(الصفحة 411)
الحقوق اُمور اعتبارية صرفة معتبرة عند العقلاء والشارع ، أو خصوص الشارع ، بخلاف المنافع ; فإنّها ليست اعتباريّة بل موجودة بتبع وجود العين ، غاية الأمر أنّ وجود المنافع تدريجيّ بخلاف وجود العين ، مدفوعة بأنّ مقتضى إطلاق أدلّة الاعتبار الشمول للحقوق ، بل يمكن أن يقال بورود الرواية الواردة في الرّحى المتقدّمة(1) في الحقوق دون المنافع ، فتدبّر .
الثالث : هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا؟ وذلك كما لو تنازع شخص مع آخر في امرأة تحت يد أحدهما ; أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوجيّة ، وهكذا في صبيّ تحت يد أحدهما ، فيدّعي الآخر كونها زوجة له أو ولداً له ، وينكره صاحب اليد بالمعنى المذكور ، لا يبعد أن يقال بثبوت بناء العقلاء هنا أيضاً كثبوته في الأملاك ، بل يمكن أن يقال باقوائيّة الملاك هنا ، فإنّ الظنّ الحاصل من الغلبة هنا أقوى من الظنّ الحاصل في الأملاك ; لشيوع الغصب فيها دون المقام .
نعم ، الظاهر اختصاص الاعتبار في الفرض الأوّل بما إذا لم يكن هناك إنكار من ناحية الزوجة التي في بيته ; لأنّه مع وجود الإنكار لم يثبت بناء العقلاء لو لم نقل بثبوت العدم ، فتدبّر .
ويؤيّد ما ذكرنا حكاية الإجماع(2) على تقديم قول صاحب اليد فيما لو تنازع رجلان في زوجيّة امرأة هي تحت أحدهما . نعم ، في مسألة تنازع اثنين على بنوّة صبيّ في يد أحدهما يظهر من كلماتهم التساوي في الدعوى ، وأنّه من باب التداعي دون المدّعي والمدّعى عليه . نعم ، قال في محكيّ القواعد : ولو تداعيا صبيّاً وهو في يد أحدهما لحق بصاحب اليد خاصّة على إشكال(3) ، ويظهر من الفخر في شرحه
- (1) في ص 380 .
(2) لم نعثر عليه عاجلاً.
(3) قواعد الأحكام : 3 / 482 .
(الصفحة 412)
وجود القائل به وإن اختار نفسه العدم ، معلّلا بأنّ اليد لا تأثير لها في النسب ولا في ترجيحه(1) ، بل ربما يقال بأنّ التقديم لو قيل به إنّما هو لترجيح أحد الإقرارين باليد لا لتقديم قول ذي اليد من حيث هو ذو اليد ، على من يدّعي عليه . هذا ، والظاهر ما ذكرنا .
الرّابع : قد وقع التسالم بين الفقهاء على قبول إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين فيما بيده ، بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد ، ويجعل الطرف الآخر مدّعياً وعليه إقامة البيّنة ، وإنّـما الإشكال في وجهه ، واختلفت الآراء في ذلك على أقوال :
أحدها : أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» نظراً إلى أنّ مقتضاها نفوذ الإقرار على النفس وبضرره ، وحيث إنّ ذا اليد في المقام يقرّ لشخص آخر ، ويعترف أنّه له ، فهذا إقرار على النفس ، واللاّزم الأخذ به والحكم بنفوذه ومضيّه (2).
أقول : قد مرّ في البحث عن قاعدة الإقرار أنّ مقتضاها الاقتصار في النفوذ والمضيّ على المقدار الذي بضرره ، وعلى خصوص الجهة التي تكون عليه ، وأمّا الإقرار بنفع الغير فلا يستفاد من القاعدة جوازه ونفوذه ، فالإقرار على أنّ ما بيده ملك لزيد مثلا له جهتان :
إحداهما : الجهة السلبيّة ; وهي عدم كونه له ، والاُخرى : الجهة الإثباتية ; وهي كونه لزيد في المثال ، والذي يستفاد من القاعدة نفوذه ومضيّه هي الجهة الاُولى فقط ، وقد تقدّم في البحث عن القاعدة أيضاً أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الظرف متعلّقاً بالإقرار ، وبين أن يكون متعلّقاً بجائز ، وأنّه على التقدير الأوّل أيضاً لا دلالة للقاعدة على نفوذ الإقرار على النفس مطلقاً ولو بالإضافة إلى
- (1) إيضاح الفوائد : 4 / 399 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي: 1 / 163 .
(الصفحة 413)
الجهة الإثباتية ، فراجع(1) .
ثانيها : أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» نظراً إلى أنّ ذا اليد مالك لأن يملّك ما في يده للغير ببيع أو صلح أو نحوهما ، فيملك الإقرار بأنّه له (2).
ويرد عليه : أنّ الذي يملّكه هو تمليك الغير المقرّ له فيملك الإقرار به ، والمفروض في المقام أنّه لم يقرّ به ، بل أقرّ بكونه للمقرّ له ، وأنّه مالكه ، والمقرّ لا يكون مالكاً لهذه الجهة حتّى يملك الإقرار به ، ففي هذا الوجه خلط .
ثالثها : ما حكي عن المحقّق العراقي (قدس سره) من أنّ اليد أمارة على ملكيّة ذي اليد بالدلالة المطابقيّة ، وعلى نفي كونه للغير بالدلالة الالتزاميّة ، وهاتان الأماريتان تسقطان بسبب الإقرار للغير . وأمّا بالنسبة إلى ما عداهما فأماريّتها باقية على حالها ، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكيّة عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقرّ له ، ومعلوم أنّ المال لا يبقى بلا مالك .
