(الصفحة 266)
فقال (صلى الله عليه وآله) : الإسلام يجبّ ما قبله(1) .
وحكى مثله ابن هشام في السيرة في قصة إسلام عمرو بن العاص و خالد بن الوليد(2) .
وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسير قوله تعالى : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاَْرْضِ يَنْبُوعاً}(3) إلى آخر الآية ، قال : فإنّها نزلت في عبدالله ابن أبي اُميّة أخي اُمّ سلمة ـ رحمة الله عليها ـ وذلك أنّه قال : هذا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكّة قبل الهجرة ، فلمّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فتح مكّة استقبله عبدالله بن أبي اُميّة ، فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يردّ (عليه السلام) ، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء ، وكانت اُخته اُمّ سلمة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فدخل إليها وقال :
يا اُختي إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل إسلام الناس كلّهم وردّ عليّ إسلامي ، وليس يقبلني كما قبل غيري .
فلمّا دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على اُمّ سلمة قالت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله سعد بك جميع الناس إلاّ أخي من بين قريش والعرب ، رددت إسلامه وقبلت إسلام الناس كلّهم .
فقال (صلى الله عليه وآله) : يا اُمّ سلمة إنّ أخاك كذّبني تكذيباً لم يكذّبني أحد من الناس ، هو الذي قال لي : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاَْرْضِ يَنْبُوعاً} ، إلى آخر الآيات ، قالت اُمّ سلمة : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ألم تقل : إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله؟ قال (صلى الله عليه وآله) : نعم ، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إسلامه(4) .
وفي السيرة الحلبيّة أنّ عثمان لمّا شفع في أخيه ابن أبي سرح قال (صلى الله عليه وآله) : أما بايعته
- (1) الطبقات الكبرى لابن سعد : 4 / 284 ـ 286 ، وذكره أبو الفرج في الأغاني : 16 / 80 ـ 82 .
(2) السيرة النبويّة لابن هشام: 3/289 ـ 291.
(3) سورة الإسراء 17 : 90 .
(4) تفسير القمّي : 2 / 26 ـ 27 .
(الصفحة 267)
وآمنته؟ قال : بلى ، ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح ويستحي ، قال (صلى الله عليه وآله) : الإسلام يجبّ ما قبله(1) .
وفي السيرة المذكورة حكى هذا القول عنه (صلى الله عليه وآله) في إسلام هبار بن أسود(2) .
وروي ذلك في كتب اللّغة أيضاً ، ففي مجمع البحرين رواه هكذا : الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب(3) .
وفي البحار نقل ذلك عن عليّ (عليه السلام) ; حيث روى في ذكر قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه جاء رجل إلى عمر فقال : إنّي طلّقت امرأتي في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين ، فما ترى؟ فسكت عمر ، فقال له الرجل : ما تقول؟ قال : كما أنت حتى يجيء عليّ بن أبي طالب ، فجاء عليّ (عليه السلام) فقال : قصّ عليه قصّتك ، فقصّ عليه القصّة ، فقال عليّ (عليه السلام) : هدم الإسلام ما كان قبله ، هي عندك على واحدة(4) .
وبالجملة : شهرة هذا الحديث والرواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) توجب انجبار ضعف السند ، كما صرّح به صاحب الجواهر في كتاب الزكاة(5) ، وكذا المحقّق الهمداني (قدس سره) في ذلك الكتاب أيضاً في مقام الجواب عن صاحب المدارك لأجل تضعيفه للرواية(6)حيث قال : المناقشة في سند مثل هذه الرواية المشهورة المتسالم على العمل بها بين الأصحاب فممّا لا ينبغي الالتفات إليها ، بل وكذا في دلالتها(7) ، بل ذكر صاحب
- (1) السيرة الحلبية : 3 / 36 ـ 37 .
(2) السيرة الحلبيّة : 3 / 39 .
(3) مجمع البحرين : 1 / 264 .
(4) بحار الأنوار : 40 / 230 عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهر آشوب : 2 / 364 نقلا من شرح الأخبار : 2 / 317 ح 654 .
(5) جواهر الكلام : 15 / 62 .
(6) مدارك الأحكام: 5 / 42 .
(7) مصباح الفقيه : 13 / 93 .
(الصفحة 268)
العناوين : أنّ هذا الحديث من الأحاديث المسلّمة الصدور(1) .
ثمّ إنّه ربما يستدلّ لهذه القاعدة أيضاً بقوله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينَ}(2) . وصرّح صاحب الجواهر في كتاب الزكاة بأنّه موافق لقوله (صلى الله عليه وآله) الإسلام يجبّ ما قبله(3) ، ويظهر منه ذلك في كتاب الصوم أيضاً(4) . واستدلّ به في كنز العرفان على عدم وجوب القضاء ; أي قضاء الصلاة على الكافر الأصلي ، واستشكل في شموله للمرتدّ ; لظهور قوله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا} في الكافر الأصلي (5) .
وحكي عن بعض مفسّري المتأخّرين من العامة(6) أنّه ذكر في ذيل هذه الآية ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص أنّه قال بعد كلام طويل : لمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقلت : ابسُط يمينك فلاُبايعك ، فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي . قال : مالك يا عمرو؟ قال : قلت : أردت أن أشترط . قال : تشترط بماذا؟ قلت : أن يُغفر لي . قال : أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله(7)؟ فيظهر منه أنّه جعل الرواية موافقة للآية في المفاد والدلالة .
