(الصفحة 514)
المسلم ، بل الظاهر أنّ الثاني أمارة عليها ، والأوّل أمارة على الثاني .
المقام الرّابع : أنّه لا فرق في المسلم الذي يؤخذ من يده ويكون السوق أمارة على إسلامه ، بين من كان عارفاً بالإمامة ، ومن لم يكن ; لأنّه ـ مضافاً إلى كون أكثر المسلمين في تلك الأزمنة غير عارفين ، وإلى أنّ الجمع المحلّى باللاّم في «المسلمين» الذي اُضيف إليه «السوق» في رواية الفضلاء المتقدّمة يقتضي العموم لكلّ مسلم على ما هو المشهور(1) ـ يدلّ عليه رواية إسماعيل بن عيسى قال :
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(2) .
وعليه : فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونها أمارة شرعيّة على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف ; وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية ، كاجتزائهم في الصيد بإرسال غير الكلب المعلّم(3) ، وكذلك في بعض الفروع ، كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ(4) ، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب(5) ، وغير ذلك من الموارد ، فلا يكون مجرّد كونه في يده أو مع ترتيبه
- (1) كفاية الاُصول : 254 ، فوائد الاُصول : 1 / 515 ، أجود التقريرات : 2 / 295 ـ 299 ، نهاية الأفكار : 2 / 510 ، محاضرات في اُصول الفقه : 5 / 159 ، مناهج الوصول : 2 / 230 .
(2) تقدم في ص 512 .
(3) البيان في مذهب الشافعي : 4 / 535 ، بدائع الصنائع : 4 / 177 ، المغني لابن قدامة : 11 /11 ، المجموع شرح المهذّب : 9 / 88 .
(4) البيان في فقه الشافعي : 1 / 69 ـ 70 ، بدائع الصنائع : 1 / 243 ـ 245 ، المغني لابن قدامة : 1 / 55 ـ 56 ، المجموع شرح المهذّب : 1 / 268 ـ 280 .
(5) البيان في فقه الشافعي : 4 / 526 ـ 529 ، بدائع الصنائع : 4 / 164 ـ 165 ، المغني لابن قدامة : 11 / 35 ، المجموع شرح المهذّب : 9 / 75 ، الشرح الكبير : 11 / 46 .
(الصفحة 515)
آثار المذكّى عليه أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه .
فالحكم باعتبار يد المسلم حينئذ ليس لأماريتها ، بل لأجل أنّ الحكم بعدم الاعتبار ـ مع أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ـ مستلزم للعسر ، فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبّداً فيما إذا لم يكن بائعه مشركاً .
وأمّا ما أفاده المحقّق البجنوردي (قدس سره) من أنّ كونه أصلا غير تنزيلي أمر لا ينبغي أن يحتمل ; لأنّه لو كان أصلا غير تنزيلي لكانت أصالة عدم التذكية حاكمة عليه ، وكان لا يبقى مورد لجريانه ، كما هو الشأن في كل أصل حاكم مع محكومه(1) .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جريان أصالة عدم التذكية محلّ خلاف وإشكال ـ : أنّه على هذا التقدير تكون الحكومة ممنوعة ، بل تكون أدلّة اعتبار السّوق مخصّصة لدليل اعتبار الاستصحاب ، وقاضية بعدم جريان أصالة عدم التذكية في مورد جريان أدلّة اعتبار السّوق .
وقد استدلّ هو على الأماريّة بأنّ قيام السيرة على دخول المتديّنين في الأسواق الإسلامية وشرائهم مشكوك التذكية ، ومعاملتهم معه معاملة المزكّى ـ مع أنّهم يرون أنّ الصلاة في غير المذكّى ليست بجائزة ـ دليل على أنّهم يرون أسواق المسلمين طريقاً وكاشفاً عن كونه مذكّى ; لأنّ الأماريّة متقوّمة بأمرين :
أحدهما : كون ذلك الشيء فيه جهة كشف عن مؤدّاه ولو كان كشفاً ناقصاً .
