(الصفحة 172)
رواية ابن محرز المتقدّمة .
وقد ورد فيها تعليل الحكم بقوله (عليه السلام) : «خذوا منهم ما يأخذون منكم» ، وظاهره أنّه يعامل معهم المعاملة بالمثل ، فإذا كان الميت عارفاً والورثة غير عارفين ، حيث يأخذون للعصبة نصيبهم ويحكمون بثبوت الإرث لهم ، ففي عكس هذه الصورة يؤخذ للعصبة العارفين نصيبهم ويحكم بثبوت الإرث لهم ، وإن لم يكن ذلك موافقاً لمعتقده ، وفي بعض أخبار الطلاق تعليل الحكم بأنّه «لا تترك المرأة بغير زوج» ، وفيه إشارة إلى أنّه لولا هذه القاعدة يلزم أن تترك المرأة بلا زوج ; لفرض بطلان الطلاق عندنا .
ثمّ إنّ الظاهر أنّ المخاطب في قوله (عليه السلام) : «ألزموهم» ، وكذا في قوله (عليه السلام) : «خذوا» ، في الروايات المتقدّمة ، هم الطائفة المحقّة الإثنى عشرية القائلون بإمامة الأئـمّة المعصومين (عليهم السلام) بأجمعهم ، كما أنّ الظاهر أنّ مرجع ضمير الجمع في قوله (عليه السلام) : «ما ألزموه أنفسهم» ، وكذا في قوله (عليه السلام) : «ما يأخذون» ، هم المسلمون من سائر الطوائف غير الإماميّة الإثنى عشريّة ، ولا يشمل أرباب سائر الأديان والملل .
وعليه : فلو فرض اختلاف سائر الطوائف غير الإماميّة في حكم إلزاميّ ، فهذا خارج عن دائرة القاعدة ، كما أنّه لو طلّق ذميّ زوجته بطلاق صحيح عنده ، ولكنّه لا يكون صحيحاً عندنا ، فلا تشمله القاعدة .
نعم ، يمكن التمسك للشمول بما ورد في رواية محمد بن مسلم المتقدّمة من قوله (عليه السلام) : «تجوز على أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون» ، أو بالتعليل المشار إليه آنفاً ; وهو قوله (عليه السلام) : «لا تترك المرأة بغير زوج» ; لجريان هذه العلّة في الكافر المطلق أيضاً ، أو بما ورد في رواية ابن طاووس المتقدّمة من قوله (عليه السلام) : «من دان بدين قوم لزمته أحكامهم» .
إلاّ أن يقال : إنّ المراد بالدين في رواية محمد بن مسلم ليس هو المذهب ، بل
(الصفحة 173)
المراد به أصل الدين كالإسلام ، وعليه فالرّواية لا تكون من روايات قاعدة الإلزام المعروفة ، ولكنّه يبعّده استعمال الدين في رواية ابن طاووس مع كون موردها المخالف لا غير المسلم ، وعليه : فهاتان الروايتان مفادهما العموم .
وأمّا التعليل فيمكن المناقشة فيه ، بعد ملاحظة أنّ انتفاء القاعدة والحكم بعدم جواز التزويج بالمطلقة الكذائية في مذهبنا ، لا يستلزم أن تترك المرأة بلا زوج ; لجواز أن تتزوّج بالمخالف ، خصوصاً مع كثرتهم وقلّة الطائفة المحقّة ; فإنّها حينئذ تتزوّج من القائل بصحة هذا الطلاق ، وعليه : فلا تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل ، بل تكون حكمة للحكم ، والحكمة لا يدور مدارها الحكم إثباتاً ونفياً .
ولكن عرفت عموم الرّوايتين وشمولهما بالإضافة إلى غير المسلم ، وكذا المخالف بالإضافة إلى المالك ، وعليه : فلا مانع من أخذ الثمن من الكافر ولو كان المبيع غير قابل للبيع في الإسلام ; لالتزامهم بالملكية وصحة المعاملة وانتقال الثمن إلى البائع ، فيتحقق حينئذ طريق إلى صحّة المعاملات الواقعة بين الحكومة الإسلامية والحكومات الكافرة في الأشياء التي لا سبيل إلى مبايعتها في الشريعة ، وتكون باطلة فيها ، كما لا يخفى .
