(الصفحة 455)
العمل ، وتحقيق ذلك موكول إلى محلّه . مضافاً إلى أنّ القرعة في هذه المقامات مثبتة للموضوع ; مستلزمة لترتّب أحكام مخالفة للأصل ، والأصل عدم لحوقها إلاّ بالمتيقّن ، مع أنّ الغالب في المثبتات ـ كالبيّنة واليمين ونحو ذلك من الشياع ونحوه ـ عند الحاكم فكذلك القرعة .
وبالجملة : من أعطى النظر حقّه في هذا المقام لا يشك في الاختصاص ، والذي أراه أنّ الظاهر من الأصحاب أيضاً ذلك ; اذ لم يعهد منهم تعميم القرعة . نعم ، كلامهم أيضاً غير مقيّد بخصوص الوالي في الموارد التي نقلناها عنهم ، ومن هنا قد يتوهّم الإطلاق ، لكنّه غير دالّ على ذلك ; إذ الغالب في تلك الموارد المذكورة كونها عند الحاكم ; إذ الغالب أنّها في باب التنازع والتداعي ، ولا يحتاج في ذلك إلى تقييدهم بكونه عند الإمام .
وبالجملة : التأمّل في النص والفتوى يقضى بالاختصاص(1) .
أقول : إن قلنا باختصاص مورد القرعة بباب القضاء والحكومة ـ غاية الأمر كونها أعمّ من قضاء القاضي في باب الدّعاوي والخصومات ، وحكومة الوالي في المنازعات المرتبطة به ـ فلا إشكال في اختصاص القرعة بالقاضي والوالي . وإن لم نقل به ، فالظاهر أنّه بعد عدم ثبوت إطلاق يعتدّ به أنّ القدر المتيقّن هو الرجوع إليهما ; للشك في ترتّب الآثار مع عدم الرجوع .
نعم ، لا تنبغي المناقشة في جواز التراضي بالقرعة في بعض الموارد ، كباب القسمة والتزاحم في المشتركات ونحوهما ، كما أنّه لا مجال لتوهّم الاختصاص بإمام الأصل ، وعدم الجواز للنائب العام وإن كان بعض التعليلات في الروايات يوهم الاختصاص ، فتدبّر .
المقام السادس : الظاهر أنّه ليس للقرعة كيفيّة خاصّة وطريق مخصوص ،
- (1) العناوين : 1 / 365 ـ 367 .
(الصفحة 456)
بل هي عبارة عن العمل الذي يمتاز به الحقوق ، ويكشف به عن الواقع ، أو يتعيّن به أحد الاُمور . ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الإطلاقات الكثيرة ـ أنّه قد ورد في الكتاب العزيز بإلقاء الأقلام(1) ، وفي النصوص بأنواع مختلفة ، مثل الكتابة على السهم(2) ، والخواتيم من الشركاء(3) ، ومن الحاكم(4) ، والكتابة على الرقاع(5) ، والنوى(6) ، وغيرذلك ،وهويكشف عن عدم تعيّن طريق خاصّ وكيفيّة مخصوصة كما هو ظاهر .
المقام السّابع : ربما يستظهر اعتبار تفويض الأمر إلى الله ـ تعالى ـ في صحّة القرعة ; بمعنى أن يوطّن المتقارعون أنفسهم على التسليم لما أمر به الله وإطاعته حتّى ينكشف لهم ، فلو اتّفق ذلك منهم تجربة أو من دون التفات إلى الله تعالى بطلب البيان فلا عبرة بذلك .
- (1) سورة آل عمران 3 : 44 .
(2) الكافي : 7 / 158 ح 2 ، المحاسن : 2 / 439 ح 2523 ، الفقيه : 3 / 53 ح 182 و ج 4 / 239 ح 763 ، تهذيب الأحكام : 6 / 239 ح 88 و ج 9 / 356 ح 1273 ، الاستبصار : 4 / 187 ح 701 ، وعنها وسائل الشيعة : 26 / 292 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ب 4 ح 2 .
(3) الكافي : 7 / 373 ح 9 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 280 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 20 ح 2 .
(4) الكافي : 7 / 371 ح 8 ، الفقيه : 3 / 15 ح 40 ، تهذيب الأحكام : 6 / 316 ح 875 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 279 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 20 ح 1 ، وفي البحار : 40 / 262 ذ ح 30 عن الكافي .
