد المعزول عن التجارة الممنوع عن الاستدانة .
ولو تأمّلت هذا الظهور ـ ولو في أضعف أفراده ـ وجدته أقوى من ظهور حال المسلم في صحّة فعله ; بمعنى مطابقته للواقع ، بل يمكن أن يدّعى أنّ حكمة اعتبار الشارع والعرف لإقرار البالغ العاقل على نفسه : أنّ الظاهر أنّ الإنسان غير متّهم فيما يخبره ممّا يكون عليه لا له ، وفي النبويّ : «إقرار العقلاء»(1) إشارة إليه ، حيث أضاف الإقرار إلى العقلاء تنبيهاً على أنّ العاقل لا يكذب على نفسه غالباً ، وإلاّ فلم يعهد من الشارع إضافة الأسباب إلى البالغ العاقل ـ إلى أن قال : ـ مرجعه إلى تقديم هذا الظهور على الأصل ، كما في نظائره من ظهور الصحّة في فعل المسلم ونحوه من الظواهر .
ثمّ قال : ولكنّ الظهور المذكور لا حجيّة فيه بنفسه حتى يقدّم على مقابله من الاُصول والقواعد المقرّرة ، بل يحتاج إلى قيام دليل عليه ، أو استنباطه من أدلّة
(الصفحة 207)
بعض القواعد الاُخر(1) .
أقول : يمكن أن يقال ـ بعد استقرار سيرة العقلاء على القضية المذكورة ـ : بأنّ الشارع لم يردع عمّا هو مقتضى بناء العقلاء ، وأدلّة الاُصول والقواعد المقابلة لا تصلح للرّادعية ، بل الرّدع يحتاج إلى دليل قويّ .
كما أنّه يمكن أن يقال بأنّ نفس السلطنة الثابتة من طرف الشارع إمّا بدون الواسطة ، أو بوساطة إذن المالك ، تلازم عرفاً مع نفوذ إقراره به ، فالدليل على القاعدة نفس هذه الملازمة العرفية التي مرجعها إلى عدم الانفكاك بين السلطة على الشيء وملكية الإقرار به ، فإنّ الصبيّ الذي يجوز له الوصية كيف لا يقبل إقراره بها؟ والزوج الذي يجوز له الرجوع كيف لا يقبل إقراره به؟ وإذا اُضيف إلى ذلك ثبوت الإجماع على القاعدة في الجملة لا يبقى ارتياب في أصل القضية ، ويكفي مستنداً لها كما لا يخفى .
وقد عبّر عن هذا الوجه المحقّق العراقي (قدس سره) فيما حكي عنه بثبوت الملازمة بين السّلطنة على ثبوت الشيء والسلطنة على إثباته ; بمعنى أنّ القدرة على وجود الشيء واقعاً ملازم مع القدرة على إيصاله إلى مرتبة الإظهار والإثبات ، مثلا لو كانت له السلطنة على بيع داره أو وقفه أو هبته أو غير ذلك من التصرّفات ، فلابدّ وأن تكون له السلطنة على إثبات هذه الأعمال والأفعال(2) .
ولكنّه اُورد عليه : بانّه إن كان المراد من السلطنة على إثباته هو أن يكون ثابتاً في مرحلة الظاهر بمحض إظهاره وإقراره ، كي يترتّب عليه جميع آثار وجود ذلك الشيء ; سواء كان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير ، فهذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ; إذ ربما يكون الإنسان قادراً على عمل ، ولكن ليس قادراً على إثباته
- (1) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 199 ـ 200 .
(2) حكى عنه المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهية : 1 / 9 .