(الصفحة 155)
الوجه في رجوعه هو أنّ السّابق اشتغلت ذمّته له بالبدل قبل اللاّحق ، فإذا حصل المال في يد اللاّحق فقد ضمن شيئاً له بدل ، فهذا الضمان يرجع إلى ضمان واحد من البدل والمبدل على سبيل البدل ; إذ لا يُعقل ضمان المبدل معيّناً من دون البدل ، وإلاّ خرج بدله عن كونه بدلا ، فما يدفعه الثاني فإنّما هو تدارك لما استقرّ تداركه في ذمّة الأوّل ، بخلاف ما يدفعه الأوّل ; فإنّه تدارك نفس العين معيّناً ; إذ لم يحدث له تدارك آخر بعد ، فإن أدّاه إلى المالك سقط تدارك الأوّل له .
ولا يجوز دفعه إلى الأوّل قبل دفع الأوّل إلى المالك ; لأنّه من باب الغرامة والتدارك ، فلا اشتغال للذمّة قبل حصول التدارك ، وليس من قبيل العوض لما في ذمّة الأوّل ، فحال الأوّل مع الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنّه لا يستحق الدفع إليه إلاّ بعد الأداء .
والحاصل : أنّ من تلف المال في يده ضامن لأحد الشخصين على البدل من المالك ومن سبقه في اليد ، فيشتغل ذمّته إمّا بتدارك العين ، وإمّا بتدارك ما تُداركها ، وهذا اشتغال شخص واحد بشيئين لشخصين على البدل ، كما كان في الأيدي المتعاقبة اشتغال ذمّة أشخاص على البدل بشيء واحد لشخص واحد(1) .
واستشكل عليه السيّد الطباطبائي في حاشية المكاسب :
أوّلا : بأنّ كون العين حين ضمان اللاّحق لها متصفة بكونها ذات بدل لا يوجب ضمانه للبدل أيضاً ، فإنّ سبب الضمان لم يتحقّق بالنسبة إلى البدل الذي هو في ذمّة السابق ; إذ لم يثبت البدل في يد اللاّحق كما ثبت نفس العين . ودعوى كونه من توابع العين كما ترى ; إذ ليس هذا من شؤون العين كالمنافع والنماءات حتى يكتفى بقبض نفس العين في قبضه .
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 508 ـ 509 .
(الصفحة 156)
وثانياً : بأنّا لو سلّمنا ذلك كان مقتضاه ضمان البدل أيضاً لمالك العين لا للسّابق ; فإنّ البدل الذي في ذمّة السابق ملك لمالك العين ، فمقتضى الضمان هو أن يكون بدل البدل أيضاً للمالك ، ولا وجه لكونه لمن عليه البدل .
وثالثاً : بأنّه لو فرض أنّ العين بعد ما صارت في يد اللاّحق رجعت إلى السابق ثانياً وتلفت في يده ، كان مقتضى ما ذكره هو جواز رجوع السابق إلى اللاّحق ، مع أنّ العين قد تلفت في يده ; وذلك لأنّه يصدق على اللاّحق أنّه ضمن شيئاً له بدل ، فكان مقتضى ما ذكره هو ضمانه ، إمّا للمالك بنفس العين أو للسابق ببدلها ، مع أنّ المسلّم خلاف ذلك ; فإنّ تلف العين قد كان بيد السابق ، فكيف يجوز له الرجوع إلى اللاّحق ، إلى آخر ما ذكره من الايرادات السّبعة(1) .
ولكن عمدة ما يرد على الشيخ (قدس سره) بملاحظة ما ذكرنا في معنى «على اليد» أنّ ما على اليد وعلى عهدتها هي نفس العين في جميع الحالات وبالإضافة إلى جميع الأيادي المتعاقبة ، من دون فرق بين حال البقاء وبين حال التلف ، وكذا بين اليد السابقة واليد اللاحقة ، والانتقال إلى البدل إنّما هو في مرحلة الأداء الذي له مراتب ، فالثابت على اليد بمقتضى حديثه هي نفس العين مطلقاً ، وعليه : فالتفكيك بين ضمان السابق وبين ضمان اللاّحق لا وجه له ، مع أنّ نسبة الحديث إليهما على السّواء ، كما اعترف به في الإيراد على صاحب الجواهر (قدس سره) .
