(الصفحة 273)
يكون الامتنان على الكافر بإسقاط الزكاة عنه معارضاً لحقّ مستحقّي الزكاة من الأصناف الثمانية المذكورة في الكتاب(1) .
وثالثة : بأنّ البعث سبب إلى العمل المبعوث إليه ، فإذا كان العمل المبعوث إليه مقيّداً بالإسلام ، وكان الإسلام مسقطاً للتكليف يلزم علّية الشيء لعدم نفسه ، وهو مستحيل .
والجواب : أنّ عطف التوبة لا يقتضي الإتّحاد بعد كونهما حكمين مستقلّين ، خصوصاً بعد ملاحظة الموارد المتقدّمة التي ورد فيها الحديث والامتنان في المقام ، حيث أنّه يرجع إلى أساس الإسلام في مقابل الكفر ، وإلى التحريض والترغيب في رفع اليد عن الكفر ، فلا يقاس بالامتنان الذي يتضمّنه جعل الزكاة للأصناف الثمانية خروجاً عن الفقر والمسكنة وغيرهما ، مع أنّه ليس بالإضافة إلى كلّ واحد من الأصناف امتناناً ، فإنّ العاملين عليها إنّما يأخذون اُجرة عملهم ، ولو لا الزكاة لكانوا يعملون في بعض الاُمور الاُخرى ، فالاشكال من هذه الجهة مندفع .
وأمّا الاستحالة ، فربما يجاب عنها بأنّ مقتضى الحديث أنّ الإسلام يكون علّة لإثبات التكاليف عليه في المستقبل فقط لا بالنسبة إلى الماضي .
ومرجع هذا الجواب إلى أنّ ما اشتهر من كون الكفّار مكلّفين بالفروع كالاُصول(2) ، إنّما هو بالنسبة إلى الكافر الذي بقي على كفره إلى آخر عمره ، وأمّا الكافر الذي أسلم فلا يكون مكلّفاً بالفروع في زمن كفره ، وهذا في غاية الضعف والوهن ; فإنّه لا دلالة لحديث الجبّ على ذلك بوجه ، بل مفاده أنّ الكافر وإن كان
- (1) سورة التوبة : 9 / 60 .
(2) غنية النزوع ، بحث الاُصول : 304 ، المعتبر : 2 / 595 ، إرشاد الأذهان : 1 / 271 ، منتهى المطلب : 2 / 188 ، الحدائق الناضرة : 3 / 39 ، ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد : 563 ، معتمد الشيعة : 235 ، عوائد الأيّام : 279 عائدة 30 ، العناوين : 2 / 714 ، جواهر الكلام : 17 / 10 .
(الصفحة 274)
مكلّفاً ، إلاّ أنّ الإسلام رفع اليد عمّا سبق وجعله كالعدم ، فالتكليف كان ثابتاً ، ولكنّه رفع عنه بعد الإسلام ، كحديث الرفع(1) بالإضافة إلى الاُمور المذكورة فيه .
والحقّ في الجواب أن يقال ـ مضافاً إلى النقض بالصلاة والصيام والحجّ ، فإنّ تركها مجبوب بالإسلام ، مع أنّها لا تصحّ في حال الكفر ; لمدخليّة الإسلام في صحّتها ـ : إنّ هذه الاستحالة إنّما تتحقّق إذا كان الخطاب متوجّها إلى خصوص الكفّار ، كالخطاب المتوجّه إلى العاجز ، وأمّا لو كان الخطاب متوجّها إلى العموم من دون فرق بين المسلم والكافر ، فلا تكون صحّة هذا الخطاب متوقّفة على صحّته بالنسبة إلى كلّ واحد من المخاطبين ، ألا ترى أنّه يصحّ الخطاب إلى جماعة بخطاب واحد أن يعملوا عملا ولو مع العلم بعدم قدرة بعضهم على إيجاد العمل؟ نعم ، لو كان الجميع أو الأكثر غير قادرين لما صحّ الخطاب .
