(الصفحة 286)
أداؤها فيه مع الشرائط وهو لم يأت بها على ما هو المفروض ; لكونه كافراً ، فهل يسقط التكليف بها أم لا؟ فيه وجهان :
من أنّه تعلّق الخطاب به قبل الإسلام ; لأنّ المفروض مضيّ مقدار من الوقت يمكن أداؤها فيه ، فيكون مشمولا للقاعدة ، فلا يجب عليه الإتيان بها فيما بقي من الوقت . ومن استمرار الخطاب في آنات الوقت الموسّع واستصحاب اشتغال الذمّة والشك في شمول القاعدة لهذه الصورة ، فيجب عليه الإتيان بها .
وربما يؤيّد الوجه الأوّل ملاحظة أنّ الواجبات الموسّعة مادام العمر ، كصلاة الزلزلة وقضاء الصّلوات اليوميّة ، لا ريب فى سقوطها بالإسلام ; فإنّ الكافر إذا أسلم في شهر شوّال ، فلا ريب في عدم وجوب قضاء شهر رمضان عليه ، مع أنّ قضاء رمضان موسّع بحسب الرّخصة إلى رمضان الآتي ، وبحسب الإجزاء إلى آخر العمر ، ولا يرى فرق بين الواجبات الموسّعة أصلا(1) .
أقول : الظاهر هو الفرق ; فإنّ وجوب القضاء متفرّع على الفوت ، وبعد اقتضاء الحديث كون الترك كالعدم لا يبقى مجال لوجوب القضاء ، ووجوب صلاة الزلزلة مسبّب عنها ، وقد مرّ أنّ الحديث يشمل الأحكام الوضعية أيضاً ، وهذا بخلاف مثل صلاة الظهر التي دخل وقتها ثمّ أسلم بعد مضيّ مقدار من الوقت يمكن أداؤها فيه ، فإنّه لا مجال للحكم بسقوطها بالقاعدة مع فرض سعة الوقت وإمكان الأداء وهو مسلم ، فتدبّر .
هذا تمام الكلام في قاعدة الجبّ .
21 ذي القعدة الحرام 1408 هـ
قاعدة الإحسان
وهي أيضاً من القواعد الفقهيّة المعروفة ، ويستند إليها في الفروع المختلفة الفقهية التي سيأتي التعرّض لبعضها إن شاء الله تعالى ، والكلام فيها يقع في مواقف :
الموقف الأوّل : في مدركها ومستندها ، وما قيل في هذا المجال اُمور :
الأوّل : قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَعْلَمُونَ}(1) .
وقد ذكر المفسّر العظيم القدر صاحب مجمع البيان في شأن نزول الآيات : قيل : إنّ الآية الاُولى نزلت في عبدالله بن زائدة ـ وهو ابن اُمّ مكتوم وكان ضرير
- (1) سورة التوبة 9 : 91 ـ 93 .
(الصفحة 290)
البصر ـ جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : يا نبيّ الله إنّي شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم ، وليس لي قائد ، فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فأنزل الله الآية ، عن الضحاك . وقيل : نزلت في عائد بن عمرو وأصحابه ، عن قتادة .
والآية الثانية نزلت في البكّائين ، وهم سبعة نفر ، منهم : عبد الرحمن بن كعب ، وعتبة بن زيد ، وعمرو بن غنمة ، وهؤلاء من بني النّجار ، وسالم بن عمير وهرم بن عبدالله ، وعبدالله بن عمرو بن عوف ، وعبدالله بن معقل من مزينة ، جاؤا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا : يا رسول الله أحملنا ; فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه ، فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، عن أبي حمزة الثمالي .
وقيل : نزلت في سبعة نفر من قبائل شتّى أتوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقالوا له : أحملنا على الخفاف والبغال ، عن محمد بن كعب وابن إسحاق . وقيل : كانوا جماعة من مزينة ، عن مجاهد . وقيل : سبعة من فقراء الأنصار ، فلمّا بكوا حمل عثمان منهم رجلين ، والعباس بن عبد المطّلب رجلين ، ويامين بن كعب النضري ثلاثة عن الواقدي قال : وكان الناس بتبوك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثين ألفاً ، منهم : عشرة آلاف فارس(1) .
وعلى ما ذكرنا فالمراد من السبيل المنفي بالإضافة إلى المورد هو العذاب والعقاب الاُخروي ، كما أنّه المراد بالسبيل المثبت في مورد الآية الثالثة ، ولكنّه حيث لا يكون المورد مخصّصاً ، وقوله تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل} بمنزلة ضابطة كلّية وقاعدة عامّة ، لابدّ من الالتزام بعدم اختصاص السبيل بالعقاب ، بل له معنى عامّ شامل لكلّ ما يكون بضرر المحسن وموجباً لمؤاخذته
- (1) مجمع البيان : 5 / 96 ـ 97 .