وإن كان نظره (قدس سره) إلى الطولية التي عرفتها ، فقد مرّ الجواب عنها أيضاً ، فراجع(2) .
ومنها : ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) في حاشيته على المكاسب ممّا لفظه : وأمّا حديث جواز رجوع اليد السّابقة إلى اللاّحقة لو رجع إليها المالك ، المستلزم لكون
- (1) حاشية المكاسب للسيد اليزدي : 2 / 311 ـ 312 .
(2) في ص 152 ـ 153 .
(الصفحة 157)
قرار ضمان التالف على من تلف عنده ، مع المساوات فيما هو سبب الضمان ، فهو أيضاً من آثار حدوث سبب ضمان ما كان في ضمان الآخر لواحد آخر ، وأحكامه عند العرف ، ويؤيّده الاعتبار ، ولم يردع عنه في الأخبار ، فلابدّ من الالتزام به شرعاً ، كما هو الحال في جلّ أحكام الضّمان ، حيث إنّه لا وجه له إلاّ الثبوت عرفاً ، وعدم الردع عنه شرعاً ، وكشف ذلك عن إمضاء الشارع فيما إذا اُطلق دليل الضمان ، فتدبّر جيّداً»(1) .
وعبارته وإن كانت ظاهرة في الطولية ، إلاّ أنّ هذه الطولية غير الطوليّة المتقدّمة التي منعناها ، فإنّ هذه الطولية مرجعها إلى السبق واللحوق فقط ، لا إلى كون المضمونيّة للأوّل داخلة في دائرة ضمان الثاني ، كما لا يخفى .
ومنها : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) في مباحث كتاب الغصب على ما قرّره بعض الأعاظم من تلامذته ; فإنّه بعد أن ذكر أنّ مفاد «على اليد» الضمان والتعهّد الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بـ «عهده دارى» وليس مفاده اشتغال الذمّة بشيء ; فإنّ الضمان اعتبار من اعتبارات العقلاء يعتبرونه للعين حتى في حال وجودها ، قال :
يمكن أن يكون الوجه في المسألة ـ أي مسألة جواز رجوع السابق إلى اللاّحق ـ أنّ السابق وإن حكم عليه بالضمان من جهة صدور الغصب منه ، ولكن كان متمكّناً حين وجود العين من الخروج عن العهدة بأداء العين إلى مالكه ، من دون أن يصير متضرّراً بسبب ذلك ، وبعد أن أخذها منه اليد اللاّحقة لزمه المثل أو القيمة ، فصارت هي الباعثة لتضرّره ، فيستحق بذلك الرجوع عليها .
وبعبارة اُخرى : العين المغصوبة وإن لم تكن ملكاً لليد السّابقة ، ولكنّها كانت بحيث يستحقّ أن يستخلص من الضمان بسبب أدائها ، فكأنّ العين كانت متعلّقة
- (1) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .
(الصفحة 158)
لحقّ السابق ، وحديث «على اليد . . .» كما يدلّ على ضمان العين ، كذلك يدلّ على ضمانها لمن كان هذه متعلّقة لحقّه ، نظير العين المرهونة إذا غصبها غاصب ، فإنّه يضمن للراهن نفس العين وللمرتهن متعلّق حقّه .
وبالجملة : فلو كانت العقلاء يحكمون باستحقاق السابق للرجوع إلى اللاّحق ، فلعلّه كانت من جهة أنّهم يرون للسابق حقّاً متعلقاً بالعين ، وهو عبارة عن استحقاقه لأن يخرج نفسه من الضمان بسبب هذه العين ، من دون أن يرد عليه ضرر ، والضرر المتوجّه عليه من المثل أو القيمة إنّما هو من جهة غصب اللاّحق ، فيرجع عليه بذلك . قال : ولعلّ هذا مراد الشيخ (قدس سره) من عبارته المتقدّمة أيضاً ذلك(1) .
