(الصفحة 210)
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّه حيث كانت القاعدة مسوقة لإفادة ملكية الإقرار في مورد ملكية الشيء لا يلائم ذلك التعبير بالملكية ، مع كون المراد بها غير معناها ، بل ما هو لازم أعمّ منها ، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد بها هي السلطنة ، وأنّ دلالتها عليها لا تكون دلالة غير ظاهرة ، خصوصاً مع ملاحظة الانفكاك بينها وبين الملكية ، كما في الصبي بالنسبة إلى تصرّفاته غير الجائزة له شرعاً ; فإنّ ملكيتها بالنسبة إلى جميع أمواله وإن كانت ثابتة ، إلاّ أنّه لا سلطان له عليها كما لا يخفى . مع أنّ القاعدة ـ على ما يستفاد من موارد استدلالات الأصحاب بها ـ مسوقة لإفادة مثل نفوذ إقرار الصبيّ في التصرفات الجائزة له ، واللازم معناها بحيث ينطبق عليها ، ولا مجال لحملها على معنى يخرج منه كثير من الموارد .
فالإنصاف أنّ جعل «ملك الإقرار» قرينة على أنّ المراد بـ«ملك الشيء» أيضاً هو السلطنة عليه لا الملكية الاصطلاحية صحيح .
نعم ، يكون هنا بحث من جهتين :
إحداهما : أنّه هل المراد بالسلطنة السلطنة الفعلية الثابتة بالفعل ، أو يعمّ السّلطنة غير الفعلية أيضاً؟ فعلى الأوّل لا يشمل الصغير ; لعدم السلطنة الفعلية له . نعم ، له سلطنة كذلك على بعض التصرفات المالية ، مثل الوصية والوقف والصّدقة ، وهي داخلة في عموم القاعدة ، والظاهر هو الوجه الأوّل ; لظهور كلمة «الملك» المساوقة هنا للسلطنة في السلطنة الفعلية ، مع أنّ لازم الوجه الثاني صحّة إقرار الصبي بغير الاُمور المذكورة من سائر التصرفات المالية ، ولا يقولون به بوجه .
ثانيتهما : أنّه هل المراد بالسّلطنة هي السلطنة المطلقة ; بأن يكون مستقلاًّ فيه لا يزاحمه أحد ، أو مجرّد القدرة على التصرف؟ فعلى الأوّل : يختصّ بالمالك والوليّ الإجباري ، وعلى الثاني : يشمل الوكيل والعبد المأذون ، والظاهر بملاحظة موارد
(الصفحة 211)
الاستدلال بالقاعدة في كلمات الأصحاب ـ رضي الله عنهم ـ هو الثاني ، فالمراد بها ليست هي السلطنة المطلقة ، بل مطلق السّلطنة كما لا يخفى .
والمراد بـ«الشيء» الذي اُضيف إليه «الملك» ، هل ما يشمل الأعيان والأفعال ، أو يختص بالأفعال فقط؟ ربما يقال بالثاني ، نظراً إلى أنّ ضمير «به» يرجع الى «الشيء» ، والظاهر عدم تحقّق الاستخدام فيه ، وحيث إنّ نفس العين الخارجيّة لا تكون قابلة لتعلّق الإقرار بها ، إلاّ باعتبار تعلّق فعل من الأفعال بها ، فمقتضى ذلك أن يكون المراد بالشيء أيضاً فعلا من الأفعال ، ويرجع المعنى إلى أنّ من ملك فعلا من الأفعال يملك الإقرار به والإخبار عنه .
ويرد عليه : أنّ الإقرار وإن لم يتعلّق بنفس العين الخارجيّة ، إلاّ أنّه لا يلزم تعلّقه بفعل من الأفعال ; فإنّه لو أقرّ ذو اليد بكون ما في يده ملكاً لزيد ، يترتّب على إقراره النفوذ والمضي ، مع أنّ الإقرار بالملكية لا يكون إقراراً بفعل من الأفعال ، ولا مجال لإخراج هذا المورد من القاعدة وإن كان داخلا في قاعدة الإقرار أيضاً ، ولا يلزم من ذلك نفوذ إقرار الصبي في جميع التصرّفات باعتبار ثبوت الملكية له بالإضافة إلى أمواله ; وذلك لأنّه وإن كان مالكاً إلاّ أنّه لا يكون له السّلطنة بالنسبة إليها ، وقد مرّ(1) أنّ المراد بالملكية هي السلطنة ، ولا سلطان له على أمواله ، وعلى ما ذكرنا فالمراد بالشيء ما يعمّ الأعيان أيضاً .
