(الصفحة 230)
فقط ، وعلى أيّ حال فيستفاد من هذه الكلمة أمران :
أحدهما : كون المغرور ضامناً يجب عليه تدارك الضرر والخسارة التي أوقعه بالغير .
ثانيهما : أنّ رجوعه إلى الغارّ إنّما هو بعد تدارك الضرر ; لعدم صدق الرجوع بدونه . هذا كلّه بالنسبة إلى الكلمات المأخوذة في القاعدة .
وأمّا بلحاظ الحكم ; وهو جواز الرجوع ، فالظاهر أنّه يختلف باختلاف الاُمور المتقدّمة المذكورة في مدرك القاعدة ومستندها ; فإنّه إن كان المستند هي الرواية النبويّة المعروفة(1) ، فإن قلنا بعموم لفظ الغرور لصورة الجهل ، فمقتضى عموم الرواية وإطلاقها الشمول لهذه الصّورة أيضاً ، فالمغرور يرجع حينئذ إلى الغارّ مطلقاً ; سواء كان عالماً أو جاهلا ، وإن قلنا باختصاص الغرور بخصوص صورة العلم ، فلا مجال حينئذ للحكم بجواز الرجوع إلى الغارّ بمقتضى الرواية الواردة ، كما لا يخفى .
وإن كان المستند هو الإجماع ، فالقدر المتيقّن من معقده خصوص صورة العلم ، من دون فرق بين القول بعموم لفظ الغرور لصورة جهل الغارّ ، وبين القول باختصاصه بصورة العلم ; وذلك لأنّ الإجماع دليل لبيّ يقتصر في مورده على القدر المتيقّن ، خصوصاً مع وجود الخلاف في صورة الجهل .
وإن كان المستند هو بناء العقلاء ، فالظاهر اختصاص مورده بصورة العلم ; فإنّهم لا يرون الجاهل ضامناً بوجه ، كما يظهر من مثال الطبيب الحاذق ، بل لا يرون مثله غارّاً ومدلّساً وخادعاً أصلا .
وإن كان المستند هي الروايات الخاصّة الواردة في موارد مختلفة التي قد تقدّم بعضها ; مثل ما ورد في باب تدليس المرأة المعيوبة ، ورجوع شاهد الزور عن
(الصفحة 231)
شهادته(1) ، فالظاهر بل المصرّح به في بعضها أنّ موردها صورة العلم ، وقد صرّح في رواية أبي عبيدة المتقدّمة بأنّه إن لم يكن وليّها علم بشيء من ذلك فلا شيء عليه(2) . وكذا رواية رفاعة وبعض الروايات الاُخر(3) .
وهكذا الروايات الواردة في شاهد الزور(4) ; فإنّ موردها صورة العلم بالكذب باعتبار لفظ التوبة الواقع في بعضها ، وباعتبار طرح شهادتهم وعدم الحكم على طبقها في ما إذا لم يكن قضي على وفقها ، وكذا باعتبار الحكم بأنّه يضرب الشاهدان الحدّ ، مع أنّه لا حدّ في صورة الجهل .
نعم ، في مرسلة ابن محبوب(5) ثبوت الحدّ ; أي حدّ القذف في صورة الوهم وعدم التعمّد ، وكذا لزوم غرامة الدية ، ولكنّها من جهة الحدّ معارضة ببعض الروايات الاُخر الدالّ على عدم الثبوت ، ومن جهة غرامة الدية يكون للمورد خصوصية ; وهي خصوصية القتل ; حيث تثبت الدّية بسببه في قتل الخطأ ، مع أنّ مورد هذه الروايات لا يكون من مصاديق قاعدة الغرور ; لما عرفت من أنّ موردها ما إذا كان الرجوع أوّلا إلى المغرور ، غاية الأمر أنّ المغرور يرجع إلى الغارّ ، ومورد هذه الروايات من مصاديق قوّة السبب بالإضافة إلى المباشر ، حيث يكون الضمان ثابتاً بالإضافة إلى السبب فقط ، كما لا يخفى .
وأمّا رواية جميل بن درّاج المتقدّمة(6) الواردة في الأمة المبيعة المستحقة للغير ، فظاهرها وإن كان هو الإطلاق من جهة علم البائع باستحقاق الغير إيّاها وجهله ، خصوصاً مع كونه سوقيّاً ، إلاّ أنّه باعتبار كون البائع عالماً بخصوصيات الأمة نوعاً
- (1) في ص 221 ـ 225 .
(2 ، 3) في ص 221 .
(4 ، 5) تقدمت في ص 223 ـ 224 .
(6) في ص 224 ـ 225 .
(الصفحة 232)
لا مجال للاتّكال على هذا الإطلاق ، فتدبّر .
وإن كان المستند هو أقوائية السبب من المباشر ، فالظاهر أنّه لا فرق بين صورة علم الغارّ وجهله ، ويدلّ عليه الروايات الواردة في شهود الزور الدالّة على الضمان مع الجهل أيضاً كما عرفت . نعم ، قد مرّ منّا المناقشة في صدق الأقوائيّة في صورة الجهل(1) .
ثمّ إنّه ربما يقال بأنّ الأدلّة الواردة في باب ضمان الطبيب تدلّ على ضمان الغارّ وإن كان جاهلا(2) ، ولكنّا حقّقنا في كتاب الإجارة أنّ المستفاد من مجموع الروايات الواردة فيه هو ثبوت الضمان في ما إذا كان استناد الإتلاف والإفساد إلى الطبيب وإن لم يتحقّق منه المباشرة ، كما في التطبيب على النحو المتعارف ، فإنّ الإسناد إلى الطبيب فيه أمر عرفيّ . نعم ، لا يتحقق الاستناد في توصيف الدواء ومثله ، فلا يكون فيه ضمان(3) ، كما صرّح به سيّدنا الاُستاذ الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ في كتاب الإجارة(4) ، وعليه : فترتبط مسألة الطبيب أيضاً بمسألة أقوائيّة السبب من المباشر ، ولا ترتبط بالقاعدة .
المقام الثالث : أنّه كما يتحقق في باب «اليد» الموجبة للضمان التركّب والاشتراك ; كما إذا اشتركا في غصب عين بحيث لو لم يكن اشتراك لما كان يتحقّق الغصب ، وقد عبّرنا عنه في «قاعدة ضمان اليد» باليد المركّبة(5) ، كذلك يتحقّق الاشتراك في باب الغرور أيضاً ; كما إذا شهدا على مال بأنّه ماله فأخذه وأتلفه ، ثمّ بان أنّه ملك للغير ، وأنّ إتلافه إتلاف لمال الغير ; فإنّ شهادة كلّ واحد جزء سبب
- (1) في ص 228 .
(2) قاله المحقق البجنوردي في قواعد الفقهيّة : 1 / 280 .
(3) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الإجارة : 629 ـ 630 .
(4) تحرير الوسيلة : 1 / 556 مسألة 41 .
(5) في ص 163 .
(الصفحة 233)
في الغرور ، وهو قد تحقّق بمجموع الشهادتين .
ضرورة عدم كفاية شهادة واحدة في جواز التصرّف في مال ، وفي هذه الصّورة يتحقق الاشتراك في الضمان ، ويمكن فرض الإجتماع على أن يكون فعل كلّ منهما علّة تامّة في الغرور ; كما لو فرض صدور السبب من كلّ منهما دفعة ، بحيث لو لم يكن أحدهما لكفى الآخر ، فيكون كلّ منهما علّة مستقلّة بهذا المعنى ، ولازم ذلك أيضاً الاشتراك في الضّمان .
المقام الرّابع : ظاهر كلام الفقهاء في مسألة تعاقب الأيدي في باب ضمان اليد أنّ الأيدي وإن كانت كلّها ضامنة ، ويجوز للمالك الرجوع إلى أيّة واحدة منها شاء ، إلاّ أنّ قرار الضمان واستقراره على من تحقّق التلف بيده بإتلافه أو بسبب آخر ، فاستقرار ضمان الغصب على الغاصب المتلف(1) مثلا ، وظاهر كلماتهم في هذا المقام ـ أي : قاعدة الغرور ـ أنّ قرار الضمان على الغارّ ، وأنّ المغرور يرجع إليه .
وحينئذ لو فرض غارّ ومغرور ومتلف لم يكن مغروراً ، كما إذا أخذ العين المغصوبة من يد المغرور قهراً عليه ثمّ أتلفها ; فإنّه يجوز للمالك الرجوع إلى كلّ واحد منهم ، فإذا رجع إلى المتلف وأخذ المثل أو القيمة منه ، فلا يجوز له الرجوع إلى واحد من الأوّلين ; لأنّ المفروض عدم كونه مغروراً من واحد منهما ، وكون الثاني مغروراً من قبل الأوّل لا يستلزم كون الثالث مغروراً بوجه ، بعد فرض أخذ العين من يده قهراً عليه .
ودعوى أنّه لو كان يعلم بأنّ المال لغيره ربما لا يقدم على الأخذ كذلك ، مدفوعة بأنّ مثل ذلك لا يوجب تحقق الغرور ، مع أنّ لازمه كون الثاني غارّاً بالإضافة إلى الثالث ، ولا مجال للالتزام به بوجه .
- (1) شرائع الإسلام : 3 / 236 ـ 245 ـ 246 ، قواعد الأحكام : 2 / 224 ـ 245 ، مسالك الأفهام : 12 / 155 ـ 156 و 223 ـ 228 .
(الصفحة 234)
وإذا رجع المالك إلى المغرور الذي هو الثاني ، فالظاهر أنّ له الخيار ، فيمكن له الرجوع إلى الغارّ باعتبار قاعدة الغرور ، ويجوز له الرجوع إلى المتلف ; لأنّه أيضاً يستقرّ الضّمان عليه .
وإذا رجع المالك إلى الغارّ وأخذ المثل أو القيمة، فالظاهر أنّه لا يجوز له الرجوع إلى الآخرين . أمّا المغرور فواضح . وأمّا المتلف، فلأ نّه لا وجه للرّجوع إليه ، وعدم كونه غارّاً بالإضافة إليه لا يوجب جواز الرجوع ، ولكنّه يحتمل الجواز بملاحظة ما ذكرنا(1) في مسألة ضمان الأيدي المتعاقبة ; من أنّه إذا رجع المالك إلى السابق يجوز له الرجوع إلى اللاحق ما لم يكن غارّاً له ، والمفروض في المقام عدم كونه غارّاً بالنسبة إلى اللاّحق المتلف ، ومع ذلك فجواز الرجوع في هذه الصورة محلّ تأمّل وإشكال .
المقام الخامس : أنّه لو كان المدرك للقاعدة غير الروايات المتقدّمة الواردة في موارد خاصّة ، لكانت القاعدة جارية في جميع أبواب الفقه ممّا له ارتباط بها ، خصوصاً باب المعاملات والمعاوضات والضمانات . وأمّا لو كان المدرك هي الروايات السّابقة ، فقد عرفت(2) الإشكال في استفادة العموم منها لغير مواردها ، وإن كان فيها إشعار به . ويستفاد من كلماتهم إجراء القاعدة في غير تلك الموارد ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض الموارد ، فنقول :
منها : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في باب بيع الفضولي; من أنّ المشتري إذا لم يخبره الفضولي بأنّ هذا مال الغير موهماً أنّه ماله ، ثمّ بعد ذلك تبيّن للمشتري أنّه مال الغير ، وأنّ المالك الأصيل أخذ العين من يده وغرّمه أيضاً ، بأن أخذ اُجرة سكنى الدّار سنين مثلا ، وقد يتّفق في بعض الصّور ذهاب العين مع الثمن
- (1) في ص 146 ـ 161 .
(2) في ص 224 .