(الصفحة 8)
كلمة «القاعدة» لغوياً :
هذه الكلمة من حيث اللغة موضوعة لما هو الأساس لشيء ; سواء أكان ماديّاً أو معنويّاً ، على نحو ينعدم الشيء ويضمحلّ بسبب انتفائه ، فالبيت مثلاً ينعدم بانعدام أساسه ، والدين يندرس باندراس أساسه ، والعلم ينتفي بانتفاء القواعد الكليّة الموجودة فيه . قال ابن منظور :
«والقاعدة : أصل الاُسّ ، والقواعد : الإساس ، وقواعد البيت إساسُه . وفي التنزيل : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}(1) ، وفيه : {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}(2) . قال الزجاج : القواعد أساطين البناء الّتي تعمده ، وقواعد الهَوْدَج : خشبات أربع معترضة في أسفله تركّب عيدان الهودج فيها»(3) .
وأمّا بحسب الاصطلاح : فهي قضيّة كلّية منطبقة على جميع جزئياتها .
قال التهانوي : «هي تطلق على معان : مرادف الأصل ، والقانون ، والمسألة ، والضابطة ، والمقصد . وعرّفت بأنّها أمر كلّي منطبق على جميع جزئيّاته عند تعرّف أحكامها منه»(4) .
من هنا فيشترط في كلمة «القاعدة» المستعملة في العلوم الرائجة أن تكون قضيّة كلّية أو غالبيّة ، ولا يعتبر أن تكون أساساً للعلم على نحو ينتفي بانتفائها ، فمثلا لو انتفت قاعدةٌ واحدةٌ من قواعد الفقه ، أو النحو ، أو الرجال أو غيرها لم ينتفِ العلمُ بانتفائها ، فتدبّر.
- (1) سورة البقرة 2 : 127 .
(2) سورة النحل 16 : 26 .
(3) لسان العرب : 5 / 291 .
(4) موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون : 2 / 1295 .
(الصفحة 9)
ما المقصود بالقاعدة الفقهيّة؟
إعلم أنّهم اختلفوا في تعريف القاعدة الفقهيّة ، وذكروا لبيان حدودها كلمات كلّها غير خالية عن الإيراد والإجمال ، فهنا خلاف بين مدرسة الإماميّة ومدرسة العامّة ، كما وقع الخلاف بين علماء كلّ واحد من المدرستين نفسيهما ، ولتنقيح البحث فيها وفي الاُمور المتعلّقة بها يجب الكلام عليها في جهات :
الجهة الاُولى : في اعتبار الكليّة فيها وعدمه .
فقد وقع الخلاف بين العامّة في أنّ القاعدة الفقهيّة هل تجب أن تكون كليّة أم لا ، بل تكفى كونها أكثريّة؟ فذهب الحموي إلى الثاني ، فقال : إنّ القاعدة هي عند الفقهاء غيرها عند النحاة والاُصوليّين ، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثريّ ، لا كلّي ينطبق على أكثر جزئيّاته لتعرف أحكامها(1) .
ووافقه بعض من المالكيّة ، فقال : أكثر قواعد الفقه أغلبيّة(2) .
وذهب بعض منهم إلى الأوّل ، فقال : هي اُصول فقهيّة كلّية في نصوص موجزة دستوريّة تتضمّن أحكاماً تشريعيّة عامّة في الحوادث الّتي تدخل تحت موضوعها(3) .
فالخلاف واقع بينهم في الكليّة وعدمها ، وذكروا أيضاً أنّ هذه النقطة هي الجهة المائزة من أسباب الفروق والاختلاف بين القواعد الفقهيّة والقواعد الاُصوليّة ، فهي كلية دائماً بخلاف القواعد الفقهيّة .
هذا ، ولكن لا يُرى لهذا الخلاف عين ولا أثر بين الإماميّة ، والسرّ في ذلك أنّ تقييد القاعدة الفقهيّة بكونها غالبية ناشئةٌ عن عدم التدبّر في مفهوم القاعدة
- (1) غمز عيون البصائر ، شرح كتاب الأشباه والنظائر : 1 / 51 .
