(الصفحة 249)
المقام الثالث : في موارد تطبيق القاعدة ، وهي وإن كانت كثيرة في مختلف أبواب الفقة ، إلاّ أنّا نقتصر على إيراد جملة منها ، فنقول :
منها : تملّك الكافر للعبد المسلم بأيّ نحو من أنحاء التملّك الاختياري ; سواء كان بالبيع أو الشراء ، أو بمثل الصلح والهبة وغيرهما من النواقل الشرعية ; فإنّ هذا التملّك غير جائز بمقتضى قاعدة نفي السبيل ; لأنّ التملّك من أوضح مصاديق السبيل المنفي في القاعدة ، وكذا من أظهر أفراد العلوّ ، فهو غير مجعول وغير ممضى في الشريعة .
ولأجله لو وقع تملّكه له قهراً ـ كما إذا انتقل إليه بالإرث من المورّث الكافر الذي لم يتحقق البيع عليه قهراً بعد ، أو أسلم العبد الكافر في ملك مولاه الكافر ـ لا يقرّ يده عليه ، بل يباع عليه قهراً وإن كان المولى غير راض به ، كما يدلّ عليه مرسل حماد بن عيسى ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اُتي بعبد ذمّي قد أسلم ، فقال : اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولاتقرّوه عنده(1) ، وهذه الرواية متعرّضة لحكم كلا التملّكين : الاختياري ، والقهري . أمّا الأوّل : فقوله (عليه السلام) : «فبيعوه من المسلمين» ، الظاهر في عدم جواز البيع من الكافر ، وأمّا الثاني : فهذا القول أيضاً بلحاظ الأمر بالبيع قهراً على مولاه ، وقوله (عليه السلام) : «ولا تقرّوه عنده» .
وفي هذا المورد من موارد تطبيق القاعدة جهات من البحث :
الاُولى : أنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) أنّ هذه القاعدة معارضة بعموم أدلّة صحة البيع(2) ، ووجوب الوفاء بالعقود(3) ، وحلّ أكل المال بالتجارة عن
- (1) الكافي : 7 / 432 ح 19 ، تهذيب الأحكام : 6 / 287 ح 795 ، النهاية : 349 ح 2 ، وعنها وسائل الشيعة : 17 / 380 ، كتاب التجارة ، أبواب عقد البيع وشروطه ب 28 ح 1 .
(2) مثل : (أحلّ الله البيع) سورة البقرة 2 : 275 .
(3) سورة المائدة 5 : 1 .
(الصفحة 250)
تراض(1) ، وعموم الناس مسلّطون على أموالهم(2)(3) .
مع أنّك عرفت في المقام الثاني أنّ هذه القاعدة ـ كقاعدة نفي الحرج ـ حاكمة على الأدلّة الأوّلية الدالّة بعمومها أو إطلاقها على ثبوت السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، فدليل صحة البيع وإن كان يشمل بإطلاقه هذا البيع ، إلاّ أنّ مقتضى حكومة هذه القاعدة الالتزام بعدم كون إطلاقه مراداً للمولى ، وإن كان ثابتاً بمقتضى اللفظ ، فلا مجال حينئذ لدعوى المعارضة بعد ثبوت الحكومة ووضوح تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، كما قد حقّق في محلّه من علم الاُصول .
الجهة الثانية : الظاهر أنّ مرسلة حمّاد المتقدّمة الدالّة على لزوم بيع العبد المسلم للذمّي من المسلمين بمنزلة المفسّر للآية الدالّة على أنّه تعالى لن يجعل سبيلا للكافر على المؤمن ، بعد وضوح كونها آبية عن التخصيص ، ومقتضى تفسيرها لها أنّ نفس الملكية لا تكون سبيلا ، بل السّبيل هي الملكية المستقرّة ; بمعنى أنّ الشارع لم يرض ببقاء ملك الكافر للعبد المسلم ، ولذا أوجب على الحاكم بيعه من المسلمين ودفع ثمنه إليه ، ويدلّ عليه قوله (عليه السلام) : «ولا تقرّوه عنده» الظاهر في أنّ المبغوض هو إقراره عنده .