ويرد عليه أوّلا : عدم جريانه في جميع فروض المسألة ; لأنّ من جملتها ما إذا كان وقوع العين في يد اللاّحق بأذن من السّابق ، مع الإعلام بكونه غصباً مأخوذاً عدواناً وعلى سبيل غير مشروع ; فإنّه لا يكون الضرر المتوجّه عليه في هذه الصّورة إلاّ من قبل نفسه ; لأنّ وقوعه في يد اللاّحق كان بإذن منه .
وثانياً : عدم كون الغصب موجباً لتعلّق حق الغاصب بالعين المغصوبة ، وكون أدائها الواجب موجباً لسقوط ضمانه لا يستلزم تعلّق حقّ بها أصلا ، والتنظير بالعين المرهونة إذا غصبها غاصب في غير محلّه .
ومنها : ما أفاده بعض الأعلام على ما في تقريراته في البيع ; من أنّ الغاصب الأوّل يملك بأدائه التالف المعدوم كملك المعدوم في باب الخيارات ، فكما أنّ في موارد الإتلاف إذا غصب مثلا أحد مال الغير فأتلفه لا شبهة أنّ للمالك أن يرجع إلى المتلف إذا أراد ويأخذ منه بدل ماله ، وما بقي من ماله من الرضاض والكسور فهو للضامن ، وليس للمالك أن يدّعي كون الرضاض له ، وإلاّ يلزم الجمع بين
- (1) اُنظر كتاب الغصب للمحقّق البروجردي : 151 ـ 154 .
(الصفحة 159)
العوض ، والمعوّض ، كما أ نّه لو كان للأجنبي فهو خلاف البداهة ، فيكون للضامن ، فكذلك في المقام يكون التالف للغاصب الأوّل بالمعاوضة القهرية ، ونتيجتها جواز الرجوع ببدله إلى من تلف في يده .
نعم ، قد يكون اعتبار الملكية لغواً ، كما إذا كان الغاصب واحداً فتلف عنده المال فأخذ المالك منه ، فاعتبار ملكية التالف هنا لغو ، وليس التلف بمجرّده مانعاً عن اعتبار الملكية في المقام ; لما عرفت نظيره في باب الخيارات ، وبالجملة : رجوع السابق إلى اللاّحق ، إنّما هو مقتضى السّيرة العقلائية القطعيّة كما هو واضح(1) .
وأنت خبير بأنّه إن كان مراده الإتكاء على نفس السيرة العقلائية فهو يرجع إلى كلام المحقّق الخراساني (قدس سره) ; من كون رجوع السابق إلى اللاّحق من الآثار العقلائية للضمان ، والأحكام العرفية الثابتة له(2) . وإن كان مراده توجيه السّيرة وبيان الوجه لها كما هو ظاهر صدر العبارة ، فيمكن المناقشة في ذلك بعدم كون اعتبار المعدوم ملكاً ممّا يساعده العقلاء مطلقاً ، والمراد بملك المعدوم في باب الخيار إن كان هو : أنّ التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له ، فلا مجال له ; لما قد اشتهر في وجهه من أنّه تنفسخ المعاملة آنّاً ما قبل التلف وتدخل العين في ملك من لا خيار له ، ثمّ يقع التلف في ملكه لوجود الدليل عليه .
وإن كان المراد هو التلف في يد من ليس له الخيار ، كما إذا كان تلف المبيع في يد المشتري في زمن خيار البائع ، فإنّه بعد ما فسخ البائع ينتقل المبيع التالف إلى ملكه بمقتضى الفسخ ، فيرجع إلى بدله من المثل أو القيمة لتعذّر ردّ عينه ، فالأمر وإن كان كذلك من جهة الرجوع إلى البدل ، إلاّ أنّه لم يعلم كون وجهه اعتبار التالف ملكاً للبائع الفاسخ ، بل من أحكام الفسخ عند العقلاء والشارع أنّه إذا كان الفسخ مع
- (1) مصباح الفقاهة : 4 / 383 ـ 384 .
(2) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .