(الصفحة 120)
يدفعها عدم كون لفظ الضمان مذكوراً في الرواية ، بل هو مستفاد من كلمة «على» ، ولا فرق في طريق الاستفادة بينه وبين الماليّات ، مع أنّ اختصاص الضمان بالماليّات أوّل الكلام ، ولذا يقال : إنّ الطبيب ضامن ، وبالجملة : لو سلّم كون الضمان ظاهراً في الماليّات فلا نسلّم أنّ العهدة ترادفه في ذلك .
ولكن يرد على أصل القول أنّ دفع البدل إذا كان حكماً شرعياً مستفاداً من غير الأمر بالأداء ، يحتاج ثبوته إلى دليل شرعيّ ، وهو مفقود في المقام غير ما رواه وهب بن وهب أبو البختري ، عن الصادق (عليه السلام) : من استعار عبداً لقوم آخرين ، فهو له ضامن ، ومن استعار حرّاً ، صغيراً ضمن(1) . وهذا مع ضعف سنده ; لكون وهب من أكذب البريّة وعامّياً ، غير معمول به ، بل غير ظاهر المراد ; لمنافاته للإجماع على عدم ثبوت الضمان في العارية(2) .
والجواب عن هذا الأمر : أنّه ـ بعد تسليم صدق اليد والاستيلاء على الحرّ ، وصدق الضمان بالإضافة إلى الإنسان أيضاً كالاُمور الماليّة ، ويدلّ عليه ضمان الطبيب المفروض في الروايات(3) ، وفي الفقه في أواخر كتاب الإجارة(4) ، وكذا تدلّ عليه رواية وهب وإن لم تكن معتبرة بالإضافة إلى الحكم المذكور فيها ، وهو ثبوت الضمان في الفقرتين ، لكن أصل التعبير بالضمان فيها مع كون الراوي عارفاً بلغة
- (1) اُنظر الكافي : 5 / 302 ح 2 ، تهذيب الأحكام : 7 / 185 ح 814، الاستبصار : 3 / 125 ح 445 ، قرب الإسناد : 146 ح 527 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 94 ، كتاب العارية ب 1 ح 11 ، وج 29 / 246 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 12 ح 2 ، وأخرجه في البحار : 104 / 259 ح 3 عن قرب الإسناد .
(2) كتاب الغصب للمحقق الرشتي : 13 ـ 14 .
(3) الكافي : 7 / 364 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 234 ح 925 ، وعنهما وسائل الشيعة : 29 / 260 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 24 ح 1 .
(4) راجع قواعد الأحكام : 2 / 305 ، جامع المقاصد : 7 / 268 ، مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 72 وتفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الإجارة : 629 ـ 630 .
(الصفحة 121)
العرب ، يدلّ على صحّة هذا الاستعمال ـ لابدّ وأن يكون هناك رافع للضمان وموجب لخروج الضامن عن العهدة .
ودعوى مغايرة العهدة للضمان كما في كلامه ، مدفوعة بعدم المغايرة ، بناءً على ما ذكرنا في معنى الضمان ، والرافع للضمان على ما يستفاد من حديث «على اليد» ليس إلاّ الأداء ، فكما أنّ أداء المثل أو القيمة رافع لضمان العين وإن لم يكونا أداءً للعين ، كذلك أداء الدية في ضمان الإنسان .
وبالجملة : الذي تدلّ عليه رواية وهب هو نفس ثبوت الضمان . وأمّا أنّه بماذا يتحقّق الأداء ، فلا دلالة لها عليه ، ولا حاجة إلى الدلالة أصلا ; فإنّه في كلّ مورد يتحقّق الضمان لا يكون الرافع إلاّ الأداء الحقيقي أو الحكمي ، واشتمال حديث «على اليد» على الغاية وتعرّضه لها ، لا يدلّ على خروج بعض موارد الضمان ، كما لا يخفى .
فالإنصاف أنّه على تقدير تسليم صدق الاستيلاء واليد في الحرّ لا يكون التعرّض لغائيّة الأداء موجباً لقصر الحكم بالضمان على غير الحرّ .