ولكنّ الظاهر بلحاظ التعبير بالغفران في الآية انحصار مفادها بالمعاصى العملية والمخالفة الاعتقادية في الفروع والاُصول ، ولازمه عدم ترتّب أثر عليها ،
- (1) العناوين : 2 / 499 .
(2) سورة الأنفال 8 : 38 .
(3) جواهر الكلام : 15 / 62 .
(4) جواهر الكلام : 17 / 10 .
(5) كنز العرفان : 1 / 241 .
(6) تفسير المنار : 9 / 664 ـ 665 .
(7) صحيح مسلم : 1 / 104 ب 54 ح 121 .
(الصفحة 269)
فلا يترتّب عليها الحدود والديات التي موضوعها المعصية . وأمّا دلالتها على عدم وجوب قضاء ما فات من عباداته مثل الصلاة والصوم وغيرهما ، وعلى سقوط الزكاة بالإسلام وإن كان النصاب موجوداً وأمثالهما ، فغير ظاهرة ، ولعلّه لأجل ذلك لم يستدلّ بها للقاعدة كثير من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
وممّا يدلّ على هذه القاعدة سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومعاملته مع من أسلم من الكفّار ، حيث إنّه لم يكلّف أحداً بقضاء العبادات التي فاتت منه في حال كفره ، وكذلك بأداء الزكاة مع أنّ العين الزكويّة كانت موجودة عندهم ، ومع ذلك لم يطلب منهم زكاة السنين التي كانوا فيها على الكفر . نعم ، لو كان حلول الحول بعد إسلامه فلا يسقط ، ويجب عليه لتعلّق التكليف بعد الإسلام به ، فالسيرة مع قطع النظر عن الرواية أيضاً دليل على القاعدة .
المقام الثاني : في مفاد القاعدة ومدلول الحديث .
فنقول : لا خفاء في أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان على من أسلم والتحريص والترغيب إلى قبول الإسلام ، وأنّ قبوله يمنع عن بقاء آثار ما فعل أو قال أو اعتقد ، وفي الحقيقة تسهيل لطريق قبول الإسلام وتشويق إلى ما يترتّب على قبوله من الآثار والبركات ، ويظهر ذلك من ملاحظة الموارد المتقدّمة التي ورد الحديث فيها ، كقصّة إسلام المغيرة، وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد، وعبدالله ابن أبي اُميّة ، وشفاعة عثمان في أخيه من الرّضاعة ، وهبار .
وبالجملة : هذه العبارة حاكية عن منّة الإسلام وتفضّله على من يقبله ويتشرّف به ، خصوصاً بعد كثرة المعاصي العملية والاعتقادات السخيفة في الجاهلية من الشرك في العبادة ، وقتل النفس ، وارتكاب الفجور والمعاصي ، من الزنا واللّواط والسرقة وشرب الخمر وغيرها .
وبعد ذلك نقول : إنّ مفاد الحديث أنّ كلّ فعل أو قول أو تركهما ، أو اعتقاد ، إذا
(الصفحة 270)
كان يترتّب عليه في الإسلام ضرر أو عقوبة ، فالإسلام يوجب عدم ترتّب ذلك الضرر أو العقوبة ، وينظر بذلك بنظر العدم ويجعله كأنّه لم يتحقق ولم يصدر ، لكن هذا فيما إذا كان الضرر والعقوبة ثابتاً في الإسلام فقط ; بمعنى أنّه لو كان مسلماً ويصدر منه ذلك العمل لكان يترتّب عليه الضرر أو العقوبة ، ولكنّه حيث لا يكون في الكفر محكوماً بهذا الحكم ، فالإسلام يجبّ ويقطع ويهدم ما قبله ويجعله كأنّه لم يصدر أصلا ، فإذا تحقّق منه الزنا في حال الكفر فحيث أنّه لا يكون الزنا في الكفر محكوماً بترتّب الحدّ عليه ، فالإسلام يهدمه ويجعله كأنّه لم يتحقّق ، وهكذا .
وكذلك الترك الصادر منه في حال الكفر إذا ترتّب عليه أثر في الإسلام ، كالقضاء والكفارة ، لا يترتّب عليه الأثر بعد الإسلام ، فلا يترتّب على ترك الصلاة قضاء ، وإن كان الكافر مكلّفاً بها في حال الكفر ، بناءً على أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع أيضاً . وكذا لا يترتّب على ترك الصوم قضاء ولا كفّارة . هذا إجمال معنى الرواية .
وأمّا التفصيل بلحاظ المسائل الواقعة من الكافر في حال الكفر ، فنقول :
منها : الشرك والكفر الواقع من الكافر ، ولا ريب في أنّ الإسلام يجبّه ويفرضه كالعدم ، فلا يترتّب عليه العذاب الاُخروي ، فإذا أسلم ثمّ مات بلا فصل ، فكأنّه لم يتحقق منه الشرك ـ الذي هو ظلم عظيم ـ والكفر في مدّة حياته أصلا ، بل يلقى الله مسلماً طاهراً وإن كان زمان إسلامه بالإضافة إلى زمان كفره في غاية القلّة .
ومنها : المحرّمات الشرعية والمعاصي التي رتّب عليها الحدّ أو التعزير ، كالأمثلة المتقدمة ; فإنّه لا يترتّب عليها بعد إسلامه ، ولو زنى في السابق ألف مرّة أو سرق كذلك .
ومنها : العبادات والحقوق المختصة بالله تعالى مع عدم اعتقادهم بها في حال