(الصفحة 189)
الإلزام الجارية في حق الشيعة الحلّية ; نظراً إلى دينه ، وأنّ من دان بدين قوم لزمته أحكامهم ، وكذا يجوز للموافق التزويج بالحاج المخالف التارك لطواف النساء على مذهبه ; لهذه القاعدة ، إلاّ أن يقال بعدم جريانها إلاّ في موارد يكون إلزام المخالف ضرراً عليه ، ولا يجري في غير موارد الضّرر ; لأنّ كلمة الإلزام ظاهرة فيه ، وفي المقام يكون الإلزام بنفعه دون ضرره .
وعليه : فلابدّ لحلّ مشكلة حجّ المخالف من التطرّق إلى غير قاعدة الإلزام ، فنقول :
يمكن أن يكون الوجه فيه جريان سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) المختلطين بالعامّة اختلاطاً كثيراً ، خصوصاً مع كثرتهم ومعاملتهم مع حجّاجهم المعاملة مع حجّاج الشيعة في ما يرتبط بمسألة النّساء ، وحكمهم ببقاء نسائهم على الزوجية بعد الحج ، وجواز العقد على مرأة جديدة ، ولم يظهر من الأئمة (عليهم السلام) الردع عن ذلك ، مع كون هذه الجهة بمرأى ومسمع منهم ، فسكوتهم دليل على الرّضا ، ونتيجة ذلك امضاء حجّهم ولو كان فاقداً لطواف النساء ، ولا ارتباط له بقاعدة الإلزام أصلا ; لما ذكرنا في وجهه . وحكمهم (عليهم السلام) باعتبار طواف النساء في الحج(1) ، ومدخليته في حلّية النساء بقاءً وحدوثاً لا يكون ردعاً عن هذه السيرة العملية ; لاحتياج الردع في مثلها إلى التصريح ، كما لا يخفى .
ويمكن أن يكون الوجه فيه : أنّهم حيث يعتبرون في الحجّ طواف الوداع ، ويقول الأغلب منهم : بوجوبه ولزوم الإتيان به ، يكون ذلك الطواف بحكم طواف النساء في التأثير ، ويدلّ عليه خبر إسحاق : لو لا ما منّ الله به على الناس من طواف الوداع لرجعوا إلى منازلهم ، ولا ينبغي لهم أن يمسّوا نساءهم (2) . بل عن علي
- (1) وسائل الشيعة : 13 / 298 ، كتاب الحج ، أبواب الطواف ب 2 .
(2) الكافي : 4 / 513 ح 3 ، وسائل الشيعة : 13 / 299 كتاب الحج ، أبواب الطواف ب 2 ح 3 .
(الصفحة 190)
ابن بابويه الفتوى به في الشيعي الناسي لطواف النساء الآتي بطواف الوداع(1) ، واحتمال أن يكون المراد من الرواية أنّ الإتّفاق على فعل طواف الوداع سبب لتمكّن الشيعة من طواف النساء ; إذ لولاه لزمته التقية بتركه غالباً ، في غاية البعد ، بل الظاهر أنّ المراد بالناس فيه هم العامّة غير القائلين بطواف النساء ، ولا مجال لاستفادة حكم الشيعي من الرواية إذا كان كذلك بعد كون موردها المخالفين .
ومنها : الشفعة بالجوار ، فعلى ما حكاه ابن رشد في بدايته يقول أهل العراق بأنّ الشفعة مرتّبة ، فأولى الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم ، ثمّ الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصّحن شركة ، ثمّ الجار الملاصق . وقال أهل المدينة : لا شفعة للجار ولا للشريك المقاسم(2) ، وقال المحقّق في كتاب الشفعة من الشرائع : المقصد الثاني في الشفيع ; وهو كلّ شريك بحصّة مشاعة قادر على الثمن ، ويشترط فيه الإسلام إذا كان المشتري مسلماً ، فلا تثبت الشفعة للجار بالجوار ، ولا فيما ما قسّم ومُيّز إلاّ مع الشركة في طريقه أو نهره(3) .
وربما يقال في تطبيق القاعدة على هذا المورد : إنّه لو كان لسنّي جار شيعي ، وأراد السنّي بيع داره ، فللشيعي أن يأخذ بالشفعة وأخذ الدّار منه ; إلزاماً له بما يدين به ، وإن كان هو غير معتقد بثبوت حقّ الشفعة للجار .
أقول : حيث إنّ الشفعة حقّ للشريك أو الجار على تقديره على المشترى لا على البائع ، ضرورة أنّ حقّ الشفعة يرجع إلى تسلّط صاحبه على أخذ المال من يد المشتري بغير رضاه ، على خلاف قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، ولذا اشترط المحقق في عبارته المتقدمة إسلام الشفيع إذا كان المشتري مسلماً ، فلابدّ في إجراء
- (1) حكى عنه في مختلف الشيعة : 4 / 217 مسألة 170 .
(2) بداية المجتهد : 2 / 255 .
(3) شرائع الإسلام : 3 / 254 ـ 255 .
(الصفحة 191)
قاعدة الإلزام من ملاحظة حال المشتري ، وأنّه هل يكون مخالفاً أو موافقاً ، فإذا كان الأوّل يحكم بمقتضى تديّنه بثبوت حقّ الشفعة للجار بناءً على تبعيّته لأهل العراق القائلين بثبوت ذلك الحق له في المرتبة الثالثة ، وإن كان البائع شيعيّاً . وإذا كان الثاني فلا مجال لإعمال حق الشفعة بالإضافة إليه ، وإن كان البائع سنيّاً .
وبالجملة : لابدّ في إجراء قاعدة الإلزام من ملاحظة حال المشتري دون البائع ، كما عرفته في القول المذكور .
ومنها : أبواب الضمانات ; سواء كان الضمان ضماناً واقعياً وهو الضمان بالمثل أو القيمة ، أم كان ضماناً معاوضيّاً وهو المعبّر عنه بالضمان بالمسمّى ، وتطبيق القاعدة على هذه الأبواب بأنّه في كلّ مورد يكون الضمان بأحد الوجهين ثابتاً باعتقاد المخالف فمقتضاها الحكم بثبوته وإن لم يكن عليه ضمان عندنا وعلى اعتقادنا ، فيجوز إلزامه بذلك على طبق القاعدة ، وأخذ المثل أو القيمة أو المسمّى منه ، والتصرّف فيه بأيّ نحو شاء وإن كان الحكم الأوّلي غير ذلك ، وموارد هذا القسم كثيرة ، ولا بأس بالإشارة إلى جملة منها :
1 ـ ما لو باع حيواناً من المخالف وقبضه المشتري ، ثمّ تلف في يده في أيّام خيار الحيوان الثابت للمشتري ، فالإماميّة قائلون بأنّ التلف من البائع ; لقاعدة التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له(1) ، والمخالفون قائلون : بأنّ التلف من المشتري(2) ; لإنكارهم هذه القاعدة وقولهم : إنّ التلف ممّن وقع في يده وهو المشتري .
وعليه : فمقتضى قاعدة الإلزام الجارية في البائع الشيعي عدم وجوب ردّ الثمن إليه ; لأنّ مقتضى اعتقاد المشتري ذلك وإن كان مذهب الإمامية لزوم ردّ الثمن بناءً
- (1) المراسم العلوية :177 ، الخلاف : 3/39 مسألة 55 ، شرائع الإسلام : 2/ 23 ـ 24، تذكرة الفقهاء : 11/181 .
(2) النتف في الفتاوى : 280 ـ 281 ، المبسوط للسرخسي : 13 / 44 ، شرح فتح القدير : 5 / 503 ـ 511 ، اللباب في شرح الكتاب : 1 / 238 ـ 239 .
(الصفحة 192)
على كون مفاد قاعدة التلف المذكورة حصول الانفساخ القهري قبل التلف آناًمّا ووقوعه في ملك البائع ، فيجب عليه ردّ الثمن ; سواء كان مساوياً للمبيع قيمة أو مخالفاً له كذلك ، وسواء كان من جنسه أو من غيره ، كما هو ظاهر كلام الأصحاب ، بل صريح جماعة منهم ; كالمحقق والشهيد الثانيين(1) ، أو لزوم ردّ المثل أو قيمة المبيع بناءً على كون مفاد القاعدة مجرّد الضمان دون الانفساخ ، كما هو ظاهر بعض الكلمات ، كالشهيد في الدروس(2) .
وبالجملة : لا يجب عليه بمقتضى قاعدة الإلزام ردّ شيء إلى المشتري المخالف .
2 ـ الوديعة ، وفيها فرعان :
الأوّل ـ الوديعة المحفوظة عند من يساكن المستودع عادة ، وقيل في تطبيق القاعدة عليها ما هذه عبارته : الوديعة عندنا ليست بمضمونة مع المحافظة عليها ، من غيرفرق بين أن يحفظهاالإنسان عند ولده أو زوجته أو غيرهما ،بل عندكلّ شخص يحفظ عنده ماله عادة(3) . قال العلاّمة الحلّي (قدس سره) في تبصرته في البحث عن الوديعة : ويضمن المستودع مع التفريط لا بدونه(4) . وقال المحقّق في الشرائع في المورد نفسه : وإذااستودعوجب عليه الحفظ ،ولايلزمه دركهالوتلفت من غيرتفريط أواُخذت منه قهراً(5) . أمّا أبو حنيفة ، فقد ذهب إلى عدم وجوب الضمان لو أودعهاعندمن يساكنه من العيال ، قال في الفقه على المذاهب الأربعة : الحنفيّة قالوا : على أنّ للوديع أن يحفظ الوديعة عند من يساكنه عادة من عياله ـ إلى قوله : ـ فإذا دفع الوديعة لولده ونحوه ممّن يساكنه من عياله فهلكت عند الثاني ; فإنّ الأوّل لا يضمن ; لأنّه دفعها
- (1) جامع المقاصد : 4 / 309 ، مسالك الأفهام : 3 / 217 .
(2) الدروس الشرعية : 3 / 271 .
(3) لم نعثر عليه عاجلاً .
(4) تبصرة المتعلّمين : 109 .
(5) شرائع الإسلام : 2 / 163 .
(الصفحة 193)
لمن يصحّ أن يحفظ عنده ماله(1) . وبناءً على هذا فلو أودع حنفيّ وديعة عند شيعي ، وأودعها الشيعي عند زوجته أو من يساكنه من عياله وتلفت ، فليس للحنفي أن يطالبه بتلك الوديعة ولا بضمانها ; لأنّ الشيعي قد أودعها عند من يصحّ إيداعها عنده ، ولا شيء عليه إلزاماً له بما يدين به من عدم الضمان في هذه الصورة .
أقول : أوّلا : غير خفيّ أنّ غرض الحنفية من الكلام المنقول عنهم أنّه لا يجب على المستودع أن تكون الوديعة باقية عند نفسه ، بل الواجب عليه هو حفظها ، وله طرق ، منها : دفعها إلى الولد ونحوه ممّن يساكنه عادة ، وليس لهذا الكلام مفهوم ; وهو عدم جواز الدفع إلى غير من يساكنه عادة ، ولو كان حافظاً لها أشدّ الحفظ ، وعليه : فلا خلاف ظاهراً بين الحنفية وسائر الفرق أصلا .
وثانياً : أنّ مورد القاعدة ما لو كان نظر الشيعي مخالفاً لنظر المخالف ، ولكنّه يلزمه بمقتضى نظره الذي هو بضرره ; وفي مثال الوديعة المذكور الذي يكون المودع فيه حنفيّاً والمستودع شيعيّاً لا فرق بين النظرين ; لأنّه كما يقول الحنفية بعدم الضمان ، كذلك يقول الشيعة بذلك ; لأنّ المفروض عدم تحقق التعدّي والتفريط ، فلا مجال في مثله لإجراء القاعدة ، وبعبارة اُخرى : مجرى القاعدة ما لو كان معتقد المخالف مخالفاً للحكم الواقعي الأوّلي الثابت عندنا ، وفي المثال لا اختلاف بيننا وبينهم أصلا .
الثاني : الوديعة التي يمكن اختفاؤها ، وليست بذهب وفضّة ، ولا درهم ودينار ، ولم يشترط على المستودع الضمان ، ففيها يقول فقهاؤنا بعدم ثبوت الضمان(2) ، ولكنّهم في بعض مذاهبهم ـ على ما حكي ـ يقولون بالضمان(3) ، فإذا كان
- (1) الفقه على المذاهب الأربعة : 3 / 253 ـ 254 .
(2) الحدائق الناضرة : 25 / 403 ـ 404 ، جواهر الكلام : 27 / 102 ـ 103 .
(3) الخلاف : 4 / 171 ـ 172 مسألة 2 ، البحر الزخّار : 5 / 170 .