(الصفحة 361)
ويظهر الجواب عن دليل هذا القول بما سنذكره من أدلّة القول بالمشروعيّة الأصليّة ، فنقول :
أمّا ما يدلّ عليها فاُمور متعدّدة :
أحدها : ما دلّ من العمومات في الكتاب والسّنة على ترتّب الثواب على الأفعال ، كقوله تعالى : {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(1) وقوله (عليه السلام) : من صام يوم كذا فله من الأجر كذا وكذا(2) ; فإنّ سياقها مثل سياق «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ، فكما أنّ الثاني لا يختصّ بالبالغ ; لما عرفت من عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ(3) ، كذلك لا ينبغي دعوى اختصاص الأوّل بالبالغ ، ودعوى الانصراف ممنوعة ، وعلى تقديره لا فرق بين المقامين كما هو ظاهر .
ثانيها : عموم الأدلّة الواردة في التكاليف الشامل للصبي أيضاً ، ولا مجال لادّعاء الانصراف فيها أصلا ، والقدر المسلّم ثبوت التخصيص بالإضافة إلى الأحكام الوجوبيّة والتحريميّة ، من جهة عدم ثبوت إلزام من ناحية الشارع على الصبي غير البالغ . وأمّا ثبوت التخصيص في أدلّة سائر الأحكام فغير حاصل ، وفي أدلّة الحكمين أيضاً بالإضافة إلى المشروعيّة والرجحان زائدة على اللزوم .
وأمّا حديث «رفع القلم» ، فإن اُخذ بمقتضى ظاهره فاللازم الحكم بعدم ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّ الصبي أيضاً ; لأنّ القلم المرفوع أعمّ من قلم الحكم التكليفي والحكم الوضعي ; لأنّ الضمان في مورد الإتلاف مثلا مجعول كالوجوب في مورد الصلاة ، ولا مجال لدعوى التخصيص فيه ; لعدم ملاءمة سياقه للتخصيص أصلا .
- (1) سورة الأنعام 6 : 160 .
(2) وسائل الشيعة : 10 / 471 ، كتاب الصوم ، أبواب الصوم المندوب ب 26 .
(3) في ص 345 ـ 352 .
(الصفحة 362)
فاللازم أن يقال بأنّ المرفوع في الحديث هو قلم المؤاخذة والعقوبة الاُخروية أو الدنيوية أيضاً ، كما مرّ في العبارة المتقدّمة عن الشيخ (قدس سره) (1) ، ولازمه عدم ثبوت التكليف اللزومي في حقّه ، وعدم ترتّب استحقاق العقوبة على ترك الواجب وفعل الحرام ، فيقتصر في تخصيص عمومات أدلّة التكاليف على هذا المقدار .
ودعوى أنّ لازم ذلك عدم تحقّق التخصيص في أدلّة المستحبات والمكروهات فقط . وأمّا أدلّة الواجبات والمحرّمات ، فبعد عروض التخصيص لها لا محالة كيف يستكشف مشروعيّة عبادة الصبي ـ مثل الصلاة ورجحانها ـ حتى يحكم بصحّتها؟ لأنّ الدليل الكاشف هو تعلّق الأمر بها ، وبعد انحصار دائرة الأمر بالبالغ ليس هنا ما يكشف عن رجحانها بالإضافة إلى الصبي .
وبعبارة اُخرى : مدّعى القائل بالمشروعيّة كون الواجبات في حقّ البالغين مستحبات في حقّ غير البالغين ، وكون المحرّمات في حقّ الطائفة الاُولى مكروهات في حقّ الطائفة الثانية ، وحينئذ يسأل عنهم : أنّه مع تخصيص أدلّة الواجبات والمحرّمات بحديث «رفع القلم» لا يبقى ما يدلّ على استحباب الاُولى وكراهة الثانية ; لأنّ الدليل كان منحصراً بدليل الواجب والمحرّم ، والمفروض عروض التخصيص لهما ، فمن أين يستكشف رجحان الواجب واستحبابه وحزازة الحرام وكراهته بالإضافة إلى الصّبي؟
نعم ، أدلّة المستحبات والمكروهات حيث لم يعرض لها التخصيص كما هو المفروض ، تكون باقية بحالها .