وأمّا الإقرار ، فمعناه اللّغوي هو إثبات الشيء وجعله قارّاً ، كما عرفت في قاعدة الإقرار(2) ; سواء أثبته على نفسه أو على غيره ، والظّاهر أنّ معناه الاصطلاحي أيضاً موافق للمعنى اللغوي ، غاية الأمر أنّ التخصيص بخصوص ما أثبته على نفسه ، إنّما يستفاد من إضافة كلمة «عليه» المأخوذة في دليل قاعدة
- (1) في ص 208 ـ 209 .
(2) في ص 69 ـ 70 .
(الصفحة 212)
الإقرار ، كما لا يخفى . والمراد من «ملك الإقرار» هي السّلطنة عليه ; بمعنى نفوذه ومضيّه وحجيّته ، فمفاد القاعدة : أنّ السّلطنة الفعلية على الشيء موضوعة لنفوذ إقراره بذلك الشيء واعتباره .
المقام الرّابع : ظاهر القضية الشرطية عند التجرّد عن القرينة ، أنّ الشرط علّة لترتّب الجزاء حدوثاً وبقاءً ، لا الحدوث فقط وإن زال الشرط ، وعليه : فملكية الإقرار وسلطنته إنّما هي في زمان وجود السلطنة على الشيء وتحقّقها ، فإذا زالت تنتفي السلطنة على الإقرار ، فإذا أقرّ الوليّ بعد بلوغ الصبي بأنّه باع ماله قبل البلوغ من زيد مثلا لا يمضي إقراره ; لعدم كونه مالكاً للبيع في حال الإقرار ; لفرض زوال الحجر وتحقق البلوغ ، وملكيته للبيع قبل البلوغ لا تكفي في نفوذ إقراره بعده ، كما أنّه لو أقرّ الزوج بعد انقضاء العدّة بالرجوع في حالها ، لا يترتّب على إقراره أثر ; لعدم السلطنة على الرجوع حال الإقرار .
وقد حكي عن شرائع المحقّق أنّه اختار عدم قبول إقرار المريض بالطلاق حال الصحة بالنسبة إلى الزوجة ليمنعها من الإرث(1) . وعن التحرير التنصيص على عدم سماع إقرار العبد المأذون في التجارة بعد الحجر عليه بدين يسنده إلى حالة الإذن ، وقال أيضاً : وكلّ من لا يتمكّن من الإنشاء لا ينفذ إقراره ، ولو أقرّ المريض بأنّه وهب حالة الصّحة لم ينفذ من الأصل (2) .
نعم ، يظهر من الشيخ في المبسوط(3) ومن فخرالدين في الإيضاح(4) عموم نفوذ إقرار المقرّ على ما ملكه ولو في الزمان الماضي(5) ولكنّك عرفت أنّه خلاف
- (1) شرائع الإسلام : 3 / 27 .
(2) تحرير الأحكام : 4 / 400 ـ 401 .
(3) المبسوط : 5 / 69 .
(4) إيضاح الفوائد : 2 / 55 .
(5) راجع رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 187 .
(الصفحة 213)
ظاهر القضية الشرطية عند التجرّد عن القرينة ; حيث إنّ مقتضاه مدخلية الشرط حدوثاً وبقاءً .
ولا مجال للاستناد إلى استصحاب بقاء السلطنة ـ التي كانت له حال وقوع الفعل الذي يقرّ بوقوعه في الزمان المتقدّم ـ إلى ذلك الزمان ; وذلك لتبدّل الموضوع ; حيث إنّ السّلطنة السابقة كانت في ظرف السّلطنة الفعلية على الشيء ، والمفروض انتفاؤها وزوالها . ودعوى الوحدة العرفية الكافية في جريان الاستصحاب ممنوعة جدّاً ; لوضوح الفرق عندهم بين الزوج في حال بقاء العدّة وبينه في حال الانقضاء ، وكذا سائر الموارد .
