(الصفحة 338)
الكفار معذّبين بالنّار خالدين فيها(1) ، ولو كانت عباداتهم صحيحة لزم وصول الأجر إليهم في الآخرة وهو منفيّ بالآيات المذكورة ، ولقوله تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2) بضميمة أنّ أوّل التقوى الإسلام ، ولدلالة الأخبار الكثيرة على بطلان عبادة المخالف(3) ، فضلا عن الكافر .
واُجيب عن الإجماع بأنّه لا أصالة له ; لإحتمال استناده إلى الأدلّة الاُخرى ، وعن مسألة قصد القربة بأنّ عدم إمكانه إنّما هو في الكافر الجاحد بالربوبيّة مطلقاً ، وأمّا الكافر المقرّ بالله المنكر لصفة أو للنبوّة ، فيعقل فيه قصد القربة ، خصوصاً إذا كان من المنتحلين للإسلام كالغلاة والنواصب ، وترى أهل الكتاب يجتمعون في معابدهم ويعملون أعمالا يكون الداعي لهم إليها التقرّب إلى الله تعالى بالمعنى الشامل للوصول إلى الثواب والفرار عن العقاب .
نعم ، يمكن أن يقال بأنّ العمل العبادي الذي يكون في الإسلام و ليس له سابقة في الأديان لا يكون الكافر المنكر للنبوّة معتقداً بكونه مأموراً به من الله تعالى ومقرّباً للعبد إليه . وعليه : فكيف يتمشّى منه قصد القربة مع هذا الاعتقاد؟ نعم ، يمكن فرضه في الأعمال العبادية المشتركة ، وهي قليلة ; إذ الاختلاف موجود ولا أقلّ في الكيفية .
واُجيب عن الاستدلال بقوله تعالى : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ . . .} بأنّ القبول أخصّ من الصّحة .
وفيه : أنّ المراد بالقبول إن كان ترتّب الثواب فهو لا ينفك عن الصحة ; لأنّه إذا كان العمل موافقاً للمأمور به جامعاً لجميع الخصوصيات المعتبرة فيه ، فلا محالة
- (1) كسورة البينّة 98 : 6 ، وسورة البقرة 2 : 39 و 257 .
(2) سورة المائدة 5 : 27 .
(3) وسائل الشيعة : 1 / 118 ، كتاب الطهارة ، أبواب مقدّمة العبادات ب 29 .
(الصفحة 339)
يكون صحيحاً وتترتّب عليه المثوبة ، وإن كان المراد به ما هو أعلى من ترتّب الثواب ، فهو ممنوع ; فإنّ القبول الفقهي مساوق للصحّة .
ودعوى أنّ ضمير الجمع في الآية يرجع إلى المنافقين ، والبحث إنّما هو في الكافرين ، مدفوعة بأنّ ظاهر الآية : أنّ المانع من القبول والعلّة المانعة عنه هو الكفر بالله والرّسول لا عنوان النّفاق .
واُجيب عن الآيات الدالّة على أنّ الكفّار معذّبين بالنّار ، بأنّه لا ينافي صحّة أعمالهم والمثوبة عليها في الدنيا ، ويمكن أن يقال بتأثير عملهم في تخفيف العذاب ، فإنّ للنار مراتب متفاوتة بالشدّة والضعف ، كما أنّه يمكن أن يقال بأنّ التعذيب بالنار إنّما هو لأجل عدم إتيانهم خارجاً بما هو وظيفة لهم ، والبحث إنّما هو في الصحّة على تقدير الإتيان .
وبعبارة اُخرى : ما ذكر في مقام الاستدلال من أنّه لو كانت عباداتهم صحيحة لزم وصول الأجر إليهم في الآخرة ، لابدّ وأن يكون المراد بالعبادات الواردة هي العبادات التي حثّ عليها في الإسلام ، ومن الواضح عدم إتيانهم بشيء منها خارجاً ، فلا ينافي كونهم معذّبين بالنار خالدين فيها ، كما هو ظاهر .
وأمّا الأخبار الدالّة على بطلان عبادة المخالف ، فظاهر أكثرها ـ مثل الرواية المعروفة الدالّة على أنّه بني الإسلام على خمس(1) ، ومن جملتها الولاية ، وأنّه لم يناد أحد بشيء ما نودي بالولاية(2) ـ أنَّ عمل غير القائل بالولاية حيث لا يكون بدلالة الوالي لا يكون من حيث الصحّة مورداً للاطمئنان ; لعدم أخذه علم الأحكام من العالم بها المطّلع عليها ، ولا دلالة له على البطلان مع الموافقة التامّة والاجتماع لشرائط الصّحة ; لأجل عدم الاعتقاد بالولاية .