وأمّا حمل السبيل على السلطنة غير المنافية للملكية ـ غاية الأمر كون المالك محجوراً عليه في التّصرّف مجبوراً على بيعه ، كما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في كتاب المكاسب(4) ـ فمّما لا دليل عليه ، مضافاً إلى أنّ الكافر لا يكون محجوراً عليه في التصرّف كالصغير ; لأنّه لو أراد بيع عبده بنفسه يكون بيعه صحيحاً ، بخلاف
- (1) سورة النساء 4 : 29 .
(2) عوالي اللئالي : 1 / 222 ح 99 و ص 457 ح 198 ، و ج 2 / 138 ح 383 و ج 3 / 208 ح 49 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 585 .
(4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 585 .
(الصفحة 251)
الصغير إذا أراد بيع عبده ، وإلى أنّ نفس الملكية مع الاستقرار سبيل على الظاهر وعلوّ قطعاً . نعم ، يبقى على ما ذكرنا أمران :
أحدهما : أنّ لازم ما ذكرنا أن لا يكون تملّك الكافر للعبد المسلم غير جائز ; لأنّ المفروض أنّ المنفي هي الملكية المستقرّة لا أصل الملكية ، مع أنّه خلاف الفتاوى .
ثانيهما : أنّ مقتضى الرواية لزوم البيع عليه والنهي عن إقراره عنده ، وهذا لا ينافي ثبوت الملكية المستقرة ; لأنّه لو فرض عدم تحقق البيع عصياناً أو لعدم وجود المشتري مثلا يكون العبد باقياً على ملك الكافر ، وقد عرفت فرض إرث الكافر العبد المسلم من المورّث الكافر ، فالرواية الدالّة على الأمر والنهي المتقدمين لا تنفي الملكية المستقرّة .
والجواب عن الأمر الأوّل : أنّه لا ملاءمة بين الحكم بجواز التملّك ، وبين الحكم بلزوم البيع عليه والنهي عن إقراره عنده ، فمن ثبوت الثاني كما هو المذكور في الرّواية يستكشف عدم ثبوت الأوّل ، وهذا بخلاف العبد المنعتق على المشتري بمجرّد الاشتراء ، فإنّ الانعتاق لا ينافي الحكم بصحة الاشتراء ، بل هو مترتّب عليها ومتفرّع على تحققّها ، بخلاف المقام الذي لا يجتمع الحكم فيه بصحة البيع من الكافر مع الحكم بلزوم البيع عليه فوراً ، كما لا يخفى ، مضافاً إلى ظهور الرواية في اختصاص جواز البيع بالمسلمين .
وقد أجاب المحقق البجنوردي (قدس سره) عن الوجه الثاني بالالتزام بالتخصيص ; بمعنى أنّ الرواية تكون مخصّصة للآية ودالّة على أنّ هذا المقدار من الملكية الموقّتة ـ أي البقاء إلى زمان تحقق البيع ـ قد خرج عن تحت العموم تخصيصاً بالرواية(1) .
مع أنّك عرفت إباء سياق الآية عن التخصيص ، وأنّ الرواية تكون بمنزلة
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 1/196 .
(الصفحة 252)
المفسّر لها والمبيّن للمراد منها ، وحينئذ يبقى الإشكال بحاله ، وهو : أنّه إن كان المراد من السبيل المنفي هي الملكية المستقرة ، فالرواية لا تنافيها ، وإلاّ كان اللازم الانعتاق عليه قهراً ، من دون حاجة إلى البيع عليه ، مضافاً إلى عدم ملاءمة حكم الشارع بالملكية المستقرة مع الحكم بإيجاب البيع عليه والنهي عن إقراره عنده .