الأمر الثالث من الاُمور المذكورة : أنّ المتبادر من الموصول هو المال بنفسه أو بقرينة قوله : «تؤدّي» ; لأنّ الأداء إذا نسب إلى الأفعال كالصلاة تمّ معناه بدون المفعول بواسطة الجارّ ، وأمّا إذا اُضيف إلى الأعيان والاُمور التي ليست بأموال ، فيحتاج إلى المفعول الثاني بواسطة «إلى» ، ومن الواضح أنّ المؤدّى إليه في المغصوب هو الذي يكون مالكاً للمؤدّى أو مستحقّاً له ، وشيء من الأمرين لا يتصوّر في مثل الحرّ ; إذ ليس له مالك ولا مستحقّ حتّى يؤدّي إليه ، فلا يتصوّر القول بأنّه يجب ردّ الحرّ المغصوب ـ خصوصاً إذا كان كبيراً ـ إلى مالكه أو مستحقّه ; إذ لا مستحقّ له شرعاً ، وإن كان له وارث ; إذ الوارث وارث لمورّثه لا مستحق له .
ويرد عليه : أنّه مع فرض موت الحرّ في يد الآخذ لا مجال للإشكال المذكور ;
(الصفحة 122)
لأنّه يصير كتلف المال المغصوب ، حيث إنّه يجب أداء قيمته إلى من يستحقّها ; وهو الوارث في المقام ، فالدّية يؤدّيها إلى الوارث كأداء القيمة إلى المالك في المقيس عليه .
كما أنّه لو فرض كون الحرّ اجيراً للغير بمنفعته الخاصّة ، أو بجميع منافعه ـ بحيث كان الغير مالكاً لمنفعته أو منافعه بسبب الإجارة ـ لا مجال للإشكال في عدم تحقّق المؤدّى إليه في هذه الصورة ، فإنّها تصير كالدار المستأجرة المغصوبة من المستأجر ، حيث إنّه يجب ردّها إلى المستأجر المالك لمنفعتها ; إنّما الإشكال في خصوص صورة الحياة وعدم كونه أجيراً للغير بالنحو المذكور ، وفي هذه الصورة إذا كان الحرّ صغيراً غير مستقلّ في الإرادة والتعيّش يكون المتفاهم العرفي من الأداء بالإضافة إليه هو أداؤه إلى وليّه ، ومن يكون متبوعاً له في الإرادة والتعيّش ، ولا مجال للزوم كون المؤدّى إليه مالكاً أو مستحقّاً ، بل اللازم ثبوت المؤدّى إليه ، وإن كان بالنحو الذي ذكرنا .
وأمّا إذا كان الحرّ كبيراً ، فمضافاً إلى أنّه لا مجال للتفصيل في الحرّ المأخوذ بين الصّور التي ذكرناها ، وبين هذه الصورة ، وهو يكفي في الحكم بالضمان هنا ; لعدم الفصل ، نقول : لا مانع من كون المراد من الأداء هو الإرجاع إلى ما كان عليه من المحلّ والشرائط الخاصّة ، ولا ملازمة بين افتقار الأداء في الحديث إلى المؤدّى إليه ، وبين كون المؤدّى إليه هو الشخص ، فضلا عن أن يكون مالكاً أو مستحقّاً ، فتدبّر .
وبالجملة : لا نرى في مقابل إطلاق الحديث الشامل للحرّ ما يوجب تقييده بغيره وإخراجه منه ، فهو بمقتضى الحديث مضمون ، ويترتّب على الاستيلاء عليه ، الضمان الذي لازمه وجوب أداء ديته إلى الوارث في صورة التلف ، وأداء نفسه في صورة العدم .
ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرنا شمول الرواية لمثل الخمر والخنزير ـ مع عدم ثبوت
(الصفحة 123)
المالية والملكية بالنسبة إليهما ـ إذا قلنا بثبوت حقّ الاختصاص والأولوية شرعاً فيهما ، فيصير مثل العين المرهونة المتعلّقة لحقّ المرتهن ، هذا كلّه بالنسبة إلى عين الحرّ .