- (1) تقدمت في ص 329 .
(2) وسائل الشيعة : 1 / 18 ، أبواب مقدّمة العبادات ب 1 ح 10 .
(الصفحة 340)
هذا ، ومع ذلك كلّه لا يبعد القول ببطلان عبادة الكافر وإن كانت مشتملة على نيّة القربة ; لتماميّة بعض الوجوه المذكورة ، فتدبّر .
وأمّا الوقف والصدقة والعتق، فقد ذكر صاحب العناوين أنّ بعض من اعتبر قصد القربة فيها منع من صحّتها من الكافر(1) ، وجماعة منهم قالوا بصحّتها ، منهم: الشهيد (رحمه الله) في اللمعة ; فإنّه مع اشتراطه القربة في العتق قال : والأقرب صحّة العتق من الكافر(2) ، وخلافهم في هذه الثلاثة مع اتّفاقهم على بطلان سائر العبادات منه :
إمّا من جهة أنّ الدليل دلّ في هذه الاُمور على اعتبار إرادة وجه الله تعالى ، وهي ممكن من الكافر كما في الخبر : أنّه «لا عتق إلاّ ما اُريد به وجه الله تعالى»(3) . وليس كذلك سائر العبادات ، وقد علّل بذلك الشهيد الثاني (رحمه الله) (4) .
وإمّا من جهة تركّب هذه الثلاثة من جهة ماليّة وجهة عبادة ، ويرجّح من ذلك جانب الماليّة .
وإمّا من جهة أنّ هذه كلّها إخراج عن الملك ، وملك الكافر أضعف من ملك المسلم ، فهو أولى بالفكّ .
وإمّا من جهة أنّ الكافر ليس بمالك في الحقيقة ، وإنّما هو صورة ملك لبقاء النّظم ، فإذا أخرجه ودفعه خرج عن ملكه وإن لم يترتّب عليه الآثار من الثواب ونحوه .
ثمّ قال : والتحقيق أنّ هذه الثلاثة أيضاً ليست صحيحة من جهة كونها عبادة ، ولذلك لا ثواب فيه . نعم ، هي صحيحة من جهة كونها معاملة وفكّ ملك ، غاية ما
- (1) السرائر : 3 / 20 ، شرائع الإسلام : 3 / 107 ، تحرير الأحكام : 4 / 189 ، قواعد الأحكام : 3 / 198 و 199 .
(2) اللمعة الدمشقية : 133 ، الخلاف : 6 / 371 مسألة 12 ، المبسوط : 6 / 70 ـ 71 .
(3) الكافي : 6 / 178 ح 1 ، الفقيه : 3 / 68 ح 228 ، تهذيب الأحكام : 8 / 217 ح 772 ، وعنها وسائل الشيعة : 23 / 14 ، كتاب العتق ب 4 ح 1 .
(4) الروضة البهية : 6 / 243 .
(الصفحة 341)
هناك أنّه يرد أنّ هاتين الجهتين مرتبطتان لاتنفكّ إحداهما عن الاُخرى ، ولذلك لو لم ينو المسلم القربة لم يصحّ عتقه أصلا .
ونجيب عن ذلك بأنّ الكافر والمخالف يُلزم بمعتقده ; فإنّ اعتقاده فيه الصحّة ، وهذا المقدار يصير حجّة عليه في الخروج عن الملك ، ويدخل في عموم «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»(1)(2) .
أقول : على تقدير القول ببطلان عبادة الكافر لابدّ من الالتزام بالبطلان في هذه الثلاثة أيضاً ; إذ لم يقم دليل على الصحة فيها حتى يوجّه بما ذكر ، وقاعدة الإلزام على تقدير جريانها في الكافر ـ مع أنّ موردها المخالف ـ تقتضي الحكم بصحّة سائر عباداته أيضاً ، إلاّ أن يقال بالفرق بينها وبين مثل الصلاة ، فتدبّر .
هذا تمام الكلام في قاعدة اشتراك الكفّار مع المؤمنين في التكليف .
12 ذي الحجّة الحرام 1408
- (1) تقدم في 167 ـ 168 .
(2) العناوين : 2 / 722 .