(الصفحة 18)
فتبيّن أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ .
الوجه الرابع : أنّ القاعدة الاُصوليّة يتمّ الاستعانة بها في جميع أبواب الفقه ، بخلاف القاعدة الفقهيّة .
وفيه : أنّ بعض القواعد الفقهيّة مرتبط بجميع أبواب الفقه ، فمثلا قاعدة أنّ «علل الشرع معرّفات» بناءً على كونها قاعدة فقهيّة ، وأيضاً قاعدة «لا ضرر» تجري في العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات . نعم ، بعض القواعد الفقهيّة مختصّ بباب واحد .
الوجه الخامس : ما يستفاد من كلمات السيّد المحقّق الإمام الخميني (قدس سره) (1) من أنّ القواعد الاُصولية آليّة ، بخلاف القاعدة الفقهيّة ، فإنّها استقلاليّة .
وهذا الفرق متين جدّاً ، ولكن لا يستفاد منه الملاك في كون القاعدة فقهيّة ، فتأمّل .
الوجه السادس : أنّ الاستنتاج في القاعدة الاُصولية غير متوقّف على القاعدة الفقهيّة ، بخلافها ، فإنّها متوقّفة على القاعدة الاُصوليّة(2) .
هذا ، وهنا فروق أيضاً بينهما من جهة المصدر والمدرك فيهما ، وسيأتي في الجهة السابعة .
الجهة الخامسة : في تقسيم القواعد الفقهيّة ، فهنا تقسيمان :
التقسيم الأوّل : ما ذكره الشهيد الأوّل ، فإنّه قسّم القواعد الفقهيّة لا باعتبار كلّ باب ، بل باعتبار الموضوعات ، وإليك ما ذكره ملخّصاً :
أ : القواعد المرتبطة بالاجتهاد .
ب : القواعد الجارية في المناكحات .
- (1) تهذيب الاُصول : 1 / 5 ـ 6 .
(2) الاُصول العامّة للفقه المقارن : 43 .
(الصفحة 19)
ج : القواعد الموجودة في القضاء .
د : قواعد باب الجنايات .
هـ : قواعد العبادات .
و : قواعد العقود .
ز : قواعد الإرث .
ح : قواعد الحدود .
ط : قواعد الديات .
ي : قواعد القصاص .
فهذا التقسيم باعتبار الأبواب والموضوعات ، والظاهر أنّه لم يكن بصدد التقسيم الصناعي للقواعد الفقهيّة ، وإنّما استقصى القواعد المختلفة في الأبواب المتعدّدة ، ولاحظها ونظّمها باعتبار الموضوعات المختلفة ، وبناءً على ذلك لم تكن منحصرة فيما ذكره ، بل كلّما ازداد التتبّع والاستقصاء ازدادت القواعد والموضوعات .
التقسيم الثاني : ما ذكره الشهيد الصدر (قدس سره) (1) فإنّه قسّمها إلى خمسة أقسام :
القسم الأوّل : ما ليس بقاعدة بمعناها الفنيّ كقاعدة «لا ضرر» فإنّ القاعدة متقوّمة بشيئين : الأوّل : أن تكون أمراً كلّياً ، والثاني : وجود نكتة ثبوتيّة واحدة ترجع إلى حقيقة واحدة ; وهي في الأحكام الشرعية والقواعد المجعولة الشرعيّة عبارة عن وحدة الجعل ; كقاعدة «على اليد» وحجيّة خبر الثقة ، وفي المجعولات غير الشرعيّة ; كقاعدة «الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ذيه» عبارة عن وحدة نفس الأمرية ، أمّا مثل قاعدة «لا ضرر» فإنّها مجموعة من التشريعات العدميّة جمعت في عبارة واحدة ، فبما أنّها غير راجعة إلى نكتة واحدة وجعل واحد ،
- (1) بحوث في علم الاُصول : 1 / 24 ـ 26 .
(الصفحة 20)
بل كلّها في عرض واحد فليست بقاعدة بالمعنى الفني لها ، وهذا نظير أن يقال : كلّ حكم ثبت للرجل في المعاملات فهو ثابت للمرأة أيضاً ، فهو تجميع جعول متعدّدة تحت تعبير ثان .
القسم الثاني : ما يكون قاعدة بمعناها الفني مع دلالتها في نفسها على حكم واقعي كلّي مجعول بجعل واحد ; كقاعدة «ما يضمن» الّتي ترجع إلى ضمان اليد ، فهي قاعدة دالّة على نكتة ثبوتية واحدة تدلّ بنفسها على الحكم الشرعي الواقعي ، ولا تكون طريقاً لإثبات الحكم الشرعي ، ومن هذه القاعدة يستفاد الضمان في البيع الفاسد ، فهو غير مجعول مستقلاًّ ، بل حصّة من القاعدة الكلّية ، ومن هذا البيان يتّضح أنّ القاعدة الاُصوليّة تقع في طريق إثبات الجعل الشرعي ، بخلاف القاعدة الفقهية .
القسم الثالث : ما يكون قاعدة مع دلالتها على الحكم الظاهري ، وبها يحرز صغرى الحكم الشرعي ، كقاعدة الفراغ ، فهذا القسم كالسابق لا يقع في طريق إثبات الجعل الشرعي ، بل يقع في طريق اثبات مصداق متعلّق الجعل .
