(الصفحة 16)
بين المجتهد والمقلّد .وقد أورد عليه المحقّق الخوئي(1) : بأنّا نسلّم كون النتيجة في المسألة الاُصولية نافعة بحال المجتهد فقط ، ولكن لا نسلّم اشتراك النتيجة بين المجتهد والمقلّد في القاعدة الفقهيّة ، فمثلا أنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» من أيّ طريق يعلم المقلّد أنّ البيع مثلا من العقود الّتي يكون في صحيحها الضمان؟ ومثلا قاعدة «الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما خالف كتاب الله» فمن أيّ سبيل يتوجّه المقلّد أنّ هذا الشرط هل هو موافق للكتاب أو مخالف له؟والظاهر عدم ورود الإشكال ; لأنّ المقصود من كون النتيجة نافعة للمقلّد ، أنّه قادر على التطبيق ، ومعنى هذا أنّ المقلّد بعد السؤال والفحص عن أنّ البيع من العقود الّتي يكون في صحيحها الضمان ، يقدر على تطبيق القاعدة ويحكم بأنّ في فاسدها أيضاً الضمان .
وبعبارة اُخرى : أ نّه (قدس سره) يعتقد بأنّ القواعد الفقهيّة من باب تطبيق المضامين ، ومن الواضح أنّ التطبيق غير مختصّ بالمجتهد .
الوجه الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) (2) من أنّ القواعد الاُصوليّة متضمّنة للأحكام الكليّة الّتي لا ربط لها بالعمل بلا واسطة ، بخلاف القاعدة الفقهية ; فإنّها وإن كانت قد تكون متضمّنة للحكم الكلّي ، إلاّ أنّها تصلح لاستفادة الأحكام الجزئيّة منها في الموارد الجزئية ، فمثلا قاعدة «ما يضمن» تكون صالحة لاستفادة الضمان منها في البيع الشخصي المعيّن الفاسد ، وبعبارة اُخرى : أنّ الفرق بينهما من باب الفرق بين الكليّة ـ بمعنى عدم التعلّق بالعمل بلا واسطة ـ والجزئيّة ، بمعنى التعلّق بالعمل بلا واسطة .
- (1) محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 13 ـ 14 .
(2) فوائد الاُصول : 1 / 19 و ج 4 / 309 .
(الصفحة 17)
وفيه : أنّ اللازم بيان الفرق بين القاعدة الاُصولية والفقهيّة ، وما ذكره من الجزئيّة شامل للمسألة الفقهيّة أيضاً ، وبعبارة اُخرى : لسنا في مقام الفرق بين القاعدة الاُصوليّة والفقهيّة فقط ، بل في مقام الملاك لكون القاعدة فقهيّة ، وما ذكره جار في المسألة الفقهيّة ، مع أنّها ليست بقاعدة فقهية ، فتدبّر .
هذا مع تفسير الكليّة والجزئيّة بالمعنى الّذي ذكر على خلاف ما هو الظاهر منهما ، مضافاً إلى أنّ بعض المسائل الاُصوليّة قد تكون صالحاً للاستفادة الأحكام الجزئيّة كالاستصحاب ، فتأمّل .
الوجه الثالث : ما ذهب إليه المحقّق الخوئي (قدس سره) (1) من أنّ استفادة الأحكام الشرعيّة من المسألة الاُصولية يكون على نحو التوسيط والاستنباط ، بخلاف القاعدة الفقهيّة ، فإنّ الأحكام الشرعيّة تستفاد منها على نحو التطبيق أي تطبيق الكلّي على الجزئي .
وأشكل عليه الشهيد الصدر (قدس سره) (2) بإشكالين :
الإشكال الأوّل : أنّ مسألة الاستنباط موجودة في بعض القواعد الفقهيّة ولا تختصّ بالقواعد الاُصوليّة ، ولم يذكر (قدس سره) له مثالا .
الإشكال الثاني : لو كان ملاك الفرق بينهما من هذه الجهة للزم أن يكون الخلاف بينهما ناشئاً من اختلاف كيفيّة طرح البحث في قاعدة ، فمثلا قاعدة أنّ «النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد» لو طرحت بعنوان البحث عن الاقتضاء لكان البطلان مستنبطاً من الاقتضاء ، وأمّا لو صيغت بأنّه هل العبادة المنهيّ عنها باطلة أم لا؟ فتأتي مسألة التطبيق ، فهذا الإيراد يدلّنا على أنّ الفرق الجوهري بينهما شيء آخر ، والاستنباط والتطبيق يكونان من آثاره .
- (1) محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 11 .
(2) بحوث في علم الاُصول : 1 / 22 .
(الصفحة 18)
فتبيّن أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ .
الوجه الرابع : أنّ القاعدة الاُصوليّة يتمّ الاستعانة بها في جميع أبواب الفقه ، بخلاف القاعدة الفقهيّة .
وفيه : أنّ بعض القواعد الفقهيّة مرتبط بجميع أبواب الفقه ، فمثلا قاعدة أنّ «علل الشرع معرّفات» بناءً على كونها قاعدة فقهيّة ، وأيضاً قاعدة «لا ضرر» تجري في العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات . نعم ، بعض القواعد الفقهيّة مختصّ بباب واحد .
الوجه الخامس : ما يستفاد من كلمات السيّد المحقّق الإمام الخميني (قدس سره) (1) من أنّ القواعد الاُصولية آليّة ، بخلاف القاعدة الفقهيّة ، فإنّها استقلاليّة .