الجهة الثالثة : لا شبهة في أنّ مفاد قاعدة الإلزام التي مدركها الروايات المتقدّمة ، هو جواز الأخذ ممّن دان بدين بمقتضى ما التزم به في دينه ، فيجوز مثلا التزويج بالمطلّقة ثلاثاً وإن كان هذا الطلاق باطلا عندنا ، لكنّ البحث في أنّ ما تدلّ عليه هذه الروايات هل هو الحكم الواقعي ، غاية الأمر كونه ثانويّاً ، أو أنّ مفادها الإباحة الصّرفة ، والفرق أنّه على الأوّل يكون في مثال الطلاق اعتقاد الزوج المخالف بصحّة طلاقه وكونه موجباً لتحقق الفراق ، موجباً لجعل الصحّة واقعاً ، ويكون هذا العنوان عنواناً ثانويّاً موجباً لانقلاب الحكم الواقعي في حقّه ، نظير الانقلاب في موارد الاضطرار ; فإنّه لو اضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر يكون
(الصفحة 174)
الاضطرار موجباً لحليته واقعاً .
وأمّا على الثاني فالواقع لا يتبدلّ بسبب اعتقاد المخالف بالصّحة ، بل الطلاق فاسد بالنسبة إليه أيضاً ، وتكون المطلقة باقية على الزّوجية بعد ، غاية الأمر أنّ الشارع أباح لنا التزويج بتلك المرأة التي طلّقت كذلك .
أقول : ينبغي أوّلا : ملاحظة أنّ المراد بالإباحة هل هي الإباحة الظاهرية ، كما هو ظاهر مقابلتها للحكم الواقعي ، أو أ نّ المراد بها الإباحة الواقعية؟ الظاهر أنّه لا محيص عن الحكم بكون هذه الإباحة على تقديرها إِباحة واقعية ، ضرورة أنّ التزويج بتلك المرأة التي وقع عليها ذلك الطلاق حلال واقعاً لا ظاهراً ، كما في قوله (عليه السلام) : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه(1) .
وثانياً : أنّ الإباحة ممّا لا أساس له ; لأنّ مرجعها إلى إِباحة تزويج المزوّجة ; لأنّ المفروض بطلان طلاقها وكونها في حبالة الزوج المطلّق بعد ، وهذا لا مجال لإسناده إلى متشرّع عاديّ فضلا عن الإمام المعصوم (عليه السلام) ، فالإباحة ممّا لا معنى له ، وإن كان ظاهر العبارة المحكية عن المرحوم الشيخ حسن آل كاشف الغطاء في كتابه «أنوار الفقاهة» ذلك ; إِذ قال :
فظهر ممّا ذكرنا أنّ طلاق المخالفين يمضي عليهم وإن كان فاسداً عندنا ، وهذا الحكم عامّ لكلّ صور الطلاق على غير السنّة ; سواء تعلّق بمؤمنة أو بمخالفة ; فإنّه يحكم بوقوعه على وفق مذهبه بالنسبة إلينا ، وإن كان فاسداً في الواقع ، وكذا بالنسبة إليهم ، ولا منافاة بين البطلان ، وبين إجراء حكم الصحة بالنسبة إلينا لطفاً منه ، فهي وإن كانت زوجة لهم ولكنّها حلال لنا وحرام عليهم ، أو يقال : هو
- (1) الكافي : 5 / 313 ح 40 ، تهذيب الأحكام : 7 / 226 ح 989 ، وعنهما وسائل الشيعة : 17 / 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 .
(الصفحة 175)
صحيح من وجه وفاسد من وجه آخر»(1) .
وقد نسب ذلك إلى صاحب الجواهر أيضاً ; حيث قال بعد نقل جملة من الروايات الواردة في المقام : إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على التوسعة لنا في أمرهم وأمر غيرهم من أهل الأديان الباطلة(2) . نظراً إلى أنّ التعبير بالتوسعة ظاهر في الإباحة ، مع أنّه ممنوع ; لأنّ هذا التعبير ناظر إلى علّة التشريع ، والغرض أنّ هذا الحكم منّة من الشارع وتوسعة من قبله .