فاللاّزم إما الالتزام بعدم حجية الرّواية ; لكونها مرسلة ، ولا فرق في عدم اعتبارها بين المرسلين كما هو المحقق في محلّه ، وعليه : فأصل الملكية عرفاً من مصاديق السبيل المنفي ، فهي غير مجعولة في الشريعة ، وإمّا الالتزام بعدم إباء سياق الآية عن التخصيص ، ودعوى كون الرواية مخصّصة لها كما عرفت من بعض ، وإمّا الالتزام بعدم كون الملكية المستقرة أيضاً من مصاديق السبيل ، بدعوى كون السبيل له معنى لا ينافي الملكية ، كالسلطنة التي أشار إليها الشيخ (قدس سره) على ما مرّ ، وإمّا الالتزام بكون السبيل المنفي هي الملكية المستقرة المتداولة التي لم يجعل في مقابلها الحكم بلزوم البيع والنهي عن الإقرار ، فافهم .
الجهة الثالثة : لو قلنا بدلالة الآية والرواية المتقدّمة على بطلان بيع العبد المسلم من الكافر ، وعدم جواز تملّكه له ، فلا يبقى مجال لاستصحاب الصحة في ما إذا كان كفر المشتري مسبوقاً بالإسلام أو إسلام العبد مسبوقاً بالكفر ، والتتميم في غيره بعدم القول بالفصل ، لا لأنّ الاستصحاب تعليقيّ وهو غير جار ; لأنّ الاستصحاب التعليقي فيما إذا كان التعليق شرعيّاً جار ، والمقام وإن لم يكن التعليق فيه شرعيا ، إلاّ أنّه ليس بتعليقيّ أصلا ; لأنّ المشتري كان في زمن إسلامه جائز البيع منه منجّزاً لا بنحو التعليق ، وكذا العبد في زمن كفره كان جائزاً بيعه كذلك ; بل لأنّه لا مجال للاستصحاب مع وجود الدليل اللفظي الذي هي أمارة .
ولو لم نقل بدلالتهما على البطلان فلا يبقى مجال للاستصحاب المذكور أيضاً ; لأنّ المرجع حينئذ عمومات أدلّة الصحة ، ومعها لا تصل النوبة إلى الاستصحاب
(الصفحة 253)
وإن كان موافقاً لها ، فلا مجال على كلا التقديرين للرجوع إلى الاستصحاب كما في كلام الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) .
ثمّ إنّه ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ بيع العبد المسلم من الكافر الذي ينعتق عليه بمجرّد تحقق الملك لا مانع منه أصلا ; لعدم تحقق السبيل المنفي بأيّ معنى كان في هذا الفرض ، فإنّ الحكم بثبوت الملكية له إنّما هو بعنوان المقدّمة للانعتاق ; لأنّه لا معنى لانعتاقه عليه إذا لم تتحقق ملكيته له كما لا يخفى ، والملكية بهذا العنوان لا تكون سبيلا بوجه .
ومنها : إجارة المسلم نفسه من الكافر ، أو إجارة العبد المسلم من الكافر ، وفيه أقوال كثيرة : القول بعدم الجواز مطلقاً(2) ، والقول بالجواز كذلك(3) ، والقول بالتفصيل بين أن تكون الإجارة على الذّمة فتصح ، وبين أن تكون على العين ـ كما إذا استأجره مدّة من الزمان شهراً أو سنة ـ فلا تصحّ ; حكي ذلك عن جامع المقاصد(4) والمسالك(5) ، والقول بالتفصيل بين الحرّ والعبد ، فتصحّ في الأوّل دون الثاني ، حكي ذلك عن الشهيد في الدروس(6) ، والقول باختلاف الموارد من جهة تحقق السبيل والعلوّ من دون فرق بين الإجارة على الذمّة والإجارة على العمل الخارجي ، ومن دون فرق بين الحرّ والعبد أصلا .
ومنشأ الاختلاف بعد كون الدليل منحصراً بقاعدة «نفي السبيل» هو اختلاف الأنظار والآراء في تحقق السبيل وعدمه ، وكذا في تحققه مطلقاً أو في بعض
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 586 .
(2) قواعد الأحكام : 2 / 17 ، تذكرة الفقهاء : 10 / 21 ، إيضاح الفوائد : 1 / 413 .
(3) الخلاف : 3 / 190 مسألة 319 ، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام : 2 / 457.
(4) جامع المقاصد : 4 / 63 .
(5) مسالك الأفهام : 3 / 167 .
(6) الدروس الشرعية : 3 / 199 .