مدفوعة بما قيل أو يمكن أن يقال في جوابها من اُمور متعدّدة :
الأوّل : أنّ مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب ; لحكم العقل بلزوم إطاعته ، إلاّ أن يأذن المولى في الترك ، والإذن في الترك كما يحصل بالتصريح
(الصفحة 363)
به كذلك يحصل بعناوين اُخر ، مثل رفع العسر والحرج ، ورفع قلم الإلزام ، فحديث «رفع القلم» بمنزلة الإذن في ترك الواجبات ، فقهراً يكون مفاد الأدلّة الأوّلية في حقّ الصبي بعد ورود الإذن في الترك بلسان «رفع القلم» هو الاستحباب ; فهو لا يرفع الخطاب الوجوبي من رأس ، بل يأذن في الترك ، فيتحقق الاستحباب لا محالة .
الثاني : أنّه لا مانع مع الشك من الرجوع إلى استصحاب بقاء الرجحان الذي كان متحقّقاً في ضمن الوجوب ، وشك في بقائه مع ارتفاع الوجوب قطعاً ، ولا يرد عليه أنّ إثبات الاستحباب الذي هو فرد من القدر الجامع باستصحاب بقاء القدر الجامع يكون مثبتاً ، وهو لا يجري على ما هو التحقيق من عدم جريان الاُصول المثبتة ; وذلك لأنّه لا حاجة إلى إثبات الاستحباب بعنوانه ، بل يكفي بقاء القدر الجامع في المشروعية والرّجحان الموجبة لصحّة العبادة .
هذا ، ولكن هذين الجوابين لا يمكن أن يكونا موردين لنظر المشهور القائل بمشروعية عبادة الصبي ; لكون الجواب الثاني مبنيّاً على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، ولم يعلم ذهاب المشهور إلى جريانه ، كما أنّ الجواب الأوّل مخالف لظاهرهم قطعاً ، فإنّهم يقولون بانقسام الطلب في نفسه إلى قسمين : وجوبيّ واستحبابي ، كما أنّهم يقولون بدلالة هيئة «إفعل» في نفسها على الوجوب ، لا أنّ الوجوب مستفاد من حكم العقل وأنّ الاستحباب مستفاد من الإذن في الترك ، فلابدّ من الجواب على طبق نظر المشهور .
والظاهر أن يقال : إنّه بناءً على ما ذكرنا في معنى حديث «رفع القلم» من كون المرفوع قلم المؤاخذة والعقوبة ـ ومرجعه إلى عدم استحقاق العقوبة على ترك الواجب وفعل الحرام ـ لابدّ وأن يقال بثبوت التكليف في حقّ الصبي مطلقاً ، ولكنّه لا يترتّب على المخالفة مؤاخذة وعقوبة ، فتصرّف الحديث في الأدلّة العامّة ليس
(الصفحة 364)
كتصرّف المخصّص في العام ، حيث يوجب قصر مفاده ولو في عالم الإرادة الجدّية على غير مورد الخاصّ ، فإنّ المقام ليس من هذا القبيل ، بل الحديث يخصّص لازم التكليف لا نفسه ، واستلزام تخصيص اللازم لتخصيص الملزوم ممنوع ; لأنّ الملازمة غير دائميّة ، والتعبير عن العبادات الواجبة بالاستحبابية في حقّ الصبي ، إنّما هو بلحاظ عدم ترتّب ما يترقّب من الوجوب على مخالفته ; لعدم استلزامها لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة بوجه ، إلاّ أن يقال :
إنّ الحديث المتضمّن للرفع في مقام التشريع لا يكاد يرفع المؤاخذة أو استحقاقها أصلا ، فتدبّر .
وهذا الذي ذكرنا من المشروعية لا يمنع عن قيام الدليل على البطلان في بعض المقامات ، مثل ما ورد من عدم إجزاء حجّ الصبي المستطيع عن حجّة الإسلام(1) ، مع أنّ عدم الإجزاء لا يلازم البطلان ، كما لا يخفى .
