(الصفحة 13)
«إنّ النظريّة العامّة هي غير القاعدة الكليّة في الفقه الإسلامي ، فإنّ هذه هي بمثابة ضوابط بالنسبة إلى تلك النظريّات . . . وقد ترد قاعدة بين القواعد الفقهيّة ضابطاً خاصّاً بناحية من نواحي تلك النظريّات ، فقاعدة العبرة في العقود للمقاصد والمعاني مثلا ليست سوى ضابط في ناحية مخصوصة من أصل نظريّة العقد»(1) .
فيستفاد من عباراتهم أنّ الفرق بينهما في نقطتين :
النقطة الاُولى : أنّ القاعدة الفقهيّة متضمّنة للحكم الشرعي الفقهي في حدّ ذاتها ، بخلاف النظريّة العامّة ، فإنّها غير متضمّنة للحكم الفقهي كنظريّة الملك ونظرية الفسخ .النقطة الثانية : أنّ القاعدة الفقهيّة غير مشتملة على الأركان والشرائط ، بخلاف النظريّة العامّة .
هذا ، والذي ينبغي أن يقال : إنّ وجود الفرق بينهما أيضاً ممّا لا ينكر ، إلاّ أنّ الصحيح في مقام الفرق أن يقال : إنّ النظريّة العامّة هي المباحث المرتبطة ببعض الموضوعات الرائجة في الأبواب المختلفة من الفقه ، والدخيلة في كثير من الفروعات المتشتّتة المتفرّقة ، وتكون كالمبنى والأساس للمباحث الاُخر ; كالبحث عن العرف وتعريفه ومدى دخالته في الأحكام ، والبحث عن الحكم وحقيقته وأقسامه ، والبحث عن الملك والفرق بينه وبين الحكم ، فالنظريّة العامّة مشتملة على قضايا متشتّتة وليست قضيّة واحدة ، بخلاف القاعدة الفقهيّة ، وعمومية النظريّة باعتبار ارتباط الموضوع بأبواب مختلفة من جهة ، وبسعة البحث عن جميع شؤونه من جهة اُخرى .
- (1) اُنظر المدخل الفقهي العام : 1 / 235 ـ 236 و ج 2 / 947 .
(الصفحة 14)
فمثلا : نظريّة الحكم لا يرتبط بباب واحد وليست بقضيّة واحدة ، بل يبحث فيها عن الحكم وشرائطه والقواعد المرتبطة به والأقسام المتصوّرة فيه ، فإنّهم لمّا رأوا أنّ لعنوان الحكم دخلا أساسيّاً في كثير من المباحث الفقهية والاُصولية ، وجدوا من اللازم البحث عنه مستقلاًّ وجمع الاُمور المرتبطة به في بحث واحد ، ومن هنا يتّضح أنّ النظريّة العامّة ليست مختصّة بالبحث عن عنوان بنظر الفقه والفقيه ، بل يشمل ما إذا كان الموضوع دخيلا في علوم متعدّدة ، فإنّ البحث عن الحكم مرتبط بالفقه ، كما أنّه مرتبط بالاُصول والكلام أيضاً .تتميم : قد تكون النظريّة العامّة مشتملة على عدّة قواعد من قواعد الفقه ، كنظرية العرف ، فإنّها مشتملة على قاعدة «العادة محكّمة» وقاعدة «استعمال الناس حجّة يجب العمل به» .الجهة الرابعة : في الفرق بين القاعدة الفقهيّة والقاعدة الاُصولية .والبحث في هذه الجهة يقع في مقامين :المقام الأوّل : في الفرق بينهما بنظر العامّة :فقد ذكروا للفرق بينهما وجوهاً خمسة ، وأوّل من فرّق بينهما ـ على ما قيل(1)ـ هو شهاب الدين القرافي في كتابه المسمّى بالفروق(2) .الوجه الأوّل : أنّ الموضوع في القواعد الاُصولية هو الأدلّة والأحكام ، فإنّ القاعدة الاُصولية حدّ وسط بين الأدلّة والأحكام ، ويستنبط بها الأحكام من أدلّتها ، بينما أنّ الموضوع في القواعد الفقهيّة هو فعل المكلّف .الوجه الثاني : أنّ القواعد الاُصوليّة كلّية ، بخلاف القواعد الفقهيّة ، فإنّها أغلبيّة .
- (1) القائل هو النووي في القواعد الفقهيّة : 1 / 67 .
(2) الفروق : 1 / 5 ـ 6 ، خطبة المصنّف .
(الصفحة 15)
الوجه الثالث : أنّ القواعد الاُصولية آلة لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، بخلاف القواعد الفقهيّة ، فإنّها عبارة عن حكم الجزئيّات المتشابهة المشتركة في علّة واحدة .الوجه الرابع : أنّ القواعد الفقهيّة متأخّرة عن الفروع في الوجود الذهني والواقعي ; لأنّها جمع أشتات وربط بينهما . وأمّا القواعد الاُصوليّة فإنّها متقدّمة على الفروع ; لتوقّف الاستنباط عليها .الوجه الخامس : أنّ القواعد الاُصوليّة اُمور استنباطية والأحكام تستنبط منها بخلاف القواعد الفقهيّة ، فإنّها اُمور تطبيقيّة والفروع مندرجة تحتها(1) .ويرد على الأوّل: أنّ الموضوع في بعض القواعد الفقهيّة ليس فعل المكلّف كقاعدة «لا ضرر» ، فإنّ الموضوع فيه هو الحكم الضرري بناءً على تفسير المشهور .