ثانيهما : كون نظر الجاعل في مقام جعل الحجّية إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حدّ نفسه ، فالأماريّة متوقّفة على أن يكون جعل حجّيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكويناً في عالم التشريع والاعتبار ، ومن المعلوم في المقام وجود كلا الأمرين ; لأنّه لا شك في كون اللحم أو الجلد المشترى
- (1) القواعد الفقهيّة : 4 / 165 .
(الصفحة 516)
في سوق المسلمين فيه جهة كشف عن أنّه مذكّى ; لأنّهم غالباً لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلدها ، كما أنّه لا شك في أنّ سيرة المتديّنين على دخولهم الأسواق واشترائهم اللحوم والجلود باللحاظ المذكور ، وسيرة المتديّنين لا تحتاج إلى الإمضاء ; فإنّها كاشف مثل الإجماع عن موافقته لرأي المعصوم (عليه السلام) (1) .
ويظهر الجواب عن هذا الدليل ممّا ذكرنا من أنّ شمول أدلّة اعتبار السوق لسوق المسلمين غير العارفين ـ مع وضوح اختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية ـ يكشف عن عدم الأماريّة ; لأنّ المسلمين غالباً لا يقدمون على بيع لحم ما هو ميتة بنظرهم ولا جلده ، لا بيع لحم ما هو ميتة بنظر الإماميّة العارفين بالإمامة ، كما لايخفى .
وعليه : فالأمر الأوّل من الأمرين اللذين يتقوّم بهما حجّية الأمارة غير متحقّق في المقام ; لعدم وجود الكشف ولو بنحو ناقص على ما عرفت .
وأمّا الرّوايات ، فسيأتي البحث عنها في المقامات الآتية إن شاء الله تعالى .
المقام الخامس : أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في السّوق اعتبار ضمان البائع وإخباره بكون مبيعه مذكّى ، وهي رواية محمد بن الحسين الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السّوق؟ فقال : إذا كان مضموناً فلا بأس(2) .
ولكنّ الظاهر أنّه يتعيّن حملها على الاستحباب بقرينة رواية الفضلاء الدالّة على النهي عن السّؤال عنه(3) ; فإنّ المراد من النهي هو عدم الوجوب ; لأنّه في مقام توهّمه ، فالمراد عدم وجوب السؤال ، ومن الواضح أنّ المراد من السؤال هو السؤال
- (1) القواعد الفقهيّة : 4 / 165 ـ 167 .
(2) الكافي : 3 / 398 ح 7 ، وعنه وسائل الشيعة : 3 / 493 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 10 .
(3) تقدمت في ص 508 .
(الصفحة 517)
الذي يتعقّبه الجواب بوقوع التذكية ، فمرجع ذلك إلى عدم اعتبار الإخبار بوقوعها في جواز الأكل من اللحوم . وكذا يدلّ على عدم اعتبار السؤال صحيحتا البزنطي ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمة ، فلابدّ من حمل هذه الرواية على الاستحباب .
المقام السادس : الظاهر أنّ يد المسلم المبحوث عنها في المقام أخصّ من اليد التي تكون أمارة على الملكية ، لا من جهة اعتبار إسلام ذي اليد هنا دونه ، بل من جهة أنّه لا يعتبر في الأمارية هناك سوى أصل ثبوت اليد وكون المال تحت استيلاء ذي اليد وسلطنته ، ولا يلزم فيه أن يتصرّف فيه تصرّفاً متوقّفاً على الملكية .
وأمّا في المقام : فيعتبر في اليد التصرّف المتوقّف على التذكية . وذلك ; لأنّ مورد أخبار الاشتراء من السوق وجود هذا التصرّف ; لأنّ نفس المعرضية للبيع كاشفة عن معاملته معه معاملة المذكّى ; لعدم صدورها من المسلم إذا كانت ميتة ، وكذلك رواية إسماعيل ظاهرة في تعليق الجواز على رؤية الصلاة فيه ، فمجرّد كونه تحت يد المسلم أو استعماله في شيء ما ولو لم يكن مقتضى الدواعي النوعية طهارته ـ مثل أن يتّخذ ظرفاً للنجاسة ـ لا دليل على جواز المعاملة معه معاملة المذكّى .
