(الصفحة 192)
على كون مفاد قاعدة التلف المذكورة حصول الانفساخ القهري قبل التلف آناًمّا ووقوعه في ملك البائع ، فيجب عليه ردّ الثمن ; سواء كان مساوياً للمبيع قيمة أو مخالفاً له كذلك ، وسواء كان من جنسه أو من غيره ، كما هو ظاهر كلام الأصحاب ، بل صريح جماعة منهم ; كالمحقق والشهيد الثانيين(1) ، أو لزوم ردّ المثل أو قيمة المبيع بناءً على كون مفاد القاعدة مجرّد الضمان دون الانفساخ ، كما هو ظاهر بعض الكلمات ، كالشهيد في الدروس(2) .
وبالجملة : لا يجب عليه بمقتضى قاعدة الإلزام ردّ شيء إلى المشتري المخالف .
2 ـ الوديعة ، وفيها فرعان :
الأوّل ـ الوديعة المحفوظة عند من يساكن المستودع عادة ، وقيل في تطبيق القاعدة عليها ما هذه عبارته : الوديعة عندنا ليست بمضمونة مع المحافظة عليها ، من غيرفرق بين أن يحفظهاالإنسان عند ولده أو زوجته أو غيرهما ،بل عندكلّ شخص يحفظ عنده ماله عادة(3) . قال العلاّمة الحلّي (قدس سره) في تبصرته في البحث عن الوديعة : ويضمن المستودع مع التفريط لا بدونه(4) . وقال المحقّق في الشرائع في المورد نفسه : وإذااستودعوجب عليه الحفظ ،ولايلزمه دركهالوتلفت من غيرتفريط أواُخذت منه قهراً(5) . أمّا أبو حنيفة ، فقد ذهب إلى عدم وجوب الضمان لو أودعهاعندمن يساكنه من العيال ، قال في الفقه على المذاهب الأربعة : الحنفيّة قالوا : على أنّ للوديع أن يحفظ الوديعة عند من يساكنه عادة من عياله ـ إلى قوله : ـ فإذا دفع الوديعة لولده ونحوه ممّن يساكنه من عياله فهلكت عند الثاني ; فإنّ الأوّل لا يضمن ; لأنّه دفعها
- (1) جامع المقاصد : 4 / 309 ، مسالك الأفهام : 3 / 217 .
(2) الدروس الشرعية : 3 / 271 .
(3) لم نعثر عليه عاجلاً .
(4) تبصرة المتعلّمين : 109 .
(5) شرائع الإسلام : 2 / 163 .
(الصفحة 193)
لمن يصحّ أن يحفظ عنده ماله(1) . وبناءً على هذا فلو أودع حنفيّ وديعة عند شيعي ، وأودعها الشيعي عند زوجته أو من يساكنه من عياله وتلفت ، فليس للحنفي أن يطالبه بتلك الوديعة ولا بضمانها ; لأنّ الشيعي قد أودعها عند من يصحّ إيداعها عنده ، ولا شيء عليه إلزاماً له بما يدين به من عدم الضمان في هذه الصورة .
أقول : أوّلا : غير خفيّ أنّ غرض الحنفية من الكلام المنقول عنهم أنّه لا يجب على المستودع أن تكون الوديعة باقية عند نفسه ، بل الواجب عليه هو حفظها ، وله طرق ، منها : دفعها إلى الولد ونحوه ممّن يساكنه عادة ، وليس لهذا الكلام مفهوم ; وهو عدم جواز الدفع إلى غير من يساكنه عادة ، ولو كان حافظاً لها أشدّ الحفظ ، وعليه : فلا خلاف ظاهراً بين الحنفية وسائر الفرق أصلا .
وثانياً : أنّ مورد القاعدة ما لو كان نظر الشيعي مخالفاً لنظر المخالف ، ولكنّه يلزمه بمقتضى نظره الذي هو بضرره ; وفي مثال الوديعة المذكور الذي يكون المودع فيه حنفيّاً والمستودع شيعيّاً لا فرق بين النظرين ; لأنّه كما يقول الحنفية بعدم الضمان ، كذلك يقول الشيعة بذلك ; لأنّ المفروض عدم تحقق التعدّي والتفريط ، فلا مجال في مثله لإجراء القاعدة ، وبعبارة اُخرى : مجرى القاعدة ما لو كان معتقد المخالف مخالفاً للحكم الواقعي الأوّلي الثابت عندنا ، وفي المثال لا اختلاف بيننا وبينهم أصلا .