وكيف كان ، فالإباحة الراجعة إلى بقاء المطلّقة بعد التزويج بها على الزوجية السّابقة ـ لفرض كون طلاقها باطلا ، غاية الأمر كونها مباحة مع كونها ذات بعل شرعاً ـ لا ينبغي توهّمه بوجه ، واللازم توجيه العبارة المتقدّمة بما سيأتي وإن كان ظاهرها ما تقدّم .
وبعد وضوح فساد الإباحة الكذائية ، ووضوح عدم كون المرأة في حال التزويج ـ بالموافق الشيعي ـ باقية على الزوجية السّابقة ، وبالنتيجة قد تحقّق الفراق لا محالة ، يقع الكلام في أنّ فراقها من زوجها هل تحقّق عقيب طلاقها ، أو أنّ فراقها من زوجها تحقّق بالتزويج بها من الموافق ، بحيث كان العقد الثاني مشتملا على جهتين سلبية وايجابية ، السلبية بلحاظ حصول الفراق بالنسبة إلى الزوج الأوّل المخالف ،والايجابية بلحاظ حصول الزوجية بالنسبة إلى الزوج الثاني الموافق؟
ربما يقال : بأنّ ما تفيده الروايات هو الحكم الواقعي الثانوي الذي مرجعه إلى صحة الطلاق وحصول الفراق عقيبه ; ففي مكاتبة الهمداني نرى الإمام الجواد أباجعفرالثاني (عليه السلام) يقول : وإن كان ممّن لا يتولاّنا ولا يقول بقولنا فاختلعها منه ، فإنّه
- (1) لم نعثر على الكتاب عاجلاً .
(2) جواهر الكلام : 32 / 89 .
(الصفحة 176)
إنّما نوى الفراق بعينه(1) ، وفي رواية عبد الله بن طاووس يقول الإمام الرضا (عليه السلام) مثل ذلك(2) . وفي رواية هيثم بن أبي مسروق قال (عليه السلام) : أما إنّه مقيم على حرام(3) .
وهكذا الحال في رواية عبد الرحمن البصري يقول الإمام أبو عبدالله (عليه السلام) : تتزوّج هذه المرأة ، لا تترك بغير زوج(4) ; فإنّ التعبير بالاختلاع لا يناسب بقاء تلك المرأة على زوجيّتها وأنّ الطّلاق غير واقع ، وكلّ ما في البين هو إباحة التزوّج بها ، وهكذا قوله (عليه السلام) : «فإنّه إنّما نوى الفراق» الظاهر في أنّ حصول الفراق مستند إلى نيّته وقصده ، وكذا قوله (عليه السلام) : «لا تترك بغير زوج» ; فإنّ مفاده أنّ عدم جواز التزوّج بهامستلزم لأن تترك بلازوج ،وهذالايلائم البقاءعلى الزوجية الاُولى بوجه .
وأصرح من الجميع قوله (عليه السلام) : «أما إنّه مقيم على حرام» ; فإنّه مع فرض عدم حصول البينونة والفراق بمجرّد الطلاق ، كيف يكون مقيماً على حرام؟ وحمل الحرمة على حرمة التجرّي ـ الصادر منه باعتقاد كونها مطلّقة ـ في غاية البعد . ويؤيّد ما ذكر دعوى ابن إدريس الإجماع عليه ، حيث قال : قد روى أصحابنا روايات متظاهرة بينهم متناصرة ، وأجمعوا عليها قولا وعملا ، أنّه إن كان المطلّق مخالفاً وكان ممّن يعتقد وقوع الطلاق الثلاث لزمه ذلك ، ووقعت الفرقة به ، وإنّما لا تقع الفرقة إذا كان الرجل معتقداً للحقّ(5) .
كما أنّه ربما يقال كما قاله المحقّق البجنوردي (قدس سره) بالثاني ، حيث قال : إنّ أمرهم (عليهم السلام) بتزويجهم ، أو أخذ المال في مورد التعصيب ، أو المعاملات الفاسدة والضمانات غير الصحيحة ـ مع أنّ لهم الولاية العامّة ـ يدلّ على أنّهم (عليهم السلام) جعلوا نفس العقد عليهنّ طلاقاً لهنّ ، وتزويجاً للزوج الثاني ، قال : وبناءً على ما ذكرنا
- (1) تقدم في ص 168 .
(2 ـ 4) تقدّمت في ص 169 .
(5) السرائر : 2 / 685 .