وأمّا منافعها ، فإن استوفاها الآخذ ، فلا إشكال في ضمانها عليه ، وإن لم يستوفها فكذلك ، بناءً على ما اخترناه(1) من شمول الحديث لأخذ الحرّ ; لأنّ المنافع حينئذ تكون مأخوذة بتبع العين ، ولازمه الضمان فيها ، والاستيفاء لا دخالة له في الحكم بالضمان ، كما ذكرنا(2) في مثل منافع العبد والدار ونحوهما من الماليّات ، وقد عرفت(3) أنّه في المنافع المتضادّة غير القابلة للاجتماع في الوجود ـ كالكتابة والخياطة ـ يكون الضمان متعلقاً بالجميع ، وعدم مساعدة العرف على ذلك لا يمنع عن اقتضاء الدليل وشموله لجميع المنافع ، كما لا يخفى .
وأمّا من الجهة الرابعة : وهي شمول الموصول للأوقاف وعدمه ، فنقول : لا ينبغي الإشكال في الشمول بالنسبة إلى الوقف الخاصّ ، من دون فرق بين أن نقول ببقاء العين الموقوفة بعد الوقف على ملك مالكها ، غاية الأمر صيرورتها متعلّقة لحقّ الموقوف عليهم ، وبين أن نقول بدخولها في ملك الموقوف عليهم وخروجها عن ملك الواقف ، وبين أن نقول بما اختاره سيّدنا المحقّق الاُستاذ البروجردي(4) ـ قدّس سرّه الشريف ـ من خروجها عن ملك الواقف وصيرورتها على رؤوس الموقوف عليهم ، بحيث قدّر منافعها عليهم من دون دخول أصلها في ملكهم ، ويؤيّده تعدّي الوقف بـ «على» فيقال : وقف عليه ، فكأنّ المال الموقوف «سحاب» جعله المالك على رؤوس الموقوف عليهم ، حتى يمطر عليهم .
- (1) في ص 116 ـ 117 .
(2 ، 3) في ص 114 و 116 .
(4) كتاب الغصب للمحقّق البروجردي : 163.
(الصفحة 124)
وكيف كان ، فلا فرق في شمول الموصول بين الأقوال المختلفة في باب حقيقة الوقف ، فإنّه لا أقلّ من كونها متعلّقة لحقّ الموقوف عليهم ، وهو يكفي في الشمول . هذا في الوقف الخاصّ .
وأمّا الأوقاف العامّة ، كالمساجد والمشاعر والرباط والمدارس والطرق ، فقد ذكر المحقّق الرّشتي ـ بعد أن حكى عن الدروس قوله : لو ثبت يده على مثل المساجد والمشاعر والرباط والمدارس ضمن العين والمنفعة(1) ، وقال : لم نظفر بمتعرّض لحكمها غيره ـ في تحقيق المسألة كلاماً ملخّصه(2) : أنّها ـ أي الأوقاف العامّة ـ على ثلاثة أقسام :
الأوّل : ما لم تتطرّق إليه أيدي الملاّك منذ خلق ، ولا يكون له اختصاص بآدميّ بوجه من وجوه الاختصاص الملكي ، بل طرأ الحبس الشرعي على إباحته الأصلية ، كأرض عرفات ومكّة والمشاعر ، والظاهر أنّ حكمه حكم الحرّ في عدم كون اليد عليه موجبة للضمان .
الثاني : ما تطرّقت إليه يد التملّك ثم عرض المخرج عن الملكية ، وهذا أيضاً على قسمين : قسم ترجع منافعه إلى بعض الانتفاعات الدنيوية ، كالسكنى والركوب والتطرّق ونحوها ، وقسم ترجع منافعه إلى الانتفاعات الاُخرويّة ، كالصلاة والذكر وأمثالهما من العبادات في مثل المساجد . ثمّ ذكر ثبوت الضمان في القسم الأوّل بالنسبة إلى العين والمنفعة معاً ، بل نفى الإشكال عن الضمان فيه بالنسبة إليهما ، ولم يتعرّض للقسم الثاني أصلا ، بل طوّل البحث في أنّ المنفعة المضمونة في القسم الأوّل هل ترجع إلى الموقوف عليهم ، أو تصرف على نفس العين؟
أقول : أمّا كون حكم القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة هو حكم الحرّ ، فلا
- (1) الدروس الشرعية : 3 / 106 .
(2) كتاب الغصب للمحقّق الرشتي : 116 ـ 117 .