والظاهر أنّه لا فرق في هذا المقام بين ما إذا قلنا بأنّ يد المسلم أمارة على التذكية شرعاً ، أو قلنا بأنّ المجعول في السوق هو الأصل ، كما لا يخفى .
المقام السابع : أنّ اعتبار يد المسلم هل يكون بنحو الإطلاق ، حتى فيما لو علم بمسبوقيتها بيد الكافر ، بل وبعدم فحص المسلم ; لكونه ممّن لا يبالي بكونه من ميتة أو مذكّى ، أو يكون اعتباره في خصوص ما إذا لم يكن كذلك ; سواء علم بالمسبوقية بيد مسلم آخر ، أم لم تعلم الحالة السّابقة ، وجهان بل قولان ، إختار المحقّق النائيني (قدس سره) بعد قوله بالأمارية وجماعة الثاني(1) ; نظراً إلى منع الإطلاق في
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 178 ـ 179 ، العروة الوثقى : 1 / 130 ـ 131 طبع مؤسّسة النشر الإسلامي .
(الصفحة 518)
دليل الاعتبار ، لا من جهة اللفظ ولا من ناحية ترك الاستفصال :
أمّا الأوّل : فلكونها قضايا خارجية وردت في محلّ الحاجة ; وهي الجواب عمّا وقع عنه السؤال من الأيدي والأسواق الخارجية في تلك الأزمنة ، وليست من قبيل القضايا الحقيقية التي حكم فيها بالأفراد مطلقاً ولو كانت مقدّرة الوجود غير محقّقة ، ومن المعلوم أنّ مثل ذلك لا إطلاق لها ، ولذا لا تكون متعارفة في العلوم ، ولا يكون شأن العلوم هو البحث عنها ; لكونها في قوّة الجزئية ، وإن كانت مسوّرة بكلمة «كلّ» مثل : كلّ من في البلد مات .
وأمّا الثاني : فلأنّ منشأ الشك في كون المأخوذ مذكّى هو غلبة العامّة على أسواق المسلمين ، لا كون أيديهم مسبوقة بأيدي الكفّار ; إذ لم يكن جلب الجلود من بلاد الشرك معمولا في ذلك الزمان ، وإنّما هو أمر حدث في هذه الأعصار ، فهذه الجهة مغفول عنها بالكلية عند أذهان السّائلين ، وفي مثله لا مجال لترك الاستفصال وجعله دليلا على الإطلاق ; لظهور الحال .
ويمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى منع كون أدلّة اعتبار السّوق بأجمعها قضايا خارجية ، فإنّ مثل حكم الإمام (عليه السلام) في رواية الفضلاء المتقدّمة بجواز الأكل إذا كان ذلك في سوق المسلمين قضيّة حقيقيّة يكون موضوعها سوق المسلم أعمّ من الأفراد المتحقّقة والمقدّرة ، ولذا لا نحتاج في التمسك به إلى دليل الاشتراك من ضرورة أو إجماع ـ بأنّه لو سلّم كون ذلك على نحو القضايا الخارجية ، نقول : منشأ الشك في كون المأخوذ مذكّى لا ينحصر بغلبة العامّة على أسواق المسلمين ، بل كما اعترف به قبل ذلك ربما كان المنشأ اختلاط أهل الذمّة بالمسلمين من اليهود والنصارى وغيرهما المقيمين في البلاد الإسلامية .
ومن الواضح أنّ هذه الجهة لا تكون بمثابة موجبة للغفلة عنها ، خصوصاً مع التصريح في رواية إسماعيل المتقدّمة ، بأنّه إذا «رأيتم المشركين يبيعون . . .» حيث