وبهذا يتحقق الفرق بين المقام وبين قاعدة نفي الحرج ، حيث اخترنا فيها بطلان العبادة الحرجية ، ووجه الفرق أنّ لسان قاعدة نفي الحرج لسان نفي الجعل رأساً ، ومع عدم الجعل لا مجال للحكم بصحّة العبادة الحرجية ، ولسان المقام لسان رفع قلم المؤاخذة والعقوبة ، لا رفع قلم الجعل والتكليف ، فتدبّر .
ثالثها : أنّ العقل مستقلّ بحسن بعض الأفعال كالإحسان ، وردّ الأمانة إلى مالكها ، وحفظ النفس المحترمة من الهلاك ، وغير ذلك من المستقلاّت العقلية ، ولا ريب عند العقل في استحقاق الثواب وترتّب الجزاء عليها ، من دون فرق بين البالغ والصبي ، خصوصاً إذا كان مراهقاً ، وقد بقي مقدار شهر أو يوم أو ساعة إلى بلوغه
- (1) الكافي : 4 / 278 ح 18 ، الفقيه : 2 / 267 ح 1298 ، تهذيب الأحكام : 5 / 6 ح 15 ، الاستبصار : 2 / 141 ح 459 ، وعنها وسائل الشيعة : 11 / 45 ـ 46 ، كتاب الحج ، أبواب وجوبه وشرائطه ب 13 ح 1 و 2 ، وفي روضة المتقين : 5 / 42 عن الفقيه .
(الصفحة 365)
الشرعي ، ولا مجال لعروض التخصيص لما يستقلّ به العقل .
وعليه : فاللاّزم بقاعدة الملازمة استحباب هذه الاُمور شرعاً ، وترتّب ثواب الاستحباب عليها ، وبعدم القول بالفصل بين المستقلاّت العقلية وغيرها يتمّ المطلوب ويثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضاً .
ويرد عليه : أنّ لازم ذلك الالتزام باستحقاق العقوبة فيما يستقلّ العقل بقبحه ، كالظلم ومنع المالك عن وديعته ، وقتل النفس المحترمة ، وغير ذلك من المستقلات العقلية ، والظاهر أنّه لا يلتزم به المستدلّ بوجه ; لأنّ الصبي لا يؤاخذ بشيء من ذلك أصلا من جهة الشرع ، كما لا يخفى .
رابعها : الاعتبار العقلي ; فإنّه من المستبعد جدّاً أن يكون هناك فرق بين ما قبل البلوغ بساعة وما بعده ; فإنّ المراهق المقارب للبلوغ جدّاً ، لا ريب في أنّه بمكان من الإخلاص والعبودية لله تعالى كما بعد البلوغ ، بل في الحالة الاُولى ربّما يكون أشدّ من الحالة الثانية ، فيبعد كونه مأجوراً على الثانية دون الاُولى .
ويرد عليه : أنّ ذلك مجرّد استبعاد لا يكاد يصلح لأن يكون دليلا ، ويجري هذا الاستبعاد في جميع التقديرات الشرعية ; فإنّه من البعيد أن يكون الماء أقلّ من الكرّ بمقدار قليل ، ومع ذلك لا يترتّب عليه شيء من آثار الماء الكرّ أصلا ، أو يصلّي الإنسان قبل الوقت عمداً بلحظة يدخل الوقت بعدها ، ومع ذلك تكون صلاته باطلة ، وهكذا سائر التقديرات .
خامسها : أنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ، كما قد حقّق في الاُصول .
والجواب عنه : ما مرّ في الجهة الاُولى في تشريح القول الثاني من الأقوال الموجودة في المسألة ولا نعيد .
وهنا وجوهُ آخر ترجع إلى بعض الوجوه المذكورة ، أو استحسانات غير صالحة لأن تكون مدركاً ودليلا ، وقد انقدح تماميّة الوجهين الأوّلين للاستدلال