المقام الخامس : ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالته في هذه القاعدة ما ملخّصه : أنّ المراد بـ«ملك الإقرار» إذا كان أصيلا واضح ، وإن كان غير أصيل ـ كالوليّ والوكيل ـ فيحتمل اُمور :
الأوّل : السلطنة على الإقرار به ; بمعنى أنّ إقراره ماض مطلقاً ، ويكون كإقرار ذلك الغير حتى أنّه لا يسمع منه بيّنة على خلافه ، فضلا عن حلفه على عدمه . قال : وهذا المعنى وإن كان بحسب الظاهر أنسب بلفظ الإقرار ، إلاّ أنّه يكاد يقطع بعدم إرادته .
الثاني : أنّ إقراره به نافذ بالنسبة إلى الأصيل ، كنفوذ إقراره ، وإن لم يترتّب عليه جميع آثار إقراره ، فالتعبير بالإقرار من حيث إنّه لمّا كان في التصرف نائباً عنه ، وكان كالتصرف الصادر عن نفسه ، فالإخبار به كأنّه أيضاً صادر عن نفسه ، ففعله كفعله ولسانه كلسانه ، ولا فرق حينئذ بين أن تقع هناك دعوى وبين أن لا تكون ، ولا بين أن تكون الدعوى مع ذلك الأصيل أو مع ثالث ، وحينئذ فلو أخبر الوكيل بقبض الدين من الغريم ، فإخباره يكون بمنزلة البيّنة للغريم على الأصيل لو ادّعى عليه بقاء الدين .
(الصفحة 214)
الثالث : أن يراد قبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو أنكره ، فيختصّ بالتداعي الواقع بينهما ، فلا تعرّض فيه لقبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو كانت الدّعوى ترجع على ثالث ، حتى يكون كالشاهد للثالث على الأصيل .
قال : وبهذا يجمع بين حكم المحقّق والعلاّمة بتقديم قول الوكيل فيما إذا ادّعى على الموكّل إتيان ما وكِّل فيه ، معلّلين بأنّه أقرّ بما له أن يفعله(1) ، وتقديم قول الموكّل فيما إذا ادّعى الوكيل شراء العبد بمائة ، وادّعى الموكِّل شراءه بثمانين ، معلّلين بأنّ الموكِّل غارم(2) . ومعنى ذلك أنّ الوكيل لا يريد أن يدفع عن نفسه شيئاً ، وإنّما يريد أن يثبت لغيره حقّاً على موكِّله ، فهو بمنزلة الشاهد على الموكّل .
وبعبارة اُخرى : إنّما يعتبر إقراره بما له أن يفعله في ما يتعلّق بنفسه لا في ما يتعلّق بغيره (3) .
وهو وإن لم يصرّح بترجيح أحد الاحتمالين الأخيرين على الآخر ، إلاّ أنّه ربما يستظهر من كلامه ترجيح الاحتمال الأخير ، وهو اختصاص قبول قوله بما إذا كان في مقابل الأصيل ، وكان التداعي واقعاً بينهما ، والظاهر أنّه لا محيص عن ترجيحه لو كان المدرك للقاعدة هو الإجماع ; لأنّه القدر المتيقن من مفادها ، كما أنّه لو كان المدرك لها هي الدلالة الإلتزامية العرفية المتقدمة ، لكان اللازم ترجيحه أيضاً ; لعدم ثبوت الدلالة المذكورة بأزيد من هذا المقدار ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه ذكر الشيخ أيضاً أنّ المراد بـ«ملك الإقرار» يحتمل أن يراد به السلطنة المستقلّة المطلقة ; بمعنى أنّه لا يزاحمه أحد في إقراره ، وأنّه نافذ على كلّ أحد ، وأن يراد به مجرّد أنّ له الإقرار به ، فلا سلطنة مطلقة له ، فيمكن أن يزاحمه من يكون له
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 205 مسألة 3 ، قواعد الأحكام : 2 / 370 .
(2) شرائع الإسلام : 2 / 206 مسألة 6 ، قواعد الأحكام : 2 / 370 .
(3) رسائل فقهية (تراث الشيخ الأعظم) : 187 ـ 189 .