وأمّا مع عجز البعض فلا مانع منه ، مع أنّه لو إنحلّ الخطاب الواحد إلى خطابات متعدّدة لما صحّ ; لاستحالة بعث العاجز مع العلم بعجزه ، وفي المقام أيضاً كذلك ; فإنّ قوله تعالى : {أَقِيمُوا الْصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَوةَ}(2) عامّ يشمل المسلم والكافر ، ولا ينحلّ إلى خطاب خاصّ بالكافر حتى يقال بالاستحالة ; نظراً إلى علّيّة الشيء لعدم نفسه ، فالكافر مادام كافراً يكون مكلّفاً بالعبادات المذكورة ، ومن شرائط صحّتها الإسلام ، وبعد الإسلام لا يجب عليه إتيان ما فات في حال الكفر ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : الحقوق المختصّة بالمخلوقين مع اعتقادهم بثبوتها في أديانهم ، كالدّين وضمان المغصوب وضمان الإتلاف ونحو ذلك ، والظاهر أنّه لا دلالة للحديث على
- (1) تقدم في ص 58 .
(2) سورة البقرة : 2 / 43 ، سورة النساء 4 : 77 ، سورة النور 24 : 56 .
(الصفحة 275)
سقوطها ; لما ذكرنا(1) من أنّ مفاده سقوط الآثار المترتّبة في الإسلام فقط ، وأمّا الآثار الثابتة في حال الكفر أيضاً بمقتضى الدين ، أو بمقتضى حكم العقل وقضاء ضرورته ، فلا دلالة للحديث على سقوطها ، والحقوق المذكورة من هذا القبيل ، فيلزم على الكافر الذي تجدّد إسلامه أداء ديونه والخروج عن عهدة الغصب والإتلاف ونحوها ، وظاهر الأصحاب أيضاً عدم السقوط .
ومنها : الحقوق المختصّة بالمخلوقين مع عدم اعتقادهم بثبوتها في أديانهم ، كما لو لم يعتقدوا أنّ قتل العمد فيه القصاص ، أو أنّ قتل الخطأ فيه الدية على العاقلة ، فإذا أسلم الكافر وقد ارتكب القتل عمداً أو خطأً فهل يسقط القصاص أو الدية عنه في الإسلام ، أم لا؟
ظاهر كلمات الأصحاب عدم السقوط ; لإطلاقهم أنّ حقّ المخلوق لا يسقط(2) . ولكنّ الظاهر بمقتضى ما ذكرنا في مفاد الحديث إجمالا هو السقوط ; لأنّ المفروض ثبوت القصاص مثلا في الإسلام ، ولم يكن له سابقة في سائر الأديان ، وليس ثبوته بمقتضى حكم العقل والعقلاء ، وقوله تعالى : {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الاَْلْبَابِ}(3) يشعر بعدم تخضّع أولي الألباب في أنفسهم لهذا الحكم الإلهي ، بل يحتاج إلى إرشاد الله تبارك وتعالى ، خلافاً لما يحكم به العقل البدوي من كون القصاص ضمّ موت إلى موت آخر ، وإعدام زائد على إعدام آخر .
وعليه : فمقتضى قوله (صلى الله عليه وآله) : «الإسلام يجبّ ما قبله» ، هو السقوط ، خصوصاً في مسألة ثبوت الدية على العاقلة ، الذي لا يتطرّق إليه العقل بوجه .
نعم ، هنا إشكال ; وهو أنّ الظاهر ثبوت القصاص في النفس في الأديان
- (1) في ص 271 .
(2) العناوين : 2 / 498 ـ 500 .
(3) سورة البقرة 2 : 179 .
(الصفحة 276)
السّابقة أيضاً ، دون القصاص في ما دون النفس ; فإنّه ثابت في الإسلام ومن أحكامه ، ومقتضى ما ذكرنا في معنى الحديث عدم جبّ الإسلام ما كان ثابتاً فيه وفي الأديان السابقة ، بل يختصّ الجبّ بخصوص ما ثبت في الإسلام من الآثار والأحكام ، فاللازم حينئذ عدم رفع الإسلام للقصاص الذي هو من حقوق المخلوقين ، وكان ثابتاً عند الكافر وعلى حسب اعتقاده أيضاً ، مع أنّ الظاهر أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يحكم بقصاص من أسلم من الكفّار القاتلين ، بل يظهر من قصّة إسلام المغيرة بن شعبة المحكيّة في الطبقات لابن سعد المتقدّمة(1) عدم حكمه (صلى الله عليه وآله) بقصاصه، مع أنّه غدر بأصحابه وقتلهم وفرّ إلى المدينة .