القسم الرابع : ما يكون قاعدة مع دلالتها على الحكم الظاهري ، وبها نتوصّل إلى الحجّة على أصل الجعل ; كقاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة .
القسم الخامس : ما يكون قاعدة فقهيّة استدلالية يستند الفقيه إليها في الاستنباط ; كقاعدة ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد وإلى النجاسة ، والفرق بين القواعد الاُصولية وهذين القسمين من القواعد الفقهية عدم اختصاص القواعد الاُصولية بباب فقهي معيّن ، بخلافهما .
فهذا التقسيم مع قطع النظر عن بعض المناقشات الواردة على بعض الأقسام ، إنّما هو باعتبار الحكم الشرعي الّذي تدلّ عليه القاعدة ، فالقاعدة الفقهيّة إمّا أن تدلّ على الحكم الشرعي الواقعي ، أو تدلّ على الحكم الشرعي الظاهري . وأيضاً
(الصفحة 21)
إمّا أن تكون بنفسها دالّة على الحكم الشرعي ، وإمّا أن تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي ، وأيضاً إمّا أن لا تدلّ على الحكم الشرعي أصلا ، بل تدلّ على نفي الحكم الشرعي ; كقاعدة «لا ضرر» و«لا حرج» وقاعدة «الحدود تدرأ بالشبهات» .
وبعض القواعد الفقهيّة في مقام تبيين متعلّق الأحكام ، وليس في دائرة الأحكام نفياً وإثباتاً ، نظير «كلّ ما توعّد الشرع عليه بخصوصه فإنّه كبيرة» فهذه القاعدة في مقام بيان تشخيص الذنب الكبير، ونظير قاعدة «كلّ ما لم يرد فيه دية في الشرع ففيه الحكومة» .
فتحصّل أنّ القواعد الفقهيّة إمّا أن تكون بصدد بيان متعلّق أو موضوعات الأحكام ، وإمّا أن تكون بصدد بيان الأحكام الكليّة نفياً أو اثباتاً ، واقعيّة أو ظاهريّة .
الجهة السادسة : في جريان القواعد الفقهية في الشبهات الحكميّة وعدم جريانها .
فذهب السيّد المحقّق الخوئي (قدس سره) (1) إلى عدم جريانها ; لكون النتائج فيها أحكاماً شخصيّة ، وقاعدة «لا ضرر» و«لا حرج» جزئيّة أيضاً ، من جهة جريانهما في الضرر والحرج الشخصيين لا النوعيين على ما هو التحقيق في محلّه .
ولكن أورد عليه الشهيد الصدر (قدس سره) ملاحظتين(2) :الملاحظة الاُولى : ما هو المراد من الشبهة الحكمية؟ إن كان المراد منها هو الشكّ في المورد الّذي كان بيانه على عهدة الشارع ; سواء كان شاملا لجميع المكلّفين أم لا ، فمن الواضح أنّ البيان في الضرر الشخصي أيضاً على عهدة الشارع . وإن كان المراد منها هو الشكّ في المورد الّذي كان بيانه على الشارع على نحو يشمل
- (1) محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 13 .
(الصفحة 22)
جميع المكلّفين ، فالضرر الشخصيّ وإن كان خارجاً منها ، إلاّ أنّ تفسير الشبهة الحكميّة بهذا البيان يكون بلا وجه .
الملاحظة الثانية : أنّ المستفاد من بعض القواعد الفقهيّة هو الحكم الكلّي الشرعيّ على نحو يشمل جميع المكلّفين .
والظاهر تماميّة الإيرادين ، فالقواعد الفقهيّة كما تجري في الشبهات الموضوعيّة كقاعدة «الفراغ» و«اليد» و«الحليّة» ، كذلك تجري في الشبهات الحكمية .
الجهة السابعة : في مصادر القواعد الفقهية .
فاعلم أنّ المصدر فيها لا يتخلّف عن المصدر في نفس المسائل الفقهيّة ، فبعضها مستفاد من القرآن الكريم ; كقاعدة «لا حرج» و«نفي السبيل» وقاعدة «الإحسان» وغيرها ، وبعضها مستفاد من السنّة من عموم نصّ أو ظاهر رواية أو غيرهما ، وبعضها من الإجماع والعقل .
وقد يستفاد بعضها من القواعد الاُصوليّة ، كقاعدة «مشروعيّة عبادات الصبي» الّتي تستفاد من البحث الاُصولي ، أعني أنّ الأمر بالأمر هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ و هذا أيضاً من نقاط الافتراق بينهما ، بمعنى أنّ القاعدة الاُصوليّة تصلح لأن تكون علّة للقاعدة الفقهيّة ولا عكس ، فتتبّع ، ومع ذلك كلّه هناك قواعد مطروحة في الفقه يستفاد منها ما يستفاد من سائر القواعد الفقهيّة ، ولكنّ الدليل فيها غير الدليل في الأحكام الشرعيّة ; كقاعدة «أنّ العلل الشرعية معرّفات» الّتي عبّر عنها المحقّق الشريف القاساني(1) بعنوان القاعدة الفقهيّة ، ولا تدلّ بالمطابقة على حكم شرعي فقهي ، وأيضاً قاعدة أنّه «لا اطّراد في العلل التشريعيّة» وغيرهما ، والظاهر أنّ دليل هذه القواعد ونظائرها ـ بناءً على كونها
- (1) تسهيل المسالك إلى المدارك في رؤوس القواعد الفقهيّة : 2 ـ 40 .