وهذا الفرق متين جدّاً ، ولكن لا يستفاد منه الملاك في كون القاعدة فقهيّة ، فتأمّل .
الوجه السادس : أنّ الاستنتاج في القاعدة الاُصولية غير متوقّف على القاعدة الفقهيّة ، بخلافها ، فإنّها متوقّفة على القاعدة الاُصوليّة(2) .
هذا ، وهنا فروق أيضاً بينهما من جهة المصدر والمدرك فيهما ، وسيأتي في الجهة السابعة .
الجهة الخامسة : في تقسيم القواعد الفقهيّة ، فهنا تقسيمان :
التقسيم الأوّل : ما ذكره الشهيد الأوّل ، فإنّه قسّم القواعد الفقهيّة لا باعتبار كلّ باب ، بل باعتبار الموضوعات ، وإليك ما ذكره ملخّصاً :
أ : القواعد المرتبطة بالاجتهاد .
ب : القواعد الجارية في المناكحات .
- (1) تهذيب الاُصول : 1 / 5 ـ 6 .
(2) الاُصول العامّة للفقه المقارن : 43 .
(الصفحة 19)
ج : القواعد الموجودة في القضاء .
د : قواعد باب الجنايات .
هـ : قواعد العبادات .
و : قواعد العقود .
ز : قواعد الإرث .
ح : قواعد الحدود .
ط : قواعد الديات .
ي : قواعد القصاص .
فهذا التقسيم باعتبار الأبواب والموضوعات ، والظاهر أنّه لم يكن بصدد التقسيم الصناعي للقواعد الفقهيّة ، وإنّما استقصى القواعد المختلفة في الأبواب المتعدّدة ، ولاحظها ونظّمها باعتبار الموضوعات المختلفة ، وبناءً على ذلك لم تكن منحصرة فيما ذكره ، بل كلّما ازداد التتبّع والاستقصاء ازدادت القواعد والموضوعات .
التقسيم الثاني : ما ذكره الشهيد الصدر (قدس سره) (1) فإنّه قسّمها إلى خمسة أقسام :
القسم الأوّل : ما ليس بقاعدة بمعناها الفنيّ كقاعدة «لا ضرر» فإنّ القاعدة متقوّمة بشيئين : الأوّل : أن تكون أمراً كلّياً ، والثاني : وجود نكتة ثبوتيّة واحدة ترجع إلى حقيقة واحدة ; وهي في الأحكام الشرعية والقواعد المجعولة الشرعيّة عبارة عن وحدة الجعل ; كقاعدة «على اليد» وحجيّة خبر الثقة ، وفي المجعولات غير الشرعيّة ; كقاعدة «الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ذيه» عبارة عن وحدة نفس الأمرية ، أمّا مثل قاعدة «لا ضرر» فإنّها مجموعة من التشريعات العدميّة جمعت في عبارة واحدة ، فبما أنّها غير راجعة إلى نكتة واحدة وجعل واحد ،
- (1) بحوث في علم الاُصول : 1 / 24 ـ 26 .
(الصفحة 20)
بل كلّها في عرض واحد فليست بقاعدة بالمعنى الفني لها ، وهذا نظير أن يقال : كلّ حكم ثبت للرجل في المعاملات فهو ثابت للمرأة أيضاً ، فهو تجميع جعول متعدّدة تحت تعبير ثان .
القسم الثاني : ما يكون قاعدة بمعناها الفني مع دلالتها في نفسها على حكم واقعي كلّي مجعول بجعل واحد ; كقاعدة «ما يضمن» الّتي ترجع إلى ضمان اليد ، فهي قاعدة دالّة على نكتة ثبوتية واحدة تدلّ بنفسها على الحكم الشرعي الواقعي ، ولا تكون طريقاً لإثبات الحكم الشرعي ، ومن هذه القاعدة يستفاد الضمان في البيع الفاسد ، فهو غير مجعول مستقلاًّ ، بل حصّة من القاعدة الكلّية ، ومن هذا البيان يتّضح أنّ القاعدة الاُصوليّة تقع في طريق إثبات الجعل الشرعي ، بخلاف القاعدة الفقهية .
القسم الثالث : ما يكون قاعدة مع دلالتها على الحكم الظاهري ، وبها يحرز صغرى الحكم الشرعي ، كقاعدة الفراغ ، فهذا القسم كالسابق لا يقع في طريق إثبات الجعل الشرعي ، بل يقع في طريق اثبات مصداق متعلّق الجعل .
القسم الرابع : ما يكون قاعدة مع دلالتها على الحكم الظاهري ، وبها نتوصّل إلى الحجّة على أصل الجعل ; كقاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة .
القسم الخامس : ما يكون قاعدة فقهيّة استدلالية يستند الفقيه إليها في الاستنباط ; كقاعدة ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد وإلى النجاسة ، والفرق بين القواعد الاُصولية وهذين القسمين من القواعد الفقهية عدم اختصاص القواعد الاُصولية بباب فقهي معيّن ، بخلافهما .
فهذا التقسيم مع قطع النظر عن بعض المناقشات الواردة على بعض الأقسام ، إنّما هو باعتبار الحكم الشرعي الّذي تدلّ عليه القاعدة ، فالقاعدة الفقهيّة إمّا أن تدلّ على الحكم الشرعي الواقعي ، أو تدلّ على الحكم الشرعي الظاهري . وأيضاً