وبعبارة اُخرى : أنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقيناً ، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له ، فلابدّ وأن يكون له ، فيكون هو المنكر وطرفه المدّعي بناءً على ما هو التحقيق من أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفاً للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقاً للحجّة الفعلية(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ تشخيص المدّعي عن المنكر موكول إلى العرف(4) ، كسائر العناوين المأخوذة في الأدلّة موضوعة للأحكام ـ : أنّه لابدّ في
- (1) في ص 69 ـ 75 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي: 1 / 164 .
(3) الحاكي هو المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهيّة : 1 / 164 ـ 165 .
(4) في ص 402 .
(الصفحة 414)
المقام من ملاحظة أنّ بناء العقلاء على اعتبار إقرار ذي اليد بالنسبة إلى المدّعي لما تحت يده هل يختصّ بما إذا لم يكن في مقابل المدّعي مدّع آخر ، أو يعمّ صورة وجود مدّع آخر أيضاً؟ فعلى الأوّل لا يبقى مجال لما أفاده ; لعدم اعتبار الإقرار بوجه ، فيصير الرجلان متداعيين ، وعلى الثاني يكون المقرّ له كنفس المقرّ ويقوم مقامه ، فعلى الآخر إقامة البيّنة ، ولا يبعد ترجيح الثاني .
الخامس : لو أقرّ بما في يده لزيد ثم أقرّ به لعمرو ; بأن يكون المقرّ به فيهما تمام ما في يده ، ففي المسألة صورتان :
إحداهما : ما إذا كان الإقرار للثاني بعد الإقرار للأوّل ، وفي كلام منفصل ، بل وفي مجلس آخر مثلا، والظاهر عدم كون هذه الصورة مورداً لتعرّض الأصحاب ، كما أنّ الظاهر أنّ الحكم فيها بطلان الإقرار الثاني وعدم نفوذه على المقرّ بوجه ; لأنّ نفوذ الإقرار الأوّل مع كونه واجداً للشرائط يجعل المقرّ أجنبيّاً عن المقرّ به ; لأنّه يحكم بسببه بكون المال للمقرّ له ، ويؤخذ من يده ويجعل تحت يد المقرّ له ، ولا مجال لتوهّم كون نفوذه معلّقاً على عدم إقرار بخلافه فيما بعد ، وإلاّ تلزم لغوية القاعدة ، مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه ; لأنّ مقتضى قاعدة الإقرار ترتّب الحكم بالمضي بمجرّد تحقّق موضوعه ; وهو إقرار العاقل على النفس .
كما أنّ دعوى كون الإقرار الثاني بمنزلة التفسير وشرح المراد من الإقرار الأوّل ، فينبغي الاعتماد عليه ، مدفوعة ـ مضافاً إلى عدم كونه تفسيراً له عرفاً ، بل مناقضاً ومغايراً له ـ بعدم كون التفسير بهذا النحو في المحاورات العرفيّة مورداً لقبول العقلاء ، وقد عرفت في البحث عن قاعدة الإقرار الفرق بين مقام التقنين وجعل القانون ، وبين المحاورات العرفيّة الواقعة في مقام بيان المقاصد(1) ، وعليه : فالحكم في هذه الصورة هو لغويّة الإقرار الثاني .
(الصفحة 415)
ثانيتهما : ما إذا كان الإقرار للثاني عقيب الإقرار للأوّل وفي نفس ذلك الكلام ، غاية الأمر بصورة الإضراب ، كما إذا قال : هذا المال لزيد بل لعمرو ، والمشهور ـ بل ادّعى جماعة أنّه لا خلاف معتدّ به فيه(1) ، بل عن الإيضاح أنّ ذلك من قواعدهم(2) ، ولعلّه ظاهر في الإجماع ـ أنّه يقضى بما في يده للأوّل وبغرامة بدله ـ مثلا أو قيمة ـ للثاني ; لأنّه بإقراره الأوّل حال بين المقرّ له الثاني وبين ما له ، فيجب على المقرّ المثل أو القيمة(3) .
وحكي عن ابن الجنيد الرجوع إليه في مراده إن كان حيّاً ، وإلاّ فهو مال متداع بينهما ، فإن انتفت البيّنة حلفا واقتسما(4) ، ونفى عنه البعد في الدروس ، حيث إنّه بعد حكايته عنه قال : وليس بذلك البعيد ; لأنّه نسب الإقرار إليهما في كلام متّصل ، ورجوعه عن الأوّل إلى الثاني ، يحتمل كونه عن تحقيق وتخمين ، فالمعلوم انحصار الحقّ فيهما ، أمّا تخصيص أحدهما فلا(5) .
واحتمل في محكيّ المسالك(6) أنّه يقضى به للأوّل ولا يغرم للثاني ; لأنّه إقرار بما تعلّق به حقّ الغير قبله ، كالصّورة الاُولى .
ودليل المشهور أنّه بالإضراب عدل عن إقراره الأوّل ، ولا يسمع منه ; لأنّه إنكار بعد الإقرار ، وقد مرّ(7) في بحث قاعدة الإقرار أنّه لا يسمع الإنكار بعد الإقرار ، فلابدّ من ترتيب آثار الإقرار الأوّل ، ولازمه إعطاء العين التي بيد المقرّ إلى
- (1) جواهر الكلام : 35 / 130 .
(2) إيضاح الفوائد : 2 / 458 .
(3) مفتاح الكرامة : 9 / 318 ـ 319 ، القواعد الفقهيّة للبجنوردي : 1 / 167 .
(4) حكي عنه في مختلف الشيعة : 5 / 541 مسألة 252 .
(5) الدروس الشرعيّة : 3 / 132 .
(6) مسالك الأفهام : 11 / 109 ـ 110 .
(7) في ص 77 .