ودعوى أنّ عدم الحكم بالقصاص لا يكون مستنداً إلى قاعدة الجبّ ، بل مستند إلى قوله (صلى الله عليه وآله) : كلّ دم كان في الجاهلية فهو تحت قدميّ هاتين(2) ، مدفوعة باستناد النبيّ (صلى الله عليه وآله) : في قصّة المغيرة إلى أنّ الإسلام يجبّ ما قبله ، وهو ظاهر في دلالة القاعدة على سقوط القصاص أيضاً .
واللازم أن يقال بعدم دلالة الحديث على سقوط القصاص كما ذكرنا في معناه ، وقصّة المغيرة لا تكون معتبرة بجميع خصوصياتها ، بل حكايتها إنّما هي للاشتمال على القاعدة . وبعبارة اُخرى : حجّيتها بالإضافة إلى القاعدة المذكورة فيها لا تستلزم حجّيتها بالإضافة إلى جميع الخصوصيات الواقعة فيها ، التي منها القتل الموجب للقصاص ، كما لا يخفى .
فالحقّ أنّ سقوط القصاص كان مستنداً إلى أمر آخر ، من دون فرق بين القتل الواقع في القضايا الشخصية والموارد الجزئية ، وبين القتل الواقع في الغزوات الواقعة
- (1) في ص265 ـ 266 .
(2) الكافي : 8 / 246 ح 342 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 248 ح 15388 و ج 7 / 376 قطعة من ح 20720 ، سنن ابن ماجة : 3 / 504 قطعة من ح 3074 .
(الصفحة 277)
بين المسلمين والكفّار ، حيث لم ينقل الحكم بالقصاص في شيء منها ، بل المعلوم من عمل النبيّ (صلى الله عليه وآله) وسيرته الخلاف ، كما لا يخفى على من رجع إلى التاريخ .
ومنها : العقود والايقاعات ، كالبيع والنكاح والطلاق الصادر من الكافر حال كفره ، فإذا باع داره في تلك الحال ببيع فاقد لبعض شرائط الصحّة في الإسلام ، كما لو فرض أنّه باعه بثمن مجهول ، أو تزوّج بنكاح كذلك ، أو طلّق زوجته بطلاق كذلك ، كما إذا كان فاقداً لشرط حضور العدلين مثلا ، فمقتضى إطلاق القاعدة تماميّة تلك العقود والايقاعات بعد كون الشرائط من خصائص الإسلام ، فلا يبطل بيعه ولا نكاحه ولا طلاقه .
وما مرّ في قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) من عدم الاعتبار بالتطليقة الواحدة الواقعة في حال الشرك(1) ، فهو ليس بمعنى بطلان ذلك الطلاق بالمرّة ، بل بمعنى عدم عدّه من الطلقات الثلاث المؤثّرة في الحرمة والافتقار إلى المحلّل ، وعدم كونه جزءاً للسّبب من هذه الجهة .
ثمّ إنّ معنى صحّة النكاح الواقع منه في حال كفره لا يرجع إلى صحّته ولو بالإضافة إلى ما يمكن رعايته بقاءً في حال الإسلام أيضاً ، فإذا أسلم المجوسيّ وقد نكح اُمّه أو اُخته أو بنته ، فمعنى القاعدة يرجع إلى ملاحظة هذا النكاح بالنسبة إلى ما مضى كالعدم ، وأمّا بقاءً فلا مجال لتوهّم اقتضاء القاعدة صحّة النكاح ، بحيث كان المجوسيّ المسلم باقياً على نكاح إحدى محارمه ، كما أنّه إذا أسلم الزوج الكافر دون زوجته، وقلنا بعدم صحّة هذا النكاح بقاءً أيضاً ، لا يكون مفاد القاعدة الصحّة ولو بحسب البقاء ، كما لا يخفى .
ومنها : الأسباب الواقعة في حال الكفر ; كأسباب الوضوء والغسل ، وأسباب الغسل ـ بالفتح ـ وأسباب تحريم النكاح من رضاع أو مصاهرة أو وطء في عدّة أو