(2) تهذيب الفروق، المطبوع في مجموعة بعنوان الفروق : 1 / 58 ، الفرق الثاني ، أواخر المسألة الاُولى .
(3) المدخل الفقهي العام : 2 / 947 رقم 556 .
(الصفحة 10)
والخلط بينه وبين الاستثناء ، فتخيّلوا أنّ الاستثناء في قضيّة يخرجها عن كونها قاعدة ، مع أنّه لا يخرجها عن ذلك العنوان . نعم، يخرجها عن الكليّة ، ولكن هذا غير خروجها عن عنوان القاعدة والذهاب إلى كون القاعدة الفقهيّة أكثريّة ، فمثلا قاعدة «المؤمنون عند شروطهم» قاعدة فقهية مسلّمة ، ولها استثناءات ذكرت في مبحث الشروط ; كعدم كون الشرط مخالفاً للكتاب والسنّة وغير ذلك .
فلابدّ من بيان تبيين معنى القاعدة والتدبّر في مدلولها ، والتحقيق أنّها قضية مشتملة على جزئيات مشتركة في عنوان واحد أو شيء واحد .
الجهة الثانية : في الفرق بين القاعدة الفقهيّة والضابط الفقهي .
فذهب كثيرٌ من العامّة إلى أنّ القاعدة الفقهيّة أعمّ من الضابط الفقهي ; بمعنى أنّها لا تختصّ بباب واحد من أبواب الفقه بخلاف الضابط . قال ابن نجيم :
إنّ القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتّى ، والضابط يجمعها من باب واحد(1) .
وقد أيّده السيوطي(2) وأبو البقاء(3) .
والتحقيق عدم صحّة هذا الفرق ; لأنّه متفرّع على تسليم لزوم جريان القاعدة الفقهيّة في أكثر من باب واحد ، وهو غير مسلِّم ; فإنّ القاعدة الفقهيّة لا يلزم أن تكون جامعة للفروع من أبواب مختلفة ، بل يكفي أن تكون جامعة للفروع من باب واحد ، ولذا قاعدة الإمكان مثلا مختصّة بباب الطهارة وليست ضابطاً .
هذا ، والحقّ أنّ بين الضابط الفقهي والقاعدة الفقهية فرقاً من وجهين :
الوجه الأوّل : أنّ الضابط الفقهي هو القضية الّتي ترد في مقام بيان الملاك والشرائط لما هو الموضوع للحكم ، بينما القاعدة الفقهيّة لا تكون بصدد بيان
- (1) الأشباه والنظائر : 166 ، أوّل الفن الثاني .
(2) الأشباه والنظائر في النحو : 1 / 10 ـ 11 .
(3) كليّات أبي البقاء ، القسم الرابع : 48 ، فصل القاف .
(الصفحة 11)
الموضوع أو المتعلّق ، بل إمّا أن تكون بصدد بيان حكم كلّي أو بصدد بيان ملاك كلّي مرتبط بالأحكام لا الموضوعات ; كقاعدة أنّ العلل الشرعيّة معرّفات ، ولتوضيح ذلك نذكر نماذج وأمثلة للضابط :
أ : قد ذكر الفقهاء من جملة محرّمات الإحرام والحرم ، الصيد البرّي وقد اختلفوا في المايز بين الحيوان البرّي والبحري ، وأنّه ما هو الضابط والملاك في كون شيء بريّاً أو بحريّاً ، فقال المحقّق في الشرائع في الضابط في حيوان البحر : هو ما يبيض ويفرخ في الماء(1) ، لكنّ المستفاد من بعض الروايات(2) والكلمات(3) أنّ المعيار في الحيوان البحري هو العيش في الماء وعدم هلاكه فيه .