وعلى الثاني : أنّا قلنا سابقاً(2) : إنّ الاستثناء في القواعد الفقهيّة لا يدلّ على الغالبيّة ، ولا ملازمة بين الاستثناء وبين كون القاعدة أغلبية .المقام الثاني : في الفرق بينهما بنظر الإماميّة.
فنقول : يستفاد من كلمات الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم وجوه ستّة .الوجه الأوّل : ما يستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم(3) وتبعه المحقّق النائيني(4) من أنّ نتيجة المسألة الاُصولية نافعة للمجتهد فقط ، بخلاف القاعدة الفقهيّة ، فإنّها نافعة للمقلّد أيضاً ، وبعبارة اُخرى : إعمال القاعدة الفقهيّة مشترك
- (1) القواعد الفقهية للندوي : 68 ـ 69 مفصّلا .
(2) في ص 9 ـ 10 .
(3) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 18 ـ 19 .
(4) فوائد الاُصول : 4 / 309 ـ 310 .
(الصفحة 16)
بين المجتهد والمقلّد .وقد أورد عليه المحقّق الخوئي(1) : بأنّا نسلّم كون النتيجة في المسألة الاُصولية نافعة بحال المجتهد فقط ، ولكن لا نسلّم اشتراك النتيجة بين المجتهد والمقلّد في القاعدة الفقهيّة ، فمثلا أنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» من أيّ طريق يعلم المقلّد أنّ البيع مثلا من العقود الّتي يكون في صحيحها الضمان؟ ومثلا قاعدة «الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما خالف كتاب الله» فمن أيّ سبيل يتوجّه المقلّد أنّ هذا الشرط هل هو موافق للكتاب أو مخالف له؟والظاهر عدم ورود الإشكال ; لأنّ المقصود من كون النتيجة نافعة للمقلّد ، أنّه قادر على التطبيق ، ومعنى هذا أنّ المقلّد بعد السؤال والفحص عن أنّ البيع من العقود الّتي يكون في صحيحها الضمان ، يقدر على تطبيق القاعدة ويحكم بأنّ في فاسدها أيضاً الضمان .
وبعبارة اُخرى : أ نّه (قدس سره) يعتقد بأنّ القواعد الفقهيّة من باب تطبيق المضامين ، ومن الواضح أنّ التطبيق غير مختصّ بالمجتهد .
الوجه الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) (2) من أنّ القواعد الاُصوليّة متضمّنة للأحكام الكليّة الّتي لا ربط لها بالعمل بلا واسطة ، بخلاف القاعدة الفقهية ; فإنّها وإن كانت قد تكون متضمّنة للحكم الكلّي ، إلاّ أنّها تصلح لاستفادة الأحكام الجزئيّة منها في الموارد الجزئية ، فمثلا قاعدة «ما يضمن» تكون صالحة لاستفادة الضمان منها في البيع الشخصي المعيّن الفاسد ، وبعبارة اُخرى : أنّ الفرق بينهما من باب الفرق بين الكليّة ـ بمعنى عدم التعلّق بالعمل بلا واسطة ـ والجزئيّة ، بمعنى التعلّق بالعمل بلا واسطة .
- (1) محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 13 ـ 14 .
(2) فوائد الاُصول : 1 / 19 و ج 4 / 309 .
(الصفحة 17)
وفيه : أنّ اللازم بيان الفرق بين القاعدة الاُصولية والفقهيّة ، وما ذكره من الجزئيّة شامل للمسألة الفقهيّة أيضاً ، وبعبارة اُخرى : لسنا في مقام الفرق بين القاعدة الاُصوليّة والفقهيّة فقط ، بل في مقام الملاك لكون القاعدة فقهيّة ، وما ذكره جار في المسألة الفقهيّة ، مع أنّها ليست بقاعدة فقهية ، فتدبّر .
هذا مع تفسير الكليّة والجزئيّة بالمعنى الّذي ذكر على خلاف ما هو الظاهر منهما ، مضافاً إلى أنّ بعض المسائل الاُصوليّة قد تكون صالحاً للاستفادة الأحكام الجزئيّة كالاستصحاب ، فتأمّل .
الوجه الثالث : ما ذهب إليه المحقّق الخوئي (قدس سره) (1) من أنّ استفادة الأحكام الشرعيّة من المسألة الاُصولية يكون على نحو التوسيط والاستنباط ، بخلاف القاعدة الفقهيّة ، فإنّ الأحكام الشرعيّة تستفاد منها على نحو التطبيق أي تطبيق الكلّي على الجزئي .
وأشكل عليه الشهيد الصدر (قدس سره) (2) بإشكالين :
الإشكال الأوّل : أنّ مسألة الاستنباط موجودة في بعض القواعد الفقهيّة ولا تختصّ بالقواعد الاُصوليّة ، ولم يذكر (قدس سره) له مثالا .
الإشكال الثاني : لو كان ملاك الفرق بينهما من هذه الجهة للزم أن يكون الخلاف بينهما ناشئاً من اختلاف كيفيّة طرح البحث في قاعدة ، فمثلا قاعدة أنّ «النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد» لو طرحت بعنوان البحث عن الاقتضاء لكان البطلان مستنبطاً من الاقتضاء ، وأمّا لو صيغت بأنّه هل العبادة المنهيّ عنها باطلة أم لا؟ فتأتي مسألة التطبيق ، فهذا الإيراد يدلّنا على أنّ الفرق الجوهري بينهما شيء آخر ، والاستنباط والتطبيق يكونان من آثاره .
- (1) محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 11 .
(2) بحوث في علم الاُصول : 1 / 22 .