(الصفحة 350)
أداء المثل أو القيمة عقيبه ، وخلاصة الإشكال : أنّه إذا لم تكن الأحكام الوضعية مستقلّة بالجعل ، بل كانت منتزعة عن التكاليف ومتفرّعة عليها ، فاللازم الالتزام بعدم ثبوتها في الصبي ; لعدم ثبوت التكليف في حقّه ، فإذا لم يكن الصبيّ مكلّفاً بلزوم أداء المثل أو القيمة عقيب الإتلاف ; لأنّه حكم تكليفيّ وهو غير ثابت في حقّه ، فكيف يكون إتلافه سبباً للضمان ، مع أنّ الضمان منتزع عن التكليف على ما هو المفروض؟
بل يمكن توسعة دائرة الإشكال بناءً على القول المشهور من استقلال الأحكام الوضعية في الجعل كالأحكام التكليفية أيضاً(1) ; نظراً إلى أنّ اعتبار الأحكام الوضعية وجعلها ـ سواء كان جعلا تأسيسيّاً ، أو امضائياً لما عليه العقلاء والعرف ـ إنّما هو بلحاظ الأحكام التكليفية المترتّبة عليها ، وإلاّ يصير لغواً بلا فائدة ; فإنّ اعتبار الزوجية بين الرجل والمرأة إنّما يصحّ إذا كانت موضوعة لأثر ; مثل جواز النظر والاستمتاع والوطء ، وكذا الملكية في باب البيع ومثله ، وكذا الضمان في باب الإتلاف مثلا ; فإنّ الحكم بثبوت الضمان فيما إذا أتلف مال الغير إنّما لا يكون لغواً إذا كان الضمان موضوعاً لوجوب أداء المثل أو القيمة ، وبدونه يكون لغواً غير ملائم للصدور عن العاقل ، فضلا عن الشارع الحكيم .
وحينئذ إذا فرض في مورد عدم ثبوت الحكم التكليفي كما في الصبي الذي هو مفروض البحث ، فكيف يصحّ جعل الحكم الوضعي ولو قيل باستقلاله في الجعل والاعتبار؟
وقد اُجيب عن الإشكال ـ مضافاً إلى النقض بالنائم الذي لا شبهة في ضمانه في
- (1) تمهيد القواعد : 37 ، الوافية : 202، زبدة الاُصول : 62 ، الفوائد الحائرية : 95 ، هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين : 1 / 58 ، فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 125 ، القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 4 / 177 .
(الصفحة 351)
مثل الإتلاف ـ بوجهين :
أحدهما : أنّ ثمرة جعل الحكم الوضعي في الصبي هو وجوب تفريغ ذمّته على الوليّ ، ولا مانع من أن يكون فعل الصبي موضوعاً للحكم التكليفي الإلزامي على شخص آخر ، كما مرّ في الرواية الواردة في جنايته العمدية الدالّة على أنّ عمد الصبي خطأ ، والدّية تحملها العاقلة ، وفي المقام لا مانع من أن يكون إتلافه سبباً لضمانه ، وأثر الضمان وجوب أداء المثل أو القيمة من مال الصبي على الوليّ .
ثانيهما : أنّ ثمرته ثبوت الحكم التكليفي عليه بعد بلوغه ، مضافاً إلى أنّ من أحكام الضمان جواز الإبراء وهو ثابت قبل البلوغ . ودعوى أنّه لِمَ لا يجعل إتلافه سبباً لضمانه بعد البلوغ بحيث كان الحكم الوضعي ثابتاً بعد البلوغ أيضاً؟ مدفوعة ـ مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر الدليل ; حيث إنّ مقتضاه ترتّب الضمان بمجرّد الإتلاف لا الفصل بينهما ـ بأنّ لازم ذلك كون السببية مجعولة لفعل الصبي ، والسببية أيضاً من الأحكام الوضعية ، فما الفرق بينها وبين الضمان؟ فتدبر .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا تمامية القاعدة ثبوتاً وإثباتاً .
الجهة الثانية : في بيان المراد من القاعدة ; وهو ـ كما ظهر ممّا تقدّم في الجهة الاُولى ـ الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية باختصاص الاُولى بالبالغين ، وشمول الثانية لغير البالغين أيضاً ، فكما أنّ إتلاف البالغ لمال الغير موجب لضمانه له ، كذلك إتلاف الصبيّ غير البالغ ولو كان فاقداً للتمييز والشعور ، كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا هناك أنّ المراد بالأحكام الوضعية الثابتة لغير البالغين أيضاً هي الأحكام الوضعية التي لم يؤخذ في موضوعها القصد والالتفات ، كالإتلاف والحيازة والغصب والجنابة وسائر الأحداث .
وأمّا ما اُخذ في موضوعها القصد كالإنشاء في باب المعاملات والعقود والايقاعات كالبيع والعتق والطلاق ، فلا تكون ثابتة في حق الصبي ; لما ورد من أنّ
(الصفحة 352)
«عمده خطأ»(1) وقصده كلا قصد ، فلا تترتّب الزوجية على العقد الصادر من الصبي ، وكذا الملكية على انشائه للبيع ، وكذا الفراق على انشائه للطلاق ، وهكذا ، فالمراد من الأحكام الوضعية التي هي محلّ البحث في المقام غير هذا النحو من الأحكام .
الجهة الثالثة : في موارد تطبيق القاعدة ، وهي كثيرة منتشرة في أبواب الفقه ; لما عرفت من كون المراد عموم الأحكام الوضعية من ناحية ، وخصوصها من جهة اختصاصها بما لم يؤخذ في موضوعها عنوان القصد والإتلاف ، وعليه فمواردها مثل الجنابة الحاصلة له بغيبوبة الحشفة في أحد الفرجين ، والحدث الحاصل له من أسبابه كالبول والغائط والنوم والريح ، والضمان الحاصل في مورد إتلاف مال الغير أو غصبه ، أو الإضرار بطريق المسلمين أو مثلها . والملكية الحاصلة له بسبب الحيازة أو الإحياء ، والدية الثابتة عليه بالإتيان بموجبها المذكور في كتاب الديات ، وغير ذلك من الموارد المجعول فيها حكم وضعيّ مع الشرط المذكور . والمناقشة في بعضها ـ كما ربما يتراءى في بعض الكلمات ـ إنّما هي لأجل المناقشة في ثبوته بالنسبة إلى البالغ أيضاً ، لا لاجل المناقشة في خصوص الصبيّ كما لا يخفى .
هذا تمام الكلام في قاعدة عدم شرطية البلوغ في الأحكام الوضعية .
15 ذي الحجّة الحرام 1408 هـ .
- (1) وسائل الشيعة : 29 / 400 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 11 ح 2 و 3 .