الثاني : الوديعة التي يمكن اختفاؤها ، وليست بذهب وفضّة ، ولا درهم ودينار ، ولم يشترط على المستودع الضمان ، ففيها يقول فقهاؤنا بعدم ثبوت الضمان(2) ، ولكنّهم في بعض مذاهبهم ـ على ما حكي ـ يقولون بالضمان(3) ، فإذا كان
- (1) الفقه على المذاهب الأربعة : 3 / 253 ـ 254 .
(2) الحدائق الناضرة : 25 / 403 ـ 404 ، جواهر الكلام : 27 / 102 ـ 103 .
(3) الخلاف : 4 / 171 ـ 172 مسألة 2 ، البحر الزخّار : 5 / 170 .
(الصفحة 194)
المودع إماميّاً ، والمستعودع من أهل ذلك المذهب القائل بثبوت الضمان ، يجوز للمودع أخذ المثل أو القيمة منه في صورة التلف بمقتضى قاعدة الإلزام ، وإن لم يكن هو قائلا بالضمان أصلا .
3 ـ ما لو باع شيئاً من المخالف الحنفي ، ولم يشترط خياراً لهما ، أو لخصوص المشتري ، فلو فسخ المشتري وهما بعد في المجلس ولم يتحقق التفرّق ، فللبائع الشيعي إلزامه ببقاء المعاملة وعدم صحّة هذا الفسخ ; من جهة أنّ مذهبه أنّه لا خيار في المجلس إلاّ بالشرط(1) ، فإذا لم يكن هناك شرط فلا خيار ، وإن كان مذهب البائع ثبوت خيار المجلس ولو من دون اشتراط(2) . وهكذا الحال لو كان المشتري مالكيّاً ; حيث إنّهم ينكرون خيار المجلس رأساً(3) .
أقول : قد عرفت احتمال عدم كون مثل هذا المورد مجرى القاعدة ، فإنّ مجراها ما إذا كان المخالف عاملا على طبق اعتقاده ودينه ، لا على خلافه ، ومن المعلوم أنّ الفسخ في المثال خلاف مذهبه ; حيث إنّه يرى عدم ثبوت حقّ الفسخ له أصلا .
4 ـ ما لو باع حرّاً وعبداً صفقة واحدة من حنفي ، فالإمامية قائلون بأنّ البيع صحيح بالنسبة إلى العبد ، وباطل بالإضافة إلى الحرّ(4) ، ولكنّ الحنفية قائلون بالبطلان في الجميع(5) ، فإذا كان البائع شيعيّاً وندم على بيع عبده ، يجوز له إلزامه
- (1) الخلاف : 3 / 9 مسألة 7 ، شرح فتح القدير : 5 / 464 ، عمدة القارئ شرح صحيح البخاري : 8 / 388 ، الفتاوى الهندية : 3 / 38 ـ 39 .
(2) المؤتلف من المختلف : 1 / 443 ، تلخيص المرام في معرفة الأحكام : 101 ، المهذّب البارع : 2 / 372 ، كنز الفوائد في حلّ مشكلات القواعد : 1 / 445 ـ 446 ، حاشية الإرشاد، المطبوع مع غاية المراد 2 : 95 .
(3) المقدّمات الممهّدات لابن رشد : 2 / 85 ـ 86 ، المحلّى بالآثار : 7 / 238 ، مواهب الجليل : 6 / 301 ـ 303 ، حاشية الخرشي على مختصر خليل : 5 / 453 ـ 454 ، حاشية العدوي على الخرشي : 453 ـ 454 .
(4) الخلاف : 3 / 145 مسألة 233 ، شرائع الإسلام : 2 / 15 ، كشف الرموز : 1 / 446 ، مسالك الأفهام : 3 / 163 .
(5) تبيين الحقائق : 4 / 60 ، المجموع : 9 / 371 .
(الصفحة 195)
بردّ العبد ; لاعتقاده ببطلان بيعه أيضاً وإن كان هو قائل بصحته بالنسبة إليه . ومثله ما لو باع خمراً وخلاّ ، أو شاة وخنزيراً ومثلهما .
ومنها : الرهن ، وفيه فروع كثيرة مرتبطة بقاعدة الإلزام ، ونحن نتعرّض لجملة منها :
الأوّل : قال الشيخ (قدس سره) في محكيّ كتاب الخلاف : إذا رهن عند غيره شيئاً وشرط أن يكون موضوعاً على يد عدل ، صحّ شرطه ، ثمّ(1) ذكر بعده :
لا يجوز للعدل أن يبيع الرهن إلاّ بثمن مثله حالاًّ ، ويكون من نقد البلد إذا أطلق له الإذن ، فإن شرط له جواز ذلك كان جائزاً ، وحكى عن أبي حنيفة أنّه قال : يجوز له بيعه بأقلّ من ثمن مثله وبنسيئة ، حتّى لو وكلّه في بيع ضيعة تساوي مائة ألف دينار ، فباعها بدانق نسيئة إلى ثلاثين سنة كان جائزاً(2) . وعلى هذه الفتوى لو كان الراهن حنفيّاً ، وشرط أن يكون الرهن عند عدل ، يجوز له إلزامه بمقتضى قاعدة الإلزام بصحّة البيع كذلك ، كما هو ظاهر .