وقال والدنا المحقّق المعظّم : والذي يقوى في النظر أنّ ثبوت ضابطة شرعيّة تعبّدية بالإضافة إلى عنواني صيد البحر وصيد البرّ ولو بالإضافة إلى بعض مصاديقهما ـ على خلاف ما هو المتفاهم منهما عند العرف واللغة ـ مستبعد جدّاً(4) .
ب : ذهب الفقهاء إلى أنّ الضابط في صحّة الشرط مثلا عدم كونه مخالفاً للكتاب والسنّة ، فهذا ملاك لصحّة الشرط وضابط لها ، وليس قاعدة فقهيّة ، بل القاعدة هي : «المؤمنون عند شروطهم» .
ج : قد وقع الخلاف في ضابط المثليّة والقيميّة في مبحث الضمان، والمراد من الضابط فيهما بيان حقيقة المثليّة والقيميّة وشرائطيهما عند العرف أو الشرع ، وأمّا القاعدة الواردة فيه فهي لزوم كون الأداء في المثلي بمثله وفي القيمي بقيمته .
- (1) شرائع الإسلام : 1 / 283 .
(2) الكافي : 4 / 393 ح 6 ، تهذيب الأحكام : 5 / 363 ح 1263 ، الفقيه : 2 / 235 ح1119 ، المقنع : 252 ، وعنها وسائل الشيعة : 12 / 428 ، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب7 ح1 .
(3) كتاب الحج ، تقرير أبحاث آية الله الگلبايگاني : 2 / 32 ـ 33 .
(4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الحج: 3 / 339 .
(الصفحة 12)
د : في مبحث القصاص قد وقع النزاع في ضابط العمد والخطأ في القتل، والقاعدة فيهما جواز القصاص في العمد والدية في الخطأ .
هـ : الضابط في كون شيء عقداً أو إيقاعاً ، عبادة أو معاملة ، فقد ذكر الشهيد أنّ كلّ حكم شرعيّ يكون الغرض الأهمّ منه الآخرة يسمّى عبادة ، وكلّ حكم شرعيّ يكون الغرض الأهمّ منه الدنيا يسمّى معاملة(1) .
و : الضابط في الصغيرة والكبيرة ، فإنّ قوله (عليه السلام) : لا صغيرة مع الإصرار(2)ليس من القواعد الفقهيّة ، بل هو بيان لملاك الكبيرة . وأيضاً قولهم : كلّ ما توعّد الشرع عليه بخصوصه فإنّه كبيرة ، وكلّ معصية توجب الحدّ فإنّها كبيرة .
ز : الضابط في التعبّدية والتوصليّة ، وقد يسمّى بالضابط الاُصولي .
فتلخّص من جميع ذلك كلّه أنّ الضابط إنّما هو في دائرة ذكر الملاك والشرائط للموضوع أو المتعلّق فقط ، بينما أنّ القاعدة الفقهيّة لا تكون بصدد بيان شرائط الموضوع ، وإنّما تكون بصدد بيان أحكام شرعيّة كليّة .
الوجه الثاني : أنّ الضابط الفقهي لا يلزم أن يستند إلى الشارع ويؤخذ منه ، بل كثير من الضوابط المذكورة في الفقه قد اُخذت من العرف ، فراجع وتدبّر .
الجهة الثالثة : في الفرق بين القاعدة الفقهيّة والنظريّة الفقهيّة .
فذهب جمع من العامّة إلى عدم وجود الفرق بينهما ، قال أبو زهرة في كتابه المسمّى باُصول الفقه :
«القواعد الفقهية هي النظريّات العامّة للفقه الإسلامي»(3) .
ولكن ذهب بعض آخر منهم إلى وجود الفرق بينهما ، فقالوا :
- (1) القواعد والفوائد : 1 / 34 و 35 ، القاعدة 5 و 6 .
(2) الكافي: 2 / 219 ح 1 ، وعنه وسائل الشيعة: 15/337 ، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 48 ح 3 .
(3) اُصول الفقه : 7 .