(5) الكافي : 3 / 470 ح 3 و ص 473 ح 8 ، المقنعة : 219 ب 29 ، مصباح المتجهد : 534 ـ 536 ، تهذيب الأحكام : 3 / 181ـ 182 ح 412 و 413 ، فتح الأبواب : 160 ـ 164 و 228 ـ 229 و 264 و 266 و 269 و 286 ، وعنها وسائل الشيعة : 8 / 68 ـ 72 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الإستخارة ب 2 ح 1 ـ 4 . وفي ج 27 / 262 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 19 عن الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : 97 .
وفي بحار الأنوار : 91 / 234 ح 8 و ص 235 ـ 240 ح 1 ـ 5 عن فتح الأبواب ومجموع الدعوات ومصباح المتهجد ومكارم الأخلاق : 2 / 106 رقم 2301 .
(6) مسالك الأفهام : 10 / 315 ، عوائد الأيّام : 561 ، العناوين : 1 / 371 .
(الصفحة 457)
أقول : الأصل في ذلك صحيحة جميل المروية في التهذيب قال : قال الطيّار لزرارة : ما تقول في المساهمة أليس حقّاً؟ فقال زرارة : بلى هي حقّ ، فقال الطيّار : أليس قد ورد أنّه يخرج سهم المحقّ؟ قال : بلى ، قال : فتعال حتّى أدّعي أنا وأنت شيئاً ثمّ نساهم عليه وننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة : إنّما جاء الحديث بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله ثمّ اقترعوا إلاّ خرج سهم المحقّ . فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب . فقال الطيّار : أرأيت إن كانا جميعاً مدّعيين ادّعيا ما ليس لهما ، من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة : إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح(1) فإن كانا ادّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح(2) .
وهذه الرواية وإن كان فيها إشكال من جهة ظهورها في التسالم بين زرارة والطيّار على أنّ مورد القرعة ما إذا كان هناك محقّ واقعاً ، مع أنّك قد عرفت(3) عدم الاختصاص به ، إلاّ أنّ ظهورها في أنّه لم توضع القرعة على التجارب ، بل إنّما هي في ما فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى لا ينبغي أن ينكر .
ويستفاد من بعض الروايات المتقدّمة اعتبار التفويض قبل القرعة(4) ، ومن بعضها اعتباره بعدها(5) ، ومن بعضها أنّ القرعة عبارة عن نفس التفويض إلى الله تعالى(6) ، والمستفاد من المجموع بعد التأمّل أنّ مورد القرعة ما إذا كان المراد الكشف عن الواقع ، أو تعيّـن أحد الاُمور . وأمّا إذا كان المراد به التجربة ونحوها فلا مجال لها . والظاهر أنّه ليس المراد لزوم التوجّه الى الله تعالى وطلب البيان منه
- (1) ويحتمل أن يكون منيح بالنون ، وهو أحد سهام الميسر العشرة ممّا لا نصيب له (منه دام ظلّه).
(2) تهذيب الأحكام : 6 / 238 ح 584 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 257 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 4 .
(3) في ص 449 .
(4) أي رواية جميل المتقدّمة آنفاً .
(5، 6) في ص 438 و 439 .
(الصفحة 458)
حتى يكون فيه شائبة العباديّة ، بل المراد كون إعمالها لغرض جدّى ومقصود أصليّ ; وهو ما ذكرنا .
ثمّ إنّ الظاهر عدم اعتبار الدعاء ، فضلا عن الدعاء المخصوص المشتمل عليه بعض الروايات في صحّة القرعة(1) ، وإن كان ظاهر بعض الروايات اعتباره ، بل جعل ذلك علّة لعدم إقراع غير الإمام كما عرفت(2) ، إلاّ أنّ الظاهر باعتبار اختلاف النصوص في أصل الدعاء وفي خصوصيّته ، الحمل على عدم الوجوب ، كما لا يخفى .
هذا تمام الكلام في قاعدة القرعة .
22 شهر محرّم الحرام 1409 هـ
- (1) وسائل الشيعة : 8 / 68 ـ 72 ، بحار الأنوار : 91 / 234 ح 8 و ص 235 ـ 240 ح 1 ـ 5 .
(2) تقدم في ص 454 .