الثاني : أنّ الصحيح عند الإمامية عدم ثبوت الضمان في الرّهن إلاّ مع التعدّي والتفريط(3) ; لأنّه قسم من أقسام الأمانة المالكية التي ليس فيها الضمان إلاّ في الصّورتين ، ولكن حكى الشيخ (قدس سره) في الكتاب المزبور عن أبي حنيفة : أنّ الرهن مضمون بأقّل الأمرين(4) ، وهما : الدين وقيمة العين المرهونة ، وعليه : فلو كان المرتهن حنفيّاً وتلف عنده العين المرهونة بدون تعدّ وتفريط ، يجوز إلزامه بأقلّ
- (1) الخلاف : 3 / 242 ـ 243 مسألة 40 .
(2) الخلاف : 3 / 244 مسألة 44 ، نهج الحق وكشف الصدق : 489 ، الفتاوى الهندية : 5 / 443 ، المبسوط للسرخسي : 21 / 82 ـ 84 ، المغني لابن قدامة : 4 / 393 ، اللباب في شرح الكتاب : 2 / 58 .
(3) غنية النزوع : 245 ، السرائر : 2 / 419 ، رياض المسائل : 8 / 531 ، نهج الحقّ وكشف الصدق : 489 .
(4) الخلاف : 3 / 245 مسألة 46 ، المبسوط للسرخسي : 21 / 64 ـ 65 ، الشرح الكبير : 4 / 410 ، تبيين الحقائق شرح كنوز الدقائق : 6 / 63 ـ 64 ، الهداية شرح بداية المبتدي : 4 / 468 .
(الصفحة 196)
الأمرين ; لقاعدة الإلزام ، وإن كان لا ضمان عليه عندنا في هذه الصورة .
الثالث : حكى الشيخ (قدس سره) (1) أيضاً عن أبي حنيفة : أنّ العدل لو باع الرهن لأداء الدين وقبض الثمن ، فلو تلف الثمن بعد القبض يسقط من الدين بمقدار الثمن ، وبعبارة اُخرى : يكون ثمن الرهن في ضمان المرتهن ، مع أنّه غير صحيح عندنا(2) ; لأنّه لا وجه لسقوط دين المرتهن ما لم يقبض دينه ، ولكنّ المرتهن إن كان حنفيّاً يجوز إلزامه بسقوط دينه لقاعدة الإلزام .
الرّابع : حكى الشيخ (قدس سره) (3) عن أبي حنيفة أيضاً : أنّ منفعة العين المرهونة لا تكون للراهن ولا للمرتهن ، فإذا كانت داراً مثلا لا يجوز للراهن ولا للمرتهن أن يسكنها أو يؤاجرها. وأمّا نماؤها المنفصل ، فيدخل في الرهن ، فيكون رهناً مثل أصله ، مع أنّ الصحيح عندنا(4) أنّ منفعة الرهن إنّما تكون ملكاً لمالكها ، وكذا النماء المنفصل يكون ملكاً له ، ولا يكون رهناً ، وعليه : فلو كان الراهن حنفيّاً يجوز بمقتضى القاعدة إلزامه بدخول النماء المنفصل في الرّهن ، وبعدم تصرّفه في العين المرهونة بالسكونة والإيجار .
ومنها : منافع العين المغصوبة ، فالمحكي عن أبي حنيفة المصرّح به في صحيحة أبي ولاّد المعروفة(5) ، الواردة في البغلة التي اكتراها فخالف ، أنّ الغاصب لا يضمن المنافع وإن استوفاها ، وقد ذكر في الرواية تصريحه بسقوط الكراء بمجرّد المخالفة
- (1) الخلاف : 3 / 245 ـ 246 مسألة 47 ، المبسوط للسرخسي : 21 / 81 ، المغني لابن قدامة : 4 /394 ، النتف : 2 / 374 .
(2) مسالك الأفهام : 4 / 44 .
(3) الخلاف : 3 / 251 مسألة 58 ، تبيين الحقائق : 6 / 94 ، المغني لابن قدامة : 4 / 434 ـ 435 ، المحلّى بالآثار : 6 / 368 .
(4) نهج الحقّ وكشف الصدق : 490 .
(